محمد عبد الغني حسن - بين الأدب والتاريخ: الرحلات العربية.. كيف بدأت ومتى دونت؟

الرحلة هي النقلة من مكان إلى آخر. وقد تكون فردية لا يحتاج الإنسان فيها إلا إلى راحلته وهمامة نفسه ومشدود رحله. وقد تكون جماعية يخرج فيها الجم الغفير من الناس لغرض من الأغراض أو باعث من البواعث
وأكثر الرحلات يأتي طوع الإرادة ووليد المشيئة من غير اضطرار ولا قسر. وبعضها يكون وليد ظروف طارئة أو مناسبات قاهرة، تخرج المرء أو الجماعة عن الموطن الأول، أو ترمي به بعيداً عن مراتع صباه وملاعب شبابه، إلى وادٍ سحيق، أو مطرح بعيد. . .
ومن الرحلات ما يغير أوضاع التاريخ ويفرض على العالم نظاماً جديداً، فيقرب بعيداً، أو يبعد قريباً، أو يصل بين شعب وشعب، أو يربط بين جنس وجنس، فتظهر لغات جديدة، وثقافات جديدة. ومن هذا النوع رحلة القحطانيين من الجنوب إلى الشمال؛ أو إذا شئت التدقيق من اليمن إلى الحجاز. وهي رحلة جماعية كبيرة، وسَّمها إذا شئت هجرة، وسمِّها إذا أردت انتقالاً. ولكنها على كل حال أخرجت القحطانيين من ديارهم ونشرتهم في أنحاء الجزيرة العربية وأخرجت منهم بطوناً كثيرة وقبائل كثيرة يعرفها كل من قرأ تاريخ الأدب
ولقد كانت هذه الرحلة بنت القهر ووليدة الاضطرار، وسببها أن سيل العرم فاض وبلغ الزبى فاكتسح السدود، ورمى بالحواجز، وغمر الأرض، وبُدِّل السبئيون حالاً بحال، فارتحلوا إلى الشمال - ولولا هذه الرحلة الجامعة ما قام المناذرة على حدود الفرس، ولا استقام ملك الغسانيين على حدود بلاد الروم
ومن سوء حظ التاريخ والأدب أنه لم يهتم بهذه الرحلة واحد من المهاجرين المشتركين فيها ولم يدون أبناءها ولم يصف مشاهدها وكل ما وصل إلينا منها أنباء قليلة بعضها من مصادر دينية، وبعضها يعتمد على الرواية والأخبار. ولو اهتم بها أحد ممن حثوا مطاياها أو شدوا رحالها لخرج لنا سفر عظيم من أسفار الرحلات الخالدة.
وبعض الرحلات أو الهجرات يكون ضرورياً لإكمال دعوة في أرض بعيدة غريبة، واجتناب أذى في دار قريبة حبيبة، ومن ذلك هجرة النبي محمد عليه السلام إلى المدينة بعد ما أوذي في مكة بين أهله وعشيرته مما هو مدون بالتفصيل في كتب السيرة الزكية
ولقد هاجر بعض المسلمين الأولين إلى الحبشة فراراً من الأذية، واستجابة لدعوة الجهاد - والحبشة بلاد كانت معروفة عند العرب وكان الاتصال بينها وبين الجزيرة قائماً إلا أن الإسلام زاده ووسعه. وكان في استطاعت بعض الراحلين أليها من المسلمين أن يدونوا رحلتهم ومشاهدها، إلا أنهم لم يفعلوا. ولعل مشاغل الجهاد ومتاعب الكفاح صرفتهم
والرحالة الذكي الفطن يستفيد دائماً من رحلته علماً وتجربة، ويكتسب منها فوائد، ويفتح عينيه دائماً على ما أمامه من مشاهد وما يلاقيه من معالم. فلا يدع شيئاً يمر من غير أن يقف على حقيقته، أو يكشف عن ماهيته، كما صنع بعض الرحالين من العرب الذين سنشير إليهم فيما بعد
وتزداد الرحلات بالطبع تبعاً لسهولة الاتصال بين المكان والمكان؛ فإن الاتصال هو الأداة الوحيدة لاستكمال الرحلة ونجاحها. ومن هذا نفهم قلة الرحلات وندورتها في الزمن القديم
وقد كان لقريش قبل الإسلام رحلتان عظيمتان: إحداهما إلى اليمن والأخرى إلى الشام. أشار إليهما القرآن الكريم في سورة خاصة من القصار. وكانتا تتعاوران في كل عام. وكان فيهما بالطبع ما في كل رحلة من لذة ومتعة واستجمام وطرائف ومشاهد. . . إلا أن ذلك كله لم يدون لمكان العرب من الأمية ومنزلتهم من البداوة. . . واكتفى أعضاء هذه الرحلات - وسنسميهم رحالين تجاوزاً - بقص القصص وسرد الحديث وإطالة الأسمار كلما حطوا الرحال إلى مكان، أو أستقر بهم النوى في أي مستقر
ومن حكماء العرب وشعرائهم من جاب البلاد، وطاف كل مطاف، وأنهم وأنجد، وشرق وغرب؛ إلا أنه لم يسجل لرحلته تاريخاً ولم يضع لها ثبتاً، ولكنه مضى على السفر إلى غير غاية. . . اللهم إلا المتاع ورياضة النفس واستجمام الخاطر. وقليل منهم من سافر لحكمة يصطادها أو معرفة يقتنصها
ولقد طوف امرؤ القيس في الجزيرة فخرج من بني أسد، ومر على السموأل بن العاديا في حصنه، وذهب إلى اليمن؛ وشاهد الموج يصطخب في البحر ويتعالى لجة فوق لجة فشبه به الليل في قوله:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... على بأنواع الهموم ليبتلى
وأبعد في الرحلات والأسفار حتى وصل إلى بلاد الروم، ودخل أنقرة. ويقال أنه لقي قيصر وأتيح له من أسباب الرحلة ما لم يتح لغيره لغناه وشرفه ومكانه من السيادة في قومه، إلا أنه لم يدون هذه الرحلة في شعر طويل أو في نثر عريض، ولكنه أشار إليها في بعض قصائده
ولقد طاف أبو بصير الأعشى كذلك وأكثر من الرحلة، وظهر لذلك بعض الأثر في شعره، فقال:
قد جبت ما بين بانيقيا إلى عدن ... وطال في العجم تردادي وتسياري
وأدخل بعض ألفاظ أعجمية في شعره تظرفاً أو تعالماً كقوله:
وشاهدنا الجل والياسمي - ن والمسمعات بأقصابها
إلا أنه لم يصنع أكثر مما صنع أمرؤ القيس
وجاء الإسلام وفتح المسلمون بلاداً جديدة، ودخلوا أرضاً كثيرة لم يدخلوها، وصار إليهم ملك واسع يحتاج إلى سهر كثير لحفظه، ويحتاج إلى تعب كثير لضبطه. فعرفوا الكثير عن البلاد المفتوحة ودروبها وجوادها وجبالها وأنهارها وغلة أرضها ومتنوع ثمارها ليجمعوا الخراج على قدر ذلك وليفرضوا الأموال على نسبته. ولم تكن هذه المعرفة مبنية على علم دقيق أو بحث متين ولكنها كانت تميل إلى التقريب أكثر منها إلى التحديد
ثم كثرت الرحلات التجارية بين أجزاء المملكة الإسلامية - وهي تذكرنا برحلتي قريش في الشتاء والصيف - إلا أن هذه كانت بين أقطار بعيدة وكانت تحمل من عروض التجارة ألواناً عديدة
ولقد ساهم الشعراء في نوع جديد من الرحلات يلتمسون به المال ويطلبون العطاء من ممدوح يقصدونه، أو عظيم يندبونه، فيكون ذلك الاتصال سبباً في بروز الشعراء وتألق نجمهم. يخرج الواحد منهم من رمال البادية إلى معالم الحضر، أو يخرج من مدينة إلى مدينة، أو يرحل من قطر إلى قطر طلباً للجاه والشهرة؛ ولكن واحداً منهم لم يفكر في تدوين رحلة أو تسجيل مشاهدة، لأنه مشغول عن ذلك كله بالحاجة التي قام إليها وركب الأسفار من أجلها. . .
ولقد خرج (جرير) من بادية اليمامة إلى عاصمة الخلافة الأموية يقصد عبد الملك بن مروان ويقول لامرأته:
سأمتاح البحور فجنبيني ... أذاة اللوم وانتظري امتياحي
وخرج أبو نؤاس إلى مصر (راحلاً) يمدح الخصيب ويقول:
ذريني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير
وابن هانئ الأندلسي يخرج من الأندلس إلى شمالي أفريقية فيمدح الخليفة المعز ويرحل معه إلى مصر ويصف هذه الرحلة في بعض شعره
وإذا كانت هذه الرحلات الفردية وكثير غيرها قد أضافت بعض الثروة إلى الأدب إلى أنها لم تكن منتجة بالنسبة للرحلات والأسفار. فهي عقيمة كل العقم من هذه الناحية
ولم يبتدئ الاهتمام بالرحلات لذاتها وتدوينها في أسفار خاصة، وتقييد كل ملاحظات الرحالة عليها إلى في القرن الرابع الهجري - المقابل للعاشر الميلادي -
ومن المقدمين في هذا الباب المسعودي صاحب (مروج الذهب) وقد أولع بالأسفار وهو صغير، وخرج للسياحة ولم يسلخ العشرين من عمره. ويمتاز ببعض الدقة العلمية، وعدم التصديق لكل خرافة تذاع أو ذائعة تشيع. وعبارته في الكتابة قوية لا تميل إلى ضعف ولا تجنح إلى ركاكة
أما البيروني - وكان من رحالي القرن الرابع أيضاً - فقد ترك لنا كتابيه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) و (تاريخ الهند). ويعد كتابه الثاني أوفى مرجع عن بلاد الهند وأملأ كتب الأسفار تعريفاً بها
ولقد ظهر في هذا القرن أيضاً رحالة عظيم اختصه الأستاذ أحمد أمين بمقال ممتع في الجزء الثاني من فيض الخاطر. وأسمه أبو عبد الله القدسي. وكتابه الذي وضع فيه قوانين الرحالين، وقواعد السفر، وشروط من يتصدى لشد الرحال اسمه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم). وقد رأيته عند صديقي المستشرق الهولندي (مستر ستريكر)، وكان يعتمد عليه في دراساته الجغرافية التاريخية
ويمتاز هذا الرحالة باستجماع عدة الجوّاب، واستكمال أدواته. فقد عمل كل ما يستطاع عمله لدرس حالة البلد الذي ينزل فيه. واتصل بالملوك، وخالط السوقة وعمل في أشرف الأعمال، وزاول أحقرها. ولقي في تأليف الرحلة وتدوينها عنتاً كثيراً ليكون كلامه عن صدق، وروايته عن تجربة، أو كما قال هو عن نفسه: (وإنما ذكرت هذا القدر ليعلم الناظر في كتابنا أننا لم نضعه جزافاً، ولا رتبناه مجازاً، فكم بين من قاسى هذه الأسباب وبين من صنف كتابه في الرفاهية ووضعه على السماع)
ومن الرحالين المشهورين ابن جبير الأندلسي وابن سعيد المغربي صاحب كتاب (المغرب)، وياقوت الرومي صاحب المعجمين المشهورين: (معجم الأدباء) في تراجم الرجال (ومعجم البلدان) في جغرافية البلاد
وفضل معجم البلدان على كتب الرحالين جميعاً أنه - كاسمه - معجم مرتب ترتيباً أبجدياً لكل بلد أو مكان أو قطر مشهور أو مغمور، أو أرض عامرة أو غامرة، أو مدينة صغيرة أو كبيرة. وطالما أسعف الأديب بطلبته في الكشف عن محلة، أو الاهتداء إلى موضع، أو تحقيق غوطة، أو معرفة واد، أو متابعة نهر في مجراه. ويتخلل ذلك كله شعر جميل، أو رواية واسعة، أو قصة طريفة، أو حادثة تاريخية، أو ذكر يوم من أيام العرب
ولقد أعتمد عليه من أتى بعده من الرحالين في تحقيق الأماكن، ومعرفة المواطن. ولابن بطوطة شهرة واسعة برحلته المعروفة. وتمتاز بما فيها من ذكر الكرامات واستطراد الحكايات، وتصديق الخرافات. . . ويظهر أن صاحبها كان حسن الاعتقاد سهل التصديق. والحق أنها ليست تَسْوي من الناحية الأدبية شيئاً بالقياس إلى الناحية الجغرافية؛ ومؤلفها من رحالي القرن الثامن الهجري، المقابل للرابع عشر الميلادي
ولقد سكنت ريح الرحلات حيناً في عصور الاستبداد المظلمة لقلة الأمن وصعوبة الرحلة. ويظهر أن سلسلة الرحلات العربية كانت باعثاً لرحلات الغربيين التي تمخضت عن كشف أستراليا وجزرها. وكشف العالم الجديد الذي يبلغ عمره الآن أربعة قرون ونصف القرن
وفي مفتتح القرن التاسع عشر عاد العرب إلى نشاطهم في الرحلات. وكان حظ مصر في هذا المضمار عظيماً؛ فظهر جماعة من الرحالين الذين أنتجوا كتباً قيمة في أدب الأسفار. منهم: رفاعة بك الطهطاوي، وعلي باشا مبارك، وأمين باشا فكري، والشيخ أحمد فارس الشدياق صاحب كتاب (الواسطة في أخبار مالطة) وهو ممتع لذيذ. ومحمد لبيب البتانوني بك صاحب (الرحلة الحجازية) و (رحلة الأندلس) وغيرهما. وأمين الريحاني زعيم الرحالين في العصر الحديث، وقد ماتوا جميعاً إلى رحمة الله
أما الأحياء فنذكر منهم المكتشف الرحالة أحمد حسنين باشا صاحب (في صحراء ليبيا)، والأمير شكيب أرسلان صاحب (الحلل السندسية)، والأساتذة: محمد ثابت، وجميل خانكي المحامي، وتوفيق حبيب، ونزيه مسعد الصحافيين. أطال الله حياتهم


محمد عبد الغني حسن



مجلة الرسالة - العدد 410 ← بتاريخ: 12 - 05 - 1941

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى