عبد علي حسن - من (دفتر اسطنبول).. السفر / التحول المكاني للجسد -رؤية فينومولوجية-

"هنالك بون شاسع وملحوظ مابين السفر والترحال . وبقدر هذا الفارق هنالك تماثل قريب.
فكلاهما يتضمن انتقال للجسد عبر الزمان والمكان .اي انتقال من مكان الى اخر . وهو تماثل ظاهراتي . الا ان مايتأسس على هذا الانتقال هو العلاقة الجوانية التي تؤكد صلة الجسد بالمكان القديم والجديد المتحقق عبر السفر والترحال . فالسفر انتقال من المكان الاول / بلد المنشأ/ في حين يشكل الترحال انتقال انتقال مكاني ليس بالضرورة ان تكون نقطة الانطلاق هي المكان الاول / المنشأ/ اذ يتضمن الترحال انتقال من مكان الى اخر .حتى خارج منطقة مكان المنشأ ..هذا ما اشار اليه المعنى اللغوي في المصنفات والمعاجم اللغوية. لذا فان السفر قد يتضمن ارتحالات متعددة لاحقة.فضلا عن ان الارتحال قد يتضمن معنى مجازيا .اي ارتحال داخل الذهن ..وهنالك امثلة عديدة لذلك . لقد ادركت هذه العلاقة المعقدة بعد سفري من مكان المنشأ الى بلاد اخرى. عدت المكان الثاني الذي شهد ارتحالات اخرى الى امكنة اخرى .
(في اللحظة التي فارقت فيها عجلات الطائرة اسفلت المدرج مرتفعة باتجاه السماء شعرت كاني شجرة اجتثت من تربتها .وبدون ان ادري التفت الى الوراء كمن يودع حبيبا)
ارى ان الانتقال من مكان المنشأ -- ساسميه المكان الاول -- سيعول عليه كثيرا في تحديد صلة الجسد بالمكان وحيثيات ارتباط هذا الجسد بما تم تكريسه من منظومات اجتماعية وفكرية وعاطفية عبر عقود من الزمان بدءا منذ الولادة وحتى لحظة الافتراق . بدأ هذا الشعور يجتاحني منذ ليلة السفر التي كنت أهييء ذاكرتي لاستقبال ذاكرة جديدة تتشكل عبر مكان وزمان جديدين . هل هذا يعني انفصال بين ذاكرتين ؟ ادركت فيما بعد ان الذاكرتين متحاورتان . الاولى راكزة ومكونة والثانية مؤقتة ومتحولة سيعيشها الجسد لاحقا .
(كانت الحقائب اكثر مني شوقا لاعتلاء موجة جديدة .. ومابين الارض والسماء كانت تفاصيل الذاكرة الاولى قد بدأت بالشحوب -- لعل اختيارية السفر كانت الدافع وراء الاستعداد لاستقبال الذاكرة الجديدة -- وذاكرة اخرى تجاورها تبدأ من منطقة منزوعة الارتقاب مابين الارض والسماء.. تتهيأ لبداية ذاكرة جديدة يكون فيها الجسد محض وسيط بين ذاكرتين..الاولى تشحب والثانية تتضح شيئا فشيئا عبر الاقتراب من اعالي البنايات الشاهقة لاسطنبول ..وزرقة البحر الممتد على مرمى البصر)
اذن هو انتقال للجسد عبر الزمكان اهتم به الظاهراتيون بعد المكان الجديد منزلا يغتني بذاكرة جديدة تتمأسس وفق علاقة جديدة لاتلغي ولاتحل محل العلاقة بالمكان الاول . واحيانا تحفز هذه الذاكرة باتجاه الاحساس بالفقد وان كان مؤقتا .. لذا فهي الفة لمكان جديد ونزل جديد ..كما اشار البيت العربي القديم لذلك:-
كم منزل في الارض يألفه الفتى
وحنينه ابدا لاول منزل
لذا فان تعددية (المنازل) التي ينزلها الجسد عبر الزمكان هي الفة لمكان جديد ..الا ان الحنين والانشداد يبقى للمكان الاول ..لماذا ؟
هنا تتدخل وجهة نظر الظاهراتيين لتفسير ذلك بعد المكان حيزا فيزيقيا قبل التشكل العلائقي بينه وبين الجسد عبر الاقامة ..فالاقامة هنا علاقة خارجية داخلية تتحكم في مألوفيتها وعدائيتها طبيعة العلاقة بين الانسان والمكان ومايتعرض له نتيجة علاقته بالمكونات الاخرى في البنية الاجتماعية ..فضلا عن الذاكرة المتكونة عبر تلك العلائق والتي اسهمت في تكون ملامح شخصيته الفكرية والاجتماعية والنفسية .التي شكلت فيما بعد منظومات قارة في شخصيته .
اجمالا . قد نقع في المقارنة اثناء مدة السفر الا انها ليست حاسمة في محو المكان الاول وتقبل المكان الثاني لبديهية الفوارق البيئية والاجتماعية.اذ ان المكان الجديد يلح في تقبل مزاياه بعدها مزايا جديدة مضافة ستشكل فيما بعد جزءا من الذاكرة الكلية . ومن المنظومة المعرفية والجمالية على حد سواء .
(كنت اسمع ضجيج البحر من خلال الشعر والسرد الا اني ونحن نمر في مضيق البسفور عبر بحر مرمرة اشعر باني جزءا منه..وضجيجه يؤنس اذني ..فالنوارس المحلقة فوقنا لاتفارق النظر الى ايدينا وهي ترمي بالفتات لتلتقطها معلنة عن امتنانها الذي يفتح صفحة الفة جديدة كنت اتمناها .والهواء البارد الذي يلامس وجهي ينعش طفلا في جوانحي تعود الجدران الملتصقة بعضها ببعض..ولاسبيل الى رؤية تماهي الماء والسماء )
في كل مساء وحين عودتنا من الترحال بين المنازل لا انسى يدي وهي تلوح باتجاه من احببت في ذاكرة مكاني الاول.

عبد علي حسن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى