د. أحمد إبراهيم الباسوسي - الشاعر محمد الشحات الدرويش القابض على وعيه في الزمن الصعب: قراءة في ديوان رجل مسكون بالزرقة

التجربة الشعرية أو الابداعية عموما ليست مجرد اسقاطات لفظية يجيد صنعها أو حبكتها الشاعر أو الروائي نتيجة لاحتكاكه بواقعه، ويتمكن من خلالها من صياغة رؤية خاصة قادرة على الغوص في أعماق هذا الواقع وسبر غوره ثم اعادة تنظيم المنتج أو المحصلة، وتشكيله في ومضات شعرية أو حكائية أو تشكيلية توازي أو تعاكس أو تتجاوز ما هو واقع بما يتفق مع ما يدور داخل المبدع من صراعات داخلية نفسية واجتماعية، أو نبضات مشاعرية/مزاجية ومعرفية تعتمل داخله وتسيطر على أفكاره وقلمه فحسب. بل يمكن اعتبارها في المجمل طراز المبدع الفريد في استجابته لواقعه المعاش بما يتفق مع واقعه النفس/الاجتماعي. وبحسب فردينان دي سوسير في كتابه "علم اللغة العام" تحمل التجربة الشعرية قيمة نفسية وحدسية شاملة ومستقلة في حد ذاتها ( دي سوسير، فردينان ، علم اللغة العام ، ترجمة : د. يوئيل يوسف عزيز ، دار الكتب للطباعة والنشر ، الموصل ، ص .12 .1988 ويذكر موسى ربابعة ان التجربة الشعرية تتجلى على نحو عميق وشامل في اللغة الشعرية المعبرة عن هذه القيمة، واللغة الشعرية في نشاطها الجمالي الخلاق هي التي تؤسس الفعالية الشعرية في شكلها النهائي. وهو ما يقود الى تشكل الاسلوب الشعري الذي يعد الموازي الفني والجمالي للتجربة. اذ يتصل مفهوم البنية بتركيب النص المتعلق بشعريته. في حين يعمل الاسلوب على طريقة تشكل النسيج اللغوي المكتوب به حين يتحول من تشكل لغوي محض الى بناء جمالي نصي (ربابعة، د . موسى، جماليات األسلوب والتلقي ـ دراسات تطبيقية ـ، مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية والنشر والتوزيع، إربد، ط1 ،2000 ،ص 11) . وتجربة الشاعر محمد الشحاب في المجمل وفي ديوانه رجل مسكون بالزرقة الذي اصدره في اوائل العام (2021) تبدو متسقة مع شخصية الشاعر المتفردة في تكوينها النفسي /الاجتماعي. الشاعر محمد الشحات يستدفئ داخل عقده السادس ولد ونشأ في قرية الضهرية التابعة لمركز شبين بمحافظة الدقهلية ويحدها من الشرق نهر النيل، وترجع تسميتها بالضهرية الى الظاهر بيبرس مهندس معركة عين جالوت التي انتهت بقهر التتار عام 1260، وكان قبلها قد انتصر على الصليبيين في حملتهم على مصر عام 1224م، وظل يتعقبهم حتى فرع دمياط، ولما بلغوا تلك القرية (الضهرية) عسكروا فيها لتجميع الجيش لملاقاة الصليبيين لذلك سميت بالظاهرية، ومع مرور الزمن تم تحريف الأسم ليصبح قرية الضهرية. المكان حيث ولد الشاعر شهد حدثا تاريخيا عظيما شارك فيه اجداده في دفع الصليبيين الغزاة وطردهم من القرية ومن مصر كلها لذلك لايمكن التعجب من ان يرث الشاعر جينات جدوده في الصبر والجلد وروح الكفاح المتقده داخله على الدوام المنعكسة في مسار رحلته منذ خرج من قرية الضهرية التي قاتل فلاحوها مع الظاهر بيبرس الى جامعة القاهرة ليدرس اللغة العربية في كلية الآداب، ولازال صوت الشعر داخله يلح بقوة داخل رأسه منذ دخل مراحل الوعي المبكر بطفولته ويدفعه الى التأمل في مفردات ومعطيات واقعه قبل ان يتفجر ابداعا على استحياء في مراهقته، ذلك الأمر الذي اضطره من دون تردد ان يستهدف دراسة اللغة العربية في أعرق كليات جامعة القاهرة والجامعات المصرية قاطبة وهي كلية الآداب.​

في قاعات المحاضرات استلفت نظر استاتذته بمقدار نضجه الثقافي والفكري وملامحه التي بقدر ما تعكس من طيبة ونبل وسماحة تعكس أيضا ثقة وذكاء واصرار ووعي عميق النضج بالواقع والمستقبل. هناك أيضا في قاعات المحاضرات وفي ردهات الكلية ومكاتب الاساتذة تأكد من هويته كمثقف لابد ان يكون فاعلا في مجتمعه، وهويته كشاعر يجب ان تحلق كلماته في ذلك الفضاء العريض للوطن المترنح في جنبات الغموض والارتباك بين ما يبدو على السطح يقين يبعث على التفاؤل وما يبدو في دهاليز الواقع وخباياه التي يدركها المثقف والشاعر الواعي النبيل ما هو عبثي، وقاهر للحرية والفكر وينشر الاحباط. ما بين هذا وذاك خرج الشاعر النبيل المناضل للحياة المهنية مصوبا هدفه بدقة، ومتحفزا بروح جدوده وقوة ارادته في الرغبة في المساهمة في تغيير هذا الواقع المرتبك الذي يشيع الاحباط في المناخ العام لعل وعسى. تواصل مع الصحف وراسل الدوريات والمجلات المتخصصة في مصر والوطن العربي ناشرا شعره، ومشاركا في الملتقات الثقافية واكتملت الدائرة بصدور ديوانه الأول الدوران حول الرأس الفارغ في مطلع السبعينيات، قبل ان تبدأ مرحلة أخرى من نضاله الدؤب بين العمل الصحفي في مصر والخارج العربي. مع دوران عجلة تجربته الشعرية التي تواكبت مع احداث الداخل المتأجج بالعاطفة والمتوثب للانطلاق والتحرر، وقلقه وغموض الأوضاع من حوله ورغبته في البحث عن مرفأ يطمئن اليه. تميزت تجربته الشعرية حينئذ بالانشغال بذاته العميقة، وممازجة ذلك بما يعشه خلال واقعه الذي يكابده في شكل صور شعرية تعكس واقع الحال في ديوانيه "آخر ما تحويه الذاكرة"، وديوان "عندما تدخلين دمي". واستمرت عجلة تجربته الشعرية في الدوران مكتسبة المزيد والمزيد من الخبرات الحياتية والشعرية والنضج الذي بلغ درجة "الحكمة" بامتياز في تجربته الشعرية خلال ديوانه رجل مسكون بالزرقة ، الذي يحتوي على عدد (44) قصيدة شعرية تم هندستها أو نسجها لغويا وابداعيا على طريقة الشعر القصصي المتشبع بالدراما بقدر ما يحمل من فلسفة وحكمة وعظة وخبرات تغلغلت في تفاصيل الواقع المادي والفكري، وأيضا تفاصيل العقل الواعي والعقل غير الوعي للشاعر الراوي.

تمثل الشاعر الراوي، أو الراوي الشاعر دور الدرويش خلال رحلته في قصائد الديوان السبعة الأولى (رحلة/فرحة/سعادة/على غير هدى/دائرة النور/ذرات تراب/لحظة تطهر) خلالها عرج على قيم تتسق مع تركيبة شخصيته المرهفة الحس والمشاعر والتواقة للعطاء والائتناس بالاتصال المفتوح مع الله وشغفه في فرحة وسعادة واسعاد الآخرين، كما ان خلفية الشاعر الاسلامية وما استوعبته ذاكرته ووجدانه من آيات المصحف تظل حاضرة مؤنسة لوحشته وفي اتصاله الحي مع الآخرين. وسوف نعرض تقصيلا لهذه المجموعة من القصائد لما لها من أهمية في المرحلة الفكرية/ النضجية التي يمر بها الكاتب في الوقت الحالي وانعكاساتها في كتاباته الابداعية. وخلال بقية قصائد الديوان (37) قصيدة يمكن ان نستخلص ما يلي في المجمل بخصوص التجربة الشعرية.

اولا: توظيف اللغة الشعرية في التقاط صور أو احداث درامية حملت من الحكمة والعظات والمفارقات والدهشة بكفاءة وقدرة مميزة ما يكفي من رسائل واشارات اراد ابلاغها لمريديه وقرائه.

ثانيا: اتساع افق الخيال والتجريب لدرجة مدهشة كشفت عن المدى الكبير الذي بلغه الشاعر من النضج والتطور الديناميكي الحاصل في ادراك التفاصيل والمغامرة باعادة صياغتها في صور تبتعد عن المنطق العادي لكن تدعم بقوة السياق الفني للرؤية والحدث والرسالة المطلوبة.

ثالثا: الانشغال المطلق بهموم ومصاعب وتحديات الواقع الاجتماعي الصعب الذي يعيشه ملايين المصريين في الوقت الحالي ومعظمم الازمنة السابقة تقريبا، وربما يكون ذلك مدعاة لاستخدامه مفردات تقليدية قديمة وكأن الأمر بمثابة اسقاط مباشر على استمرار الأوضاع الاجتماعية المزرية رغم تعاقب السنين والقرون.

رابعا: الاعتماد على استخدام الصور الرمزية الايحائية والمعامرة بكفاءة لافتة في الولوج داخل عوالم عبثية وسيريالية اتساقا مع ما يجري في الواقع من أحداث أو تغيرات رغم التحفظ البادي على مستوى العقل الواعي، وكأن ولوجه باللغة والوجدان داخل هذه العوالم بمثابة هروب من القمع المفروض على ذاته بحكم النشأة الاجتماعية التقليدية التي عاشها.

خامسا: لاتزال عوالم الصوفية والدروشة تتحكم في النسق العام لتفكير ووجدان الشاعر بحكم تركيبة شخصيته المفروضة عليه منذ الميلاد (مبدأ الوراثة) وهذا الأمر يتجلى في الكثير من الصور الشعرية وكذلك العوالم الشعرية التي اختارته ان يلجها، وهذا أمر يؤكد المقدار الكبير لصدق الشاعر مع نفسه ومع قراءه، كما يؤكد مدى التزامه الانساني والابداعي واتساقه مع ذاته ومجتمعه.

وبمجرد القراءة التفصيلية للنص في المجمل تبدو عتبة النص دائما تتضح من عنوانه، لكنها تبدأ هنا في الاهداء، الى النفوس البشرية، كل النفوس البشرية. كرر الشاعر الأمر امعانا في تأكيد ندائه، وعاكسا مبلغ القلق وعدم الطمأنينة. وكأن روح الشاعر القلق المتوتر تلبسته في لحظة كتابة الاهداء. ثم يستمر في مصاحبة القلق والتوتر بتوجيه النداء أو الاهداء أو الدعوة الى عالم افلاطوني فاضل ننشده، يكون فيه الانسان انسانا، وقد نتخلص فيه من كل الشرور.

نتنبه من بداية عتبة النص اننا لسنا بصدد الولوج داخل اروقة شعرية تقليدية كما أشار العنوان الرئيسي للديوان"رجل مسكون بالزرقة" وهو بالمناسبة عنوان احدى قصائده التي جال خلالها الشاعر في شوارع الشعر والحكمة والفلسفة على طريقته في هذه المرحلة من النضج الفني الابداعي الشعري المتميز.

ان لقاء طبيب العيون ونصيحته لمريضه "الشاعر" بحتمية ازالة المياه الزرقاء من عينيه والا سوف يفقد الرؤية، وخشية الشاعر من دخول مشرط الطبيب عينيه وفضح سر زرقته الداخليه، أمر مثير للدهشة. اللغة الشعرية بسيطة للغاية، والسر أو المفارقة الشعرية هنا هي المحرك الدرامي لأحداث القصيدة يقول الشاعر:

لا أقدرُ أنْ أتخلَّصَ مِنْ زرقتِكِ

فكيفَ سَأصِفُّ البَحرَ

إذا ما غابتْ زُرقتُهُ

وكيف ستبدُو في الأفقِ سَمَائي

إذا ما ضاعَتْ زرقتُها؟!

وكيف سأصْحَبُكِ

ونبحرُ نحوَ غمَامٍ ؟!

مالَ إلىَ الزرقةِ

وعلى الرغم من زرقة مياه العين (مرض العين المعوق والمفضي الى العمى) يقابلها الشاعر بزرقته الداخلية المنعشة لحياته والتي يخشى الشاعر فقدانها، وهنا يهيم الشاعر في غياهب الرمز . هذا التضاد اللافت مصدر اساسي للصراع والالهام لدىه. اللون الأزرق ليس مجرد لون سطح البحر بهيبته وجلاله والهامه، وليس مجرد لون السماء والغمائم بجمالها وصفائها وخيالاته الملهمة، ان اللون الازرق هو لون الحياة، ان الانسياب الموسيقي الجميل للكلمات التي تعكس أهمية اللون الازرق لدى الشاعر حقق هدفه في التأكيد على توحد الشاعر مع اللون الأزق الذي هو مهدد بنزعه من عينيه، في هذا السياق استطاع الشاعر ان يقحمنا في صورة عبثية انسانية رومانسية صادقة وكاشفة لصدق مشاعره. ثم يضطر الشاعر الى الرضوخ لتعليمات الطبيب وقسوة الواقع لكن بشروط يقول :

حذرني طبيبي

فسمحتُ لهُ

أنْ يدخلَ في عيني

ويحاولُ أنْ يتركَ لِي

بعضَ الزرقةِ

وجهَ امرأةٍ كنتُ أخبئُها

وبقايا من ماءِ النَّهرِ التصقتْ

خِفت بأنْ أُخرجَهَا

ونساءٌ تسكنُها ؛ وتقيمُ بها

يطلب من الطبيب ان يترك بعض من الزرقة ووجهة حبيبته المختبأة داخله وبقايا ماء النهر ونساء تسكنها. هنا اعلان واضح من قبل الشاعر بان تلك المياه الزرقاء التي تسكن عينيه ليست مجرد عرض لمرض مهدد يفزعه بقدر ما تكون متعلقة بحياته التي يعيشها ويهلع من فقدانها. لكن على الأقل يمكن ان يفقد جزء منها لكي يستمر متعلقا بالحياة والجمال والحب. تلك هي حكمة الشاعر حيث تحولت مصادر التهديد الى مصادر انتعاش وبقاء. كأن الشاعر في هذا النص يسخر من المرض ومن الطبيب ويعلنه انه لايرى في المرض سوى زرقة الجمال والحب. ويستطرد قائلا:

فأوصيتُ طبيبي

أن يتركَ مَا قد يلقاهُ

عصافيرًا تَبْنِيْ بعضَ الأعشاشِ

وتأتي حين يهلُّ الليلُ لتسكنَها

وصغارًا رسموا

في بؤرة عينيَّ ملاعبَهم

يبدو الأمر بعد ان اتسعت الرؤية لدى الشاعر وهام في فضاءات الكون باعتباره شاعر ذي جناحين يطلب من طبيب العيون المكلف بازلة الماء الازرق من عينيه ان يحفظ أعشاش العصافير وملاعب الاطفال الصغار في بؤرة عينيه. صورة رمزية مؤثرة تجاوز جمالها حدود المنطق والابداع، لكن الأمر لم يينتهي بعد يقول الشاعر للطبيب حامل المشرط :

فإذا ما دقّقتُ

شعرتُ بأني

شيّدتُ بيوتاَ ومآذنَ

لو تحريت الدفة أكثر لوجدتني شيدت بيوتا ومآذن فحافظ عليها. يا الله كأنها عين الحياة المسكونة بالزرقة ثم يتساءل بحيرة محب جبل على الحب والعطاء يقول:

هل زدتُ

فلم تتحمَّلْ عيني

أم أن طريقي التبسَ عليّْ

سؤال مشروع موجه للطبيب حامل المشرط المتووثب لثقب عيناه، هل لم تعد عيناي تتحملان كل هذه الأثقال؟. لكن القصة تمضي نحو غير المبتغى، والطبيب ماض في عمله الروتيني يمزق في عيني الشاعر العاشق للناس والحياة يقول:

نزع الجراحُ بمشرطِه

كلَّ الزرقةِ

فشعرتُ بأنَّ عيوني

قد ضاقتْ

وبأني لن أتمكنَ

من رؤيةِ أحلامي

فجريتُ إلىَ البحرِ

جلستُ أحدِّقُ

في جُزُرِ الوحشةِ

وشرعتُ أُعاينُ

بدموع الدهشةِ

ما يتأرجحُ

من أمواجِ البحرِ الدامي

لكن لم أبصرْ زرقته

الطبيب لم يلتزم بالشروط، نزع كل الزرقة وحرم الشاعر من مباهج حياته لم يعد يبصر زرقة البحر الدامي . لكن لايزال هناك دهشة، ولا يزال هناك حكمة ولا تزال هناك حياة على الرغم من ذلك يقول الشاعر لحبيبته:

ورأيتك تختبئينَ

وحولَكِ بعضُ طيورِ النَّورسِ

فأطلتُ النظرَ إليكِ

فشعرتُ بأنَّ الزرقةَ

مازالت تسكنُ عينيَّ

حين دخلتُ إليْهَا

وسكنتُ بِهَا

فاحتَار طبِيبي

وأخبرنِي:

"إنك رجلٌ مسكونٌ بالزرقةِ

؛ فـاغْرُبْ عنِّي" .

الحب يصنع المعجزات على الرغم من انف الطبيب الذي لم يلتزم بالنصائح والطلبات، بمجرد ان رأى حبيبته عادت له زرقة عيناه وعادت له الحياة وعاد له الحب ولون البحر والسماء، لكن الطبيب لم يفهم كل ذلك لانه ليس شاعر مجرد جراح. وهكذا الحياة كما يدركها الشاعر في لونهها الأزرق سواء ضمخ هذا اللون عينيه أو قلبه أو روحه أو عالمه المحيط، سيظل مصدرا لحياته والهامه ونور عينه الحقيقي.

في قصيدة رحلة التي افتتح بها الشاعر ديوانه يفيض قلق الدرويش /الشاعر على مئذنة المسجد المهددة بالسقوط، يقول:

وكثيرا مَا كانَ يحُسُّ بضيقٍ

حينَ تُحاصِرُه أعينهم

وهو يراقبُ مئذنةَ المسجدِ

ويمزقُه همسٌ " هذا مَخبولٌ

يخشىَ أنْ تَسْقُطَ

مئذنةُ المسجدِ ؛ فيراقبُها"

واذا كانت المئذنة ترمز الى الوطن ،وشياطين الانس هم اولئك غير المكترثين فاقدي البصيرة فيما يحاك ضد الوطن، بل ويطالبونه ان يكون مثلهم لامبالي، لكنه ثابت على حاله وموقفه في قلقه ووعيه بما يحاك للوطن لكي يسقط. الكلمات تنساب بعذوبة وسلاسة، يبين بين طياتها قلق الشاعر على وطنه، وقلقه من اولئك الغافلين ممن حوله. القصيدة رصد مبدع وجاد لواقع يبعث على القلق بالفعل، ويعكس مدى الفوضى التي تحتاج ربوع الوطن وتلقي بظلالها على مشاعر الشاعر أو الدرويش المسكين الذي مات وهو قابض على وعيه واخلاصه للوطن وللناس يقول

وأحَسَّ بنورٍ ظلَّ يُراقبَه، قدْ غَطَّاه

وخافَ أن ينظرَ ناحيةَ الجَسدِ

فيجذبُه

وبصوتٍ لا يعرفُه

ماتَ الدرويشُ

وهوَ يراقبُ

مئذنةَ المسجدِ

مخافةَ أنْ تسقطَ .

في قصيدتيه فرحة وسعادة يواجه الدرويش موقفين احدهما مع الحمام الذي يحط على سور المسجد، واهتمامه بتوفير الحبوب ليأكلها، والموقف التالي في قصيدة سعادة يتعلق بذلك الدرويش الذي اشبع جوعه طفل منحه نصف وجبته، ورجل منحه بضعة قروش، وفي غمره شبعه المادي نسى المرأة الفقيرة التي كان يستند الى جدار بيتها والطفل الذي منحه نصف وجبته. لكن حينما هبطت عليه ثروة تذكر هذه الأمور، دلف نحو المرأة الفقيرة وافاض عليها مما رزق. نحن بصدد صور شعرية قصصية تعكس واقع اجتماعي صعب كاشف لصعوبات يواجهها الناس في هذه الآونة، وعلاقات سواء بين الدرويش والناس، أو بين الدرويش والطيور. بقى ملحوظة خاصة بقصيدة سعادة يقول الشاعر :

لم تسعفْهُ الذاكِرَةُ

لكى ينسىَ طفلاً

والمفترض ان "يتذكر طفلا" قدم له نصف وجبته بدلا من ان ينسى.

في قصيدة "على غير هدى" يستمر الايقاع الشعري القصصي والصور النمطية التقليدية القديمة للفقراء المتحلقين دوما حول المسجد، وذلك الدرويش المعطاء والمؤثر على نفسه للحيوانات والبشر. الصورة على الرغم من رمزيتها تظل كاشفة عن وضع اجتماعي مطلوب التعامل معه على الفور، لكن تظل مفردات يستخدمها الشاعر كثيرا لم تعد صالحة في هذا الزمان على الرغم من ارتباطها بازمنة الدراويش القديمة على شاكلة " كسرة الخبز" التي ينتظرها الفقراء حول المسجد دائما. هذا المشهد تغيرت صورته النمطية، ولم يعد الفقراء يتنظرون كسرات الخبز على ابواب المساجد، بل ينتظرون العطايا بالمال ذلك الشيء الوحيد الذي يرضيهم. لكن يبدو ان العقل الباطن لدى الشاعر هو الذي يحفزه وكأنه يبلغ رسالة فحواها ان لاشيء تغير منذ مئات السنين في حياة المصريين الفقراء، واتفق معه في سياق هذا التفسير.

قصيدة دائرة النور تمضي في ايقاع مختلف لناسك أو صوفي يراقب سلوك البشر وفي حلقه غصة لمسالكهم المنحرفة وأكلهم لحوم بعض!. يقول :

كان يحزُّ بداخلِهِ

ما وصَلَ إليه البَشَرُ

هلْ يمكنُ أنْ تأكلَ

لحمَ أخيكَ؟

فالناسُ أجادوا

طهيَ لحومِ البشرِ

وقتلَ مشاعرِهم كيما يعلون

الصوت مرتفع هذه المرة، كأنها صرخة منفلتة في محاولة لاصلاح النظام الاخلاقي الذي تدنى لدى الناس، وصراع داخله لا يتوقف، لكن هذا الصراع ينتهي حين يتخلص من شهوات الجسد ويغلق باب الدنيا خلفه يقول :

تركَ الدُّنْيَا

خلفَ البابِ وأغلقه

حاولَ أنْ يتخلَّصَ مِنْهَا

نظفَ داخِلَه

وسعىَ سعيًا أسعدَه

أحسَّ بشكشكةِ أصابعَه

حين تلألأ نورُ كتابِ اللهِ

شعر بأن أصابعَه قد ذابت

طلبَ بأن تنساه الناسُ

وتتركَه

وتمثل قصيدة ذرات التراب لوحة شعرية تشكيلة ابدع فيها الشاعر بامتياز، هذا الدرويش أو الصوفي بانت له تهويمات العشق والنور فولج نحوها مثل فراشة اجتذبها الضوء يقول :

أمسكَ بظلالٍ

كانتْ تعبُرُه لتكسُوَه

واتَّكَأَ

ليتلوَ بعضًا من آياتِ الذكْرِ

اغرورقتِ العينانِ

أحسَّ برعَشَاتٍ

ورأى أشياءً لمْ يعهدْها

دقَّ على بابٍ من نورٍ

كى يدخلَه

تعَّثر

كانتٌ عينٌ تحرسُه

وتنيرُ له مِصباحًا

كان النورُ يهاجمُ ما حاط به

من ظلمة

هكذا توحد الدرويش مع الشاعر أو توحد الشاعر مع الدرويش لافرق، كلاهما يسعى للرؤية والمكاشفة قبل فوات الأوان، لكن المصائر دائما سبيلها ان نتحول الى ذرات من تراب يقول:

واستبشرَ حينَ أحَسَّ

بشىءٍ يحملَهُ ويُدْخِلُه الحضرةَ

واستبشرَ حينَ تمايلَ

واغتسلَ بِذِكْرِ اللهِ ؛

فَتَاهَ ،وتفسَّخَ حتَّى ذابَ

وأيقنَ أنَّ العودةَ لنْ تُنْقذَه

فتمادىَ حتَّىَ صَعَدَ

وتطايَرَ

حينَ تحوَّل فى لمحِ البَصَرِ

إلىَ ذراتِ ترابٍ

قصيدة لحظة تطهر والاغتسال من كافة الذنوب والخطايا يدفع بها الشاعر الى وعي الدرويش الذي تغسل ذنوبه صوت الاذان وآيات القرآن والصلاة. تيمة تقليدية لكن الصورة الشعرية التي قدمها الشاعر الفنان ليست تقليدية بالفعل، كما ان الاحتماء بالآية القرآنية وتأثيرها المباشر الايجابي على الحالة المزاجية والخلاص والتحرر من الذنوب شيء جدير بالاعتبار والتقدير يقول الشاعر:

فاحتميتُ بسورةِ التكويرِ

فكدتُ أتوهُ

حين لمستُها

الشمسُ فى تكويرِها

والليلُ إذا ما ارتديه ؛ فلا أعسعسُ

حتى يشدُّني

نورُ الصباحِ إذا تنفسَ

فانتشيتُ

في قصيدة جبال الخوف مقابلة بين الفتى والشيخ، بين العنفوان والحكمة، بين النور والظلام. تنحو تيمتها بثبات نحو ما هو صوفي يتعلق بالحكمة والدين، نحن بصدد فتى حائر محاصر بالخوف جاء يشكو الى سيده ما عتل به صدره يقول الشاعر:

مُزِجَتْ أطيافُ النورِ

بأشباحِ العَتْمَةِ والإظْلامِ.

وسباقُ الضدّين مثيرٌ

فالخيرُ مُحَاطٌ بالأسلاكِ الشَّائِكِةِ

تلاحِقُهُ

والعَارفُ أخفىَ ما يعرفُه

والشرّ تخَطَّىَ كلَّ الأرقامِ

وتفشىَ الجهلُ

وصارتْ هامتُهُ

أعلي منْ كلِّ الهاماتْ

أشعرُ أنِّي مَسلوبُ القدرةِ

نحن هنا بصدد حالة من اليأس والاحباط تلبست الفتى وجميع ابناء جيله، والشاعر في هذا السياق يسقط على الأحداث الآنية من دون شك، تلك الحالة التي يعيشها الشباب من انسداد افق المستقبل، وتفشي مشاعر اليأس والاحباط في امكانية صنع عالم يليق بهم. لكن السيد الحكيم ثاقب النظر والرؤية يدفعه دفعا الى ضرور النظر في ذاته وداخله وسوف يلقى النور داخله يقول :

نظرَ إليهِ الشيخُ وأمسكهُ

ــ فرْ إلى نفسِكَ .

وادخُلْها ؛

سترىَ أنوارًا في أنوارٍ

قد غطتكَ

وصفة سحرية من دون شك للتأمل في الذات ومعالجة ما يسمى بالتفكير السلبي. ثم يستطرد وقد استغرقته الحكمة وخرقة التصوف التي انتثرت روائحها على مدى قصائد هذا الديون يقول :

وحين تمرُّ ببواباتِ القلبِ

استرسِلْ في الإقدامِ

ستراني علىَ مَقرُبَةٍ

فادخلْ بيمينِكَ

فدخلتُ

استفتِ فؤادَكَ

؛ فاستفتيتُ

ولو كان بمقدُورِكَ

أن تتخلّصَ مِمَّا عَلِقَ بصدرِكَ

فتخلَّصْتُ

نحن بصدد وصفة محكمة لعلاج هموم الدنيا واستعادة نظافة ونقاء الصدر . ويؤكد الشاعر الحكيم على ذلك بقوله :

"ستخرجُ من ضيقكَ

كيما تدخلُ

دائرة المعنىَ بسلامٍ"

وشعرتُ بنورٍ يَخْرُجُ من عينيَّ

يطيحُ بكلِّ جبالِ الظلمةِ

ينفخُ في الوديانِ

فتسقطُ من حولِي كلُّ الأصنامِ

فلقد "جاءَ الحّقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ

إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوُقًا".

وبالطبع خاتمة تناسب شاعر عربي مسلم لاينسى في غمره حماسة ان يتناص مع آية من القرأن الكريم يعكس بها فرحه من الخلاص من الباطل الزهوق.

قصيدة ثلاثية الخوف مواجهة صريحة مع انفعال "الخوف" المصاحب للانسان في مختلف مراحل حياته. يعتبر انفعال وشعور انساني نبيل وظيفته الأساسية حماية الكيان من الأخطار المحيطة في الواقع المحيط. لكن انفعال الخوف لدى شاعرنا المتصوف الزاهد ملازمه على مدى مراحل عمره، لذا يناجيه بقوله :

لم يكنْ باستطاعَةِ قلبى

إذا ما تمرَّغَ في خوفِه

أن يدقَّ كما كانَ فى أوَّلِ العُمْرِ

الخوف في أول العمر مختلف عن الخوف في أواخر العمر، في اول العمر تكون الجسارة والقوة وفي أواخره تكون الحكمة والاعتياد والمصاحبة وربما التلذذ ايضا، هكذا حال الشاعر الذي من طول مزاملة ومصاحبة خوفه لم يعد يذكر أين يسكن أو كيف يفرض سطوته داخله. صورة بالغة العمق والدلالة، وتكشف عن بلوغ الشاعر قدراا كبيرا من السيطرة وكبح جماح نبضات واندفاعات الجسد الذي ربما تآلف معها وتحكم فيها.

بحثتُ بذاكرتى

أين يسكنُ خوفي ؟

كيف يفرضُ سطوتَه؟!

قصيدة بائعة الورد : هذا النص لافت وكاشف عن موقف انساني عميق الدلالة توصل اليه الشاعر بحسه المرهف جدا، حبيبة غادرها حبيبها فامتهنت بيع الورد لكي ترتزق، ليس هذا كل شيء، بل دارت ببضاعتها في دروب العشاق لعلها تراه في عيون العاشقين. وكانت بالفعل تراه في عيونهم وتشعر به بينهم يا للروعة تقول :

حاولتُ بأن أقتاتَ

ببيعِ الوردِ بركنِ العُشَّاقِ

فلقدْ كنتُ أحسُّ

بأنك تجلسُ فى أعينِهِم

وتراقبُهم وكنتُ أراكَ

صورة انسانية بديعة لا يراها ويرسمها سوى شاعر عاشق تصالح جيدا مع نفسه والناس

قصيدة عناق الأنفاس

من القصائد الانسانية الاجتماعية عميقة الدلالة والابداع تلك حالة العلاقة بين زوجين فقيرين يقتاتون رزقهم في خضم واقع صعب مؤلم وقاس مزدحم بالضوضاء والانهاك ثم يلتقون آخر الليل يخطفون لحظات قصيرة من المتعة والفرح من رحم كل هذا الألم. ثم تدور الأيام وهكذا. يقول :

تبحثُ عن موردِ زرقٍ

لتعودَ إلىَ مسكنِهَا

حاملةً ما منَّ اللهُ عليهنَّ

فإذا ما عُدْنَ

دخلَ الليلُ

وأنزلَ كُلَّ ستائِرِه

وحينَ انتصفَ

أفرغتِ المرأةُ

ما يَسكُنُها من تعبٍ

وتعانقتِ الأنفاسُ

امتزجتْ حينَ التصقَ الجسدانِ

فأرعشتْ رعشةً

منْ ينتفضُ منَ الوجدِ

وذابتْ من إخمصِ قدميهَا

حتَّى شعرِ الرأسِ

وأحسَّتْ فى لحظاتِ عناقٍ

أنَّ العالمَ بين يديْهَا

وخيولًا تمرحُ فى مخدعِهَا

وما أن شعرتْ بأصابِعِهِ

تلمسُهَا

حتَّىَ انتفضَتْ

وتفككتِ الأعضاءُ

وغابتْ

حتَّىَ غافلَهَا النومُ

وجاءَ الصبحُ

بالطبع صورة شعرية كاشفة لواقع عظيم البؤس والصعوبة، لكن تظل لحظات المتعة القليلة محفزة على الاستمرار والبقاء وذلك ليس كافيا.

قصيدة صحوة طفل

خلال هذه القصيدة ربما تأثر الشاعر باعمال الطبيب النفساني الامريكي الشهير اريك بيرن Eric Berne (1910-1970) مؤسس نظرية التحليل التفاعلي أو التعاملي القائمة على أساس ان داخل كل منا ثلاثة حالات للانا وهي الأب Parent والراشد Adult والطفل Child وان مقدار توازننا النفسي يتوقف على مدى تفاعل هذه الحالات مع بعضها البعض داخلنا. فاذا سيطر الأب تماما وقمع الراشد والطفل اتسمت الشخصية بالقمع والشدة والصرامة والجدية المفرطة، ولو تسيد الراشد وقمع الاب والطفل تماما اتسمت الشخصية بالحكمة المفرطة والجدية والجفاف والتكرار الممل، واما اذا تسيد الطفل على حساب الاب والراشد تفرغ الشخص تماما لغرائزه العاجلة ومتعه ويواجه وصعوبات في تحمل مسئوليات الواقع والالتزام في العلاقات.

يأتي التوازن النفسي من خلال توازن التفاعل بين هذه الحالات بحيث تظهر الحالة المناسبة في الوقت المناسب المتطلب ظهورها فقط لا أكثر. الشاعر في هذه القصيدة مدرك تماما أهمية الطفل داخله والذي تم قمعه على مدى سنوات لحساب الأب الداخلي وضغوط الواقع وكذلك ربما تأثرا بالأب الخارجي الحقيقي. لكنه لايستطيع ان يتحمل أكثر من ذلك، فهو ينشد الاستقرار والراحة والشعور بالفرح والمتعة والانطلاق والحب وذلك لن يحدث سوى في خروج طفل الداخل ومنحه الفرصة، ويعبر عن قلقه من امكانية فقدانه بعد ان اعتاد اختفائه وجفاء وقسوة الحياة يقول :

أودىَ بحياةِ طفولتِه

حين انتزعَ بقسوةِ قلبٍ

طفلاً يكمنُ داخلَه

فأحسَّ بنشوةِ نصرٍ زائفةٍ

خفتُ إذَا مَا انتبَهَ لخوفِى

أنْ يرجِعَ من رقدتِهِ

ان مشاعر الخوف من فقدان الطفل الداخلي الذي استعاده لدى الشاعر مشروعة وتستحق النضال من اجل استمرار هذه المشاعر الطفلية النبيلة المبهجة والمحفزة للاستمرار في الحياة والتعامل مع الناس والابداع.

وأخيرا نجدنا بصدد شاعر فنان مبدع وحكيم يجيد الجدل بكفاءة ملحوظة مع ذاته وفق تركيبته النفسية المتفردة والجدل مع الآخرين في واقعه الذي عكس في الكثير من قصائد هذا الديوان مدى امتعاضه منه ورغبته في اصلاحه وتغييره ويجيد الجدل أيضا مع واقعه في المجمل مستخدما كافة اساليب أو مدارس الرسم التشكيلي بلغة الشعر حتى التحليل النفسي عميق الغور والدلالة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى