عبدالرحيم التدلاوي - المفارقة في المجموعة القصصية "مدام فينيس" للقاص عبد الكريم الكتاني.

عن العنوان والتجنيس:
تحمل مجموعة المبدع عبد الكريم الكتاني العنوان التالي: "مدام فينيس" وهو عنوان كما هو ظاهر مكون من صفة ترتبط بالحالة الاجتماعية والاسم الشخصي، وهما معا أجنبيان، لا ينتميان للسجل العربي. وحين تبحث في عناوين القصص المشكلة لها، فلن تعثر إلا على قصة واحدة تحمل الاسم الشخصي مسقطة الصفة الدالة على الحالة الاجتماعية، ليطرح السؤال: لم تم ذلك؟ ثم لم تم اختيار هذا العنوان الأجنبي في صيغته النسوية؟
إذا تصفحنا القصة التي تحمل عنوان "فينيس" سنجد أنها ذات نكهة ساخرة، وسخريتها لا تتبدى إلا في نهايتها، مما يعني أن الناص ترك التنوير الساخر حتى النهاية، مما يشي أن سخريته لا تتأتى من الصفة الاجتماعية بل من الخرجة النصية. وبالتالي فتلك الصفة لن تقدم جديدا، بخلاف لو تم تركها ولكن من دون نص، فستثير الاستغراب والسؤال. لهذا نجد العنوان حين حافظ على الصفة كان يهدف إلى خلق توتر لدى القارئ، وفي الوقت نفسه سخرية لن تأخذ كل أبعادها إلا بعد قراءة القصة ذات الارتباط. لذا، فهو بحاجة إليها لخلق المفارقة الباعثة على الضحك. أي أن من دونها لن تتحقق المفارقة. لكن، لابد من القول إن القصة هي العنصر الذي سيولد السخرية ويمنح الذات القارئة فرصة القبض عليها.
وحين نقرأ التجنيس ونسافر في أجواء النصوص بالبصر أولا، سنتساءل: هل العقدة المبرمة مع القارئ تم احترامها؟
يمكن القول إن أغلب القصص المكونة للعمل محترمة لجنس القصة القصيرة جدا من حيث الحجم وباقي المكونات الداخلية كالتكثيف اللغوي عبر الحذف والإضمار، والإشارة، والرمز؛ بخلاف بعضها وبخاصة تلك التي أتت في بداية العمل، فهي تدخل ضمن الأقصوصة لاعتمادها الوصف والإطالة والجمل التفسيرية. لكن ذلك لا يخرج العمل من مجال القص الوجيز، رغم ذلك الخرق الطفيف.
أما من حيث الموضوعات المثارة في العمل، فنجدها ترتبط بالكتابة ومعاناتها، وبالعلاقة بين الرجل والمرأة؛ حبا وتوترا وانسجاما، ورغبة تجمع بين الواقعي والافتراضي من خلال المواقع الاجتماعية وبخاصة الفيسبوك...
المفارقة:
والمفارقة كما يعرفها عبد الوهاب الجبوري هي:
تصوير لتناقض ظاهري، وهي الخاتمة المحيرة التي تبدو في الوهلة الأولى غير مقبولة.. والمفارقات تظهر في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، إلا أنها تناقض بشكل أو آخر الحقيقة. ، والمفارقة هي أسلوب بلاغي يُخفي المعنى الحقيقي في تضاد، أو سخرية مع المعنى الظاهري، أي أنها تقوم بشكل أساسي على التضاد بين المفاهيم الظاهرية والمعاني الباطنية. وهي عمل فكري يخلق ذبذبات التوتر في القصة مما يجعلها تضحك بمأساتها، وقد تبكي بسخريته، وتعتبر المفارقة جوهرة في بنية القصة القصيرة جدا لأنها تعكس وظيفة القصة النهائية حيث نصل إلى صورة النص الحقيقية عن طريق اللذة والدهشة. والمفارقة ليست تنميقا ولعبا بالمصطلحات.، بل هي رؤية جوهرية يجسدها الكاتب لغة بأسلوب المفارقة عن طريق التفاعل مع الأحداث . وتنقسم المفارقة إلى ثلاثة أقسام :
1 . المفارقة اللفظية :
وهي التي يكون فيها المعنى واضحا لا يشوبه الغموض، كما يجب أن يتميز بالدلالات المؤثرة، ويكون المعنى الظاهري والباطني في مواجهة مباشرة
2. المفارقة التركيبية :
تعتمد هذه المفارقة على الانزياح الدلالي باستعمال الفنتازيا الساخرة في الحوار، أو السخرية، والاستفهام البلاغي، والتعجب الذي يحمل بين طياته حالة نفيه ، والاستعارة التنافرية، والمبالغة المعكوسة...
3 . مفارقة الحدث :
إذا كان في المفارقة اللفظية المعنى الظاهري والباطني في مواجهة مباشرة ،؛فإن مفارقة الحدث تخفي طرفي المفارقة داخل بنية القصة ، مما يجعل القارئ يلجأ إلى التأويل أو الاستنباط عن طريق دراسة وتحليل القصة، أو ربطها بالتناص ، وتنقسم مفارقة الحدث إلى ثلاثة أقسام:
أ . مفارقة الحدث : وهي أسلوب يعتمده الكاتب لإيهام القارئ بعدم وجود حدث تبنى عليه القصة.
ب . مفارقة الشخصية : وهي أسلوب يعتمده الكاتب لإيهام القارئ بعدم وجود شخصية يُبنى عليها الحدث.
ج . مفارقة الزمكان : وهي أسلوب يعتمده الكـــاتب لإيهام القارئ بعدم وجود زمكنة تدور فيهما الأحداث .
فالمفارقة هي ببساطة إذن صورة تجمع بين فكرتين مختلفتين الأولى ظاهرة مباشرة ( النص المكتوب ) و الثانية مختفية خلف الحروف ( الفكرة أو الصورة البعيدة) بشرط أن يربط بين الفكرتين وجه شبه تشير إليه قرائن دالة من النص المكتوب .
تعتمد المجموعة في بناء نصوصها على المفارقة البانية والعميقة، كما في قصة "انغلاق" ص97، إذ تظهر في التعارض بين صفات الشخصية منذ صغرها، والنهاية التي آلت إليها. فالتفوق سار باتجاه الحمق لا باتجاه النجاح، ولم يكن الوسيط سوى الصديقة التي تعرفت عليها حديثا. ويأتي العنوان مفسرا السبب، فرغم أنه يشكل واجهة القصة إلا أنه مفتاح إدراك المخفي؛ فالشخصية كانت منغلقة بسبب انكبابها بالدراسة، ولم تنفتح على الحياة إلا بفضل صديقتها التي قادتها في دروبها مكتشفة، لتصدم بما ضيعته نتيجة غياب التوازن.
لكن قراءة أخرى تطل مفسرة سبب هذه المفارقة، إذ يمكن الجمع بين الانفتاح الغربي والانغلاق الشرقي. فيمكن أن يكون الحمق بسبب كيد ساحر.
وفي قصة "انتفاء" ص99 تظهر المفارقة بين السكر والصحو. بين الرغبة في الثمالة وبين الرغبة في ألا يستيقظ في رمضان فيجد نفسه صاحيا.
وفي قصة "انقلاب" ص93 تبرز المفارقة بين الغزل والرثاء بفعل اشتعال الحرب.
أما في قصة "تقاطع" ص71، فتقوم المفارقة من التعارض بين حركتي شخصيتي النص؛ إقبال وإدبار، اقتراب وابتعاد، وهو تعارض يشي بغياب التواصل.
ونجد قصة "بروفايل" ص31 تصنع مفارقتها من خلال إقامة التعارض بين الواقعي والافتراضي من خلال شخصية الصديقة الفيسبوكية التي قدمت صورة عن نفسها تناقض بشكل قاطع صورتها الواقعية التي جفل منها صديقها وهي تقف أمامه بكل خبوها.
وتأتي بعض المفارقات كنوع من التنوير خاصة حين تتربع على القفلة ومتوجة القصة بحس فكاهي لاسع، كما في قصة "فينيس" ص19، إذ ظل الغموض محيطا بشخصية "فينيس" ولم تتضح معالمها إلا في النهاية لنعرف أن الحديث عن كلبة مدللة، وأن كل ذلك الاهتمام الذي حظيت به في بداية القصة من لدن محماد وفضول القارئ لا يرتبط بامرأة بل بحيوان أليف.
أما في قصة "بيت القصيد" ص65، فسخرية المفارقة نابع من اكتشاف السارد سر اهتمام الجمهور بالشاعرة وتصفيقه لها، وفي الوقت نفسه اكتشاف غبائه وصاحبه. ويكم السر لا في القصيدة التي تعلو نباراتها وحسها الجمالي، بل في ارتفاع التنورة الكاشفة، والتي كانت تتصاعد مع تصاعد حرارة التصفيق إلى درجة يمكن تخيل قدرة الشاعرة على الاندماج مع الجو الساخن فتبدي كل شيء.
في القصة مفارقة مضاعفة، تمكن في التعارض بين غباء السارد وفطنة الجمهور، وبين حماس الشاعرة وكشف جسدها.
لم تكن الشاعرة ذات قيمة بشعرها بل بجسدها الذي فتن الجموع إلا السارد وصديقه الذين لم يكتشفا اللعبة إلا متأخرا.
من هنا، يمكن التأكيد على أن براعة كتابة القصة القصيرة جدا تتأتى من القدرة على التقاط المفارقات العميقة، وإعادة بنائها بشكل مدهش، أو من القدرة على صناعتها بشكل فني وجمالي.
وهذا ما قام به الناص بنجاح في كثير من قصصه التي أتت المفارقة فيها معبرة عن مقاصده، وعن رؤيته للواقع الناقدة للظواهر السلبية التي يعج بها وما تحمله من تناقضات، تشي بالتفكك والانحلال، وما يحبل به من صراع ومعاناة سواء في علاقة الناس في ما بينهم، أو في ما يتعلق بأمر الكتابة.
والبين أن اصطياد المفارقة ليس بغرض صنع الابتسامة أو الضحك فقط، بل لمراجعة أفكارنا وسلوكاتنا، والسعي إلى الرقي بهما بغاية بناء جسم اجتماعي متناغم.
**
مدام فينيس، قصص قصيرة جدا، لعبد الكريم الكتاني، من منشورات دار أبي رقراق للطباعة والنشر. الطبعة الأولى سنة 2017.


1650960965800.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى