عبدالرحيم التدلاوي - عودة إلى إضمامة "الوجه والأثر" للمصطفى سكم، في قراءة أخرى..**

"حطت على شرفة روحي إضمامة "الوجه والأثر" للصديق العزيز، المصطفى سكم، قادمة من عرائش الفرح إلى رباط المركز والدائرة. فبعد مجموعته الأولى "ذات العوالم الممكنة" التي ضمت بين جوارحها القصة القصيرة والقصيرة جدا، نجد الإضمامة الحالية قد انتصرت كليا للقصة القصيرة جدا، بيد أن ما يلاحظ أنها رامت خلق دفق دماء جديدة في جسد القص الوجيز بجعل النصوص منفتحة على بعضها وكأنها نص واحد، ما يعزز هذا الطرح هو الغياب الكلي للفهرس؛ هكذا نجد لدي بعض المبدعين محاولات تجديد تروم النأي بالقصة عن التكرار والاجترار المولدين للرتابة، والمنتجين للنفور، فالكتابة الجادة تسعى دوما إلى خلق الدهشة والمتعة بتوليد الكتابة المغايرة، لا التي تسير على خط واحد لا تحيد عنه. كأنه خط مقدس يستوجب احترامه. فإذا كان سعيد السوقايلي في مجموعته ثنيرفانا" قد تعمد عدم وسم نصوصه بعناوين بل طبعها بأرقام مؤكدا بذلك انتماء كل النصوص إلى العنوان المظلة مشيرا بذلك إلى أنها نصوص ذات نفس واحد، بتلوينات متعددة، فإن المصطفى قد سعى إلى خلق نصوص مترابطة لا كالتي تعتمد على بضع نصوص وتسمى العنقودية، بل هي نص واحد بعناوين داخلية متنوعة، عناوين تشبه محطات لاسترجاع الأنفاس قبل مواصلة الرحلة، وتدخل المحاولتان إضافة إلى محاولات حسن البقالي الذي يطعم نصوصه بالعلوم التجريبية والحقة؛ ومنها الفيزياء، ضمن مسار التجريب والتحديث؛ والبين أن نصوص الإضمامة مختلفة الأحجام والمقاييس؛ إذ نجد الثخينة من دون تشحيم مبالغ فيه، بل تطويل مطلوب حيث كل كلمة وضعت في مكانها المناسب، بحيث إن نزع واحدة قد يهدد البناء بالسقوط، ونجد النحيفة التي رامت التخسيس الشديد، ونجد القصيرة جدا التي تتقلص وتصغر لتصبح شذرة. مما يؤكد التنويع الجميل، والمولد للرغبة في متابعة ومواصلة الاكتشاف باعتماد مغامرة القراءة، وقراءة المغامرة.
ولعل أهم وظيفة سعت إليها القصص هي الوظيفة المتمثلة في محاربة كل أشكال الظلم والاستبداد والقهر والتجبر، واحتقار الإنسان بكم فمه، والتغييب القسري للصوت المعارض، إما بإغرائه ورشوته، وإما باعتقاله، وإما بتهجيره."
لابد من الإشارة إلى أن قصص العمل تحتمل قراءات متعددة وهي تراود الواقع عن نفسه ليبوح بما يختزنه من تناقضات وعنف وتفاوت واستغلال، من مثل قصة "الراقد" ص60 والتي تشغل تيمة الراقد المثيرة للجدل رغم تهاوي طرحها، نجد النص يشغل مجموعة من الأفعال المرتبطة بجماعة غير محددة المعالم تشي باختلافها حول القضية المطروحة، وهي الإجهاض لكون ما في بطن المرأة مشكوك فيه، بيد أنها وحين نظرت إلى المرآة أسر لها جسدها بالإبقاء على ما تحمله في أحشائها، فهي صاحبة الشأن، وهي التي تقرر وتختار، وليس من حق الجماعة أن تتخذ جسدها ملكية عمومية يكون مستقبله مرهونا بالجماعة الذكرية. جماعة تسلب المرأة حريتها وشرفها وقرارها واختياراتها الخاصة.
وقد تكون المرة رمزا للوطن وهو بين أيدي لصوص يريدون اقتسام ما في باطنه من ثروات...
والملاحظ أن هذه القصة جاءت على شكل قصيدة نثر، وتسير بسرعة بفعل توالي الأفعال وصولا إلى نهاية معبرة عن الإرادة في الاختيار، وحرية تقرير المصير.
أما قصة "مرض وراثي" ص 80، فتشير إلى مناهضة المجتمع للحب من خلال إشعال النار في غابة قلبي المحبين. وهو فعل يعبر عن مرض مزمن لم يوجد له علاج، كون المجتمع لا يرغب في انتعاش قلوب الناس بماء الحب، بل يريد بعفة زائفة الحفاظ على الشرف بعزل الرجل عن المرأة: يقول:
حفر عميقا اسمها في القلب على جذع
منذئذ..
لم تسلم غابتهما من لهب النار وفؤوس الحطابين
ولم يضع السارد نقطة النهاية بل ترك القصة مفتوحة على كل الاحتمالات.
وهو ما يؤكد أن تشغيل علامات الترقيم في المجموعة ليس اعتباطيا بل تحكمه ضوابط فنية ودلالية، كما في قصة "شيطان" ص5 التي أنهاها السارد بنقطة عند كلمة "القضاء" فاصلا إياها عن القدر. وما ذاك إلا ليعبر عن القضاء كمصدر مفتوح الدلالة، من دون قدر ملزم، وواجب التنفيذ.
وإذا كانت علاقة الحب وما ينتج عنها من ثمار قضية فردية لا يراها المجتمع بعين الرضا بل يتدخل لإجهاضها قبلا وبعدا، فإن قصة "تلقح" ص8 تطرح قضية زيف الحب على طاولة النقد، إذ كيف لقطرة رحيق مندس أن ينجب؟ لذا، تنتهي القصة بالعقم. مؤكدة بذلك رفض كل علاقة مخادعة سواء أكان من طرف الرجل أم من طرف المرأة؛ فالحب قيمة سامية لا ينبغي أن تلوث بأي شكل من الأشكال.
وارتباطا بذات الموضوع، تقدم قصة "أرض" ص94 صورة للقصة متعددة الأبعاد، فقد تكون المرأة هي المقصودة ببكاء الرجل، وقد يكون الوطن، وقد يكون غيرهما، المهم، إن العلاقة بين الطرفين هي علاقة حب، تعمل الأمطار على إحياء الذاكرة التي تشعر الرجل بالألم.
أما موضوع الاستغلال، فنجده في قصة "حريم" ص92 التي ترصد تعب العاملات في الحقول إلى حد الاستنزاف من دون الحصول على أجر يسمح لهن بالاستمتاع بمباهج الحياة. وكأن القصة تستحضر عاملات الفراولة في الحقول الاسبانية..
وتفرد المجموعة مجالا للحديث عن الفن والأدب، وتطرح انشغالاتهما، من مثل قصة "سينما المؤلف" ص76، التي تتحدث عن كاتب سيناريو يعيش حلما جميلا ويلسعه الواقع بغير ما ينتظر، فجملة : استفاق بلسعة برد الشباك القارس.. تشي بالفشل لا النجاح.
هنا، نجد رصدا للمعاناة التي تنتج الخيبة، فبدل الحصول على الإثابة يحصل على عقاب مر.
أما قصة "نملة بورصة القيم" ص18 فهي تناص وقصة الصرار والنملة، لكن القصة هنا تعطي صورة أخرى لمفهوم عمل النملة، كونها لا تنتج سوى فائض قيمة للأسياد. وتنهي بإقفال البورصة على كساد القيم.
ومن الملاح حضور الظل بشكل لافت في مجموعة من القصص، ولن أتطرق لمفهومه ولا لأبعاده، ولكن سألامس حضوره من خلال قصتين، لإبراز دلالتهما كما تبدت لي أثناء القراءة. والقصتان هما: "تلمظ" ص6 و"قصيرة جدا" ص55.
ففي القصة الأولى يلوح ظل رغم انعدام وضوحه إلا أن الشخصية الأنثوية شعرت بأنه لرجل، لكنه رجل من دون ملامح، أي مطلق رجل، مما يعني رغبتها الثاوية في أعماقها لرجل يملأ حياتها، ويشبع رغباتها بدليل حضوره على شفتيها وتلمظها له؛ هي التي تعيش حالة قحولة ومرارة.
فالظل يعبر عن رغبة المرأة في رجل أي رجل من دون تحديد ولا شروط ولا مواصفات.
وفي القصة الثانية نجد السارد يتحدث عن نفسه في علاقته بالقصة القصيرة جدا التي بعد أن تشكلت وتشخصنت صارت بغير حاجة لمبدعها الذي أدرك الإشارة فقدم لها ظله؛ أي صورته لا شخصه.
تبقى إضمامة "الوجه والأثر" للمصطفى سكم، مغرية بمقاربات كثيرة ودراسات متعددة لسبر أغوارها، واستخراج ثرواتها الباطنية والظاهرية على حد سواء.




1650912697057.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى