فاروق مصطفى - جان دمو: الهابط من موته السعيد

This entry is part of a series of entries "جان دمو"
يجيء الصباح وينتشر دبيبه الضاج الغاسل الطريق النازل إلى كركوك، يتمطى (جان) في منعسه الأليف، ينهض، يتعثر بكتبه الملقاة على الأرضية الباردة ومن (عرفة) حيث منطقة سكناه ينداح الطريق إلى قلب المدينة مرورا بتلةِ (تعليم تبة) التلة التي يلقي من فوقها الشعراء مراثيهم الطائرة.

أزهار (الخُباز) الشاطئة أعناقها تسري دغدغات في سيقانها، هذه الأزهار التي تغزو سفوحها مع قدمة كل ربيع.

(جان) يرسل قبلاته إليها، ويخاطب أحجارها وقبورها وأشجارها: “لا بأس أن أكون حاسر الرأس “ ثم يهبط الطريق المؤدي إلى الشوارع الرئيسة الغاصة بالمقاهي التي تنتظره والأرصفة التي تحنُ إلى مغازلاتِ قدميه المغبرتين، ومن غير (جان) يمنح شغفه الأبدي وحميميته الوالهة لأسمائها، وها هي كركوك تنتظر ما يقول شاعرها الجوال الصعلوك، المدينة تهطل وإيقاع الحياة الداب في الأسواق والمدجج بضوعات الظهيرة هو الأخر يتموسق بضوضاء المارة والأغاني الصاعدة من أجهزة المذياع والات التسجيل، انه يدندن ببعض الألحان التي تريق ماء قلبه، ولا يرى (جان) ألا وقد تأبط كتبه الخوالد وهي معه في حله وترحاله وصحبه الشعراء ينتظرونه وينتظرون كلماته المتسكعة برذاذات شتائمه وهبات تعليقاته الحادة، والاهم من ذلك تقويماته للكتب التي يقرؤها الأصدقاء ويتداولون قراءاتها في ما بينهم، التقويم الذي يخرج من لسانه يكون عندهم ثمينا ووزنه من العيار الثقيل وهو المتمرد الذي يحاول أن ينظّر مبادئ التمرد يحلم بقلب دعائم الأدب وإقامته ثانية على أسس جديدة غير مألوفة ومخضبة بأحلامه الحافية والثائرة على سلاسل العقل، ويعلن كل يوم انه بصدد كتابته نصه الجديد الذي سيكون بمثابة فاتحة للشعر الحديث ويطغى على كل ما عداه، وتمر الأيام وتتمدد الجلسات من مقهى إلى أخر وتطول الصعلكات وتتسكع معهم خيالاتهم وأحلامهم وآمالهم وتداعب أقدامهم أغبرة الأرصفة التعبى وإلقاء أجسادهم داخل صالات السينما وتركها تنضج في كنف ظلمتها الناعسة إلى استرخاءات الكسل وعسل التهويمات الحالمة، انه لا يتخلى عن مشروع حلمه الكبير وبأن قصيدته الجديدة قادمة لا ريب في ذلك وليست إلا أيام وتحسون بللها على جبهاتكم وهذا مبتدأ الغيث وأول الخصوبة والإيناع، وبين مقاهي كركوك المستنيمة أصابعها إلى بذخ النسيان وسينماتها التي يلذُ للصحب الاسترخاء والنعاس في عوالمها ومباهجها الجوانية تتوالد حكايات (جان) من دواخلها لتتواطن مع الأماكن الكر****ة السعيدة، والمقاهي مواطن صالحة يتساكنون معها ويتركون على طاولاتها كتبهم وفي زواياها مروياتهم ومع أباريق شايها تتحبر أوراقهم، و(جان) وحكاياته هي زهرتها، صعلكاته فاكهتها وكل هذه المقاهي تحتل أماكن دافئة فوق رفوف الذاكرة تطرق جدرانها لتخرج تلك المرويات النائمة. وعن المقاهي يقول الشاعر اللبناني (انسي الحاج): “ المقاهي أحلى مظاهر الحضارة، أرقى ما وصلت إليه صناعة الكسل” وصحيح أن انسي يتحدث عن مقاهي بيروت وليس ثمة من وشيجة بين مقاهينا ومقاهيهم ومع ذلك كانت مقاهي كركوك إبان الستينيات زوايا صالحة الإنارة وزوايا حسنة الإشراق، تجلس فيها وتحلم بأشجار العالم ومن العشق ونساء المطر والقصائد التي تنادم حافات الطرقات، هي وسينماتها الشتوية والصيفية أخذت على عاتقها صنع ثقافة المباهج الكر****ة وثقافة الحلم والتجواب في عوالم كان الصحب يستشفون قدومها مع مجيء مراكب الجزر البعيدة المحملة بأزهارها الغريبة وفواكهها النادرة وضوعاتها الجديدة.

ترك جان عبر هذه العوالم حكايات تُروى وتتناسل ومن بقي من أصدقائه من تلك الأيام يلتذون بروايتها وإطعامها بخبز القلب وسقيها من انتشاءات الروح وبالرغم انهم يقتربون حثيثا من أعمارهم السبعينية مع ذلك الشاعر الجوال يتصعلك في رؤوسهم ويتسكع على تلال أجسادهم، فهو يهبط في موسمه الشعري يجوب شوارع المدينة ويحتسي الشاي على قوارعها نخبَ قصائده القادمات.

في مقهى (المجيدية) استوحش الأصدقاء غيابه عدة أيام ولم يدروا انه اختار الاعتكاف في المنزل وحبّذ أن يرقد على أوراقه علها تطلع له قصيدته العتيدة التي تهز أركان الأدب وتقوض كل دعائم منجزاته القديمة فاختاروا احد الأيام أن يذهبوا إليه ويتفقدوا حاله وكان فيهم المعلم والموظف والكاسب والطالب الجامعي، عندما طرقوا باب داره واطل عليهم والده سألوه عن أخبار ابنه، لقد بهت الرجل واسقط في يده وتحير كل هؤلاء الأفندية جاؤوا ليسألوا عن ابنه العاطل الذي كان قد يئس من انتصائحه وعودته إلى جادة الصواب وكتبه المدرسية فكر ثانية ربما هؤلاء اخطؤوا في العنوان وفكر ثالثة بان ابنه يحمل كل هذه الأهمية وهو جاهلٌ بها فأراد أن يعيد التفكير في مواقفه منه. وفي مقهى (جليل) الذي سمي فيما بعد بـ (العاصفة) الواقع خلف عمارة (أبي حنيفة) اعتاد بعض من أصدقائنا اليساريين أن يأتوا إليه ويجلسوا إلى طاولاته وأيديهم تتداولُ من تحتها نشراتهم السرية ونقلها إلى أخرين أراد جان أن يعاونهم فعرض عليهم مساعدته ونقل شيء منها وتوزيعها في أحياء أخرى فرحبوا بالفكرة لثقتهم فيه وكانوا يبحثون عن عنصر جديد بعيد عن أعين الشرطة وغير مشبوه فحمّلوه بعضا من هذه النشرات على أن يصعد بها إلى (القلعة). عندما رجع بعد ساعتين كان فمه يقذف الشتائم ولسانه يسيل بالبذاءات، ولعابه المزبد يتطاير مع توزيعه المسبات يمنة ويسرة ولم يتجرأ احدٌ أن يسأله ما الذي حصل له وأدى إلى ثورانه حتى يكون بمنجى من سبابه المقذع وشتائمه الدبقة.

ادخل بعض الصحب في المقهى عينه في روع جان بأنه يشبه الكاتب الانكليزي (كولن ولسن) صاحب اللامنتمي إذا تزيى بزي قريب من ملبسه، في اليوم التالي اطل علينا وقد اعتمر غطاء رأس ولبس معطفا منسوجا من الجوخ ووضع على عينيه نظارات طبية وعندما سئل كيف حصل على كل هذه الثياب ؟ أجاب انه أتى بها من سوق الملابس القديمة وأضاف انه يشبه ألان الكاتب الانكليزي (كولن) وانه قرر السفر إلى بلاد فارس ولكن لم نفهم ما علاقة صاحب اللامنتمي بإيران وما سر انفجار هذا الحنين في أعماقه إلى تلك البلاد ولكنه لم يشد الرحال إليها بل سافر فجأة إلى لبنان وذاعت صعلكاته وفاحت تسكعاته من بين موائد مقاهي بيروت.

ومن النوادر التي حفظتها الذاكرة المضنكة: حضر (جان) إلى مقهى (احمد أغا) الجديد بمنطقة الماس وبعد أن شرب ما طلبه وأراد أن يغادر المكان تحسس جيوبه فوجدها خاويةً فماذا يصنع؟ وليس من جليس صاحب يلتجئ إليه. توجه نحو سياج حديقة المقهى وأراد أن يقفز من فوقه ولكن المرحوم (احمد أغا) صاحب المقهى أبصره ورام أن يتعرف حكاية هذا الزبون العجيب الذي بدلا من أن يغادر من الباب ينطلق من فوق السياج فناداه وقال له

- لماذا تغادر من هناك ألا ترى الباب أمامك؟- قال جان أنني مفلس ولا املك حق المشروب الذي تناولته. فما كان من صاحب المقهى إلا أن مد يده إلى الدُرج الذي أمامه واخرج منه ربع دينار وقدمه له
- شايك على حساب المحل وهذا المال لمصروف جيبك.

لقد اثبت الرجل كرم محتده وسخاء طبعه وحبه وإكرامه لغريبي الأطوار من زبائن مقهاه.

وها هو الشاعر الجواب يتسرسح في طرقات كركوك منتشياً بتوهجات الظهيرة والأصوات المدحرجة على حافات الأرصفة يتأمل المقاهي يضمخها بأتواقه وأنفاس انبهاره ويوزع أوراقه المحبرة بنبضات قيلولة التمساح التي أحبها وعندما يجد مصطبة مستلقية على نهر كركوك يأوي إلى ظلها وهو يفهرس تجواباته التعبى ويهتف بألم “ صاحب الفندق طردني لأنني سطوت على البرتقال “ وعندما يلمحه صحبه وهو متعتعٌ ومنسطلٌ في حمى انتشاءاته وقد خطَّ فصول (أسماله) هل وقع على الجواب الذي طالما بحث عن مفاتيحه تحت طاولات المقاهي وموائد الحانات وخلف شاشات السينما وداخل استرخاءات صعلكاته النهارية وخارج نعاسات تسكعاته الليلية يجيبهم وتبدو على وجهه علامات القدوم من مسافات نائية:
“لن نغامر بالجواب
لأنه لا جواب هناك”.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى