أ. د. حسام عقل - "فارس برمنجهام" للروائي أحمد عبد الله إسماعيل.. مقاربة نقدية

النص والموضوع
هذا النص يسمى بالنص الكوزموبوليتاني العالمي لأنه يخاطب الإنسان حيثما كان، وينطبق على أي علاقة بين دولتين أو كتلتين حضاريتين؛ لأنه يناقش فكرة لا تتعلق بوطن بعينه، ولا زمان بعينه رغ، أنه محدد الأزمنة والأمكنة، فلو أن الغرب كتلة واحدة، هل كان سيُسمح لفارس بأن يصل إلى مجلس العموم؟ هل كان سيُسمح للنابغين النابهين أن يعبروا عن نبوغهم ونباهتهم؟ هل كان سيُسمح لكل تلك الفيالق العربية أن تتواجد في وكالة ناسا؟
أما الإهداء فتظهر به ثنائية: الأم وقيود المجتمع؛ "إلى كل من فقد أمه صغيرًا" كأنه يهيب بالحاضنة الأمومية لأن فارس ذهب إلى انجلترا بلا أسرة، لكنه في المهجر سيصنع أسرة. والإشارة الأخرى "إلى كل من واجه قيود مجتمعه"وربما يشير إلى أحمد زويل الذي واجه عراقيل مجتمعه قبل سفره ونجاحه ووصوله لجائٔزة نوبل.
أٔثارت رواية "فارس برمنجهام" الكثير من الشجون، وأعتقد أنها ستثير الكثير من الأسئلة؛ لأنها تتعلق بمسألة أٔساسية جدًا، وهي ما يسمونه "الأخر"، الأخر في حياتنا، سواء الآخر المغاير في العقيدة، أو الآخر المغاير في الوطن ، أو الآخر المغاير في الحضارة، أو الآخر الأوروبي، وأعتقد أن هذه الرواية مؤرقة بهاجس الآخر.
هذه الرواية تسمَّى في النقد "رواية مثاقفة حضارية"، وتثير تساؤل: هل نقبل بالغرب كتلة واحدة؟ أم نلفظ الغرب؟ وهل الغرب تيار واحد يُضمر العداء لنا كشرق وعرب؟ أم أن هناك تيارات أخرى يمكن أن نتعايش معها؟ لذلك أرى أن التيمة الأساسية في هذا النص هي التعايش في تسامح موضحًا طريقة تعايش الفرقاء.
يمتلك الكاتب طاقات وأدوات روائية رائعة ولافتة للنظر؛ لأنه يرد مساحة مطروقة؛ حيث تمت مناقشة موضوع مقارنة العربي بالأوروبي سواء سجال الصداقة أو سجال العداء في الرواية العربية كثيرًا، مثل رواية "قنديل أم هاشم" للأديب يحيى حقي، ورواية "الحي اللاتيني" للأديب سهيل إدريس، ورواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للأديب الطيب صالح، ورواية "الحب في كوبنهاجن" للأديب بهاء طاهر، وكذلك "تخليص الإبريز" لرفاعة الطهطاوي الذي قال في مطلع كتابه: "إنما أردت أن أكشف القناع عن محيا هذه البقاع (يقصد فرنسا). ونفس الأمر يحدث في "فارس برمنجهام"، وهو ما يضيف صعوبة؛ لأنه لابد أن يضيف ويفرِّع مساحة جديدة، هذا ما جعل الكاتب يُبرز العِرق السياسي، فأدخل مساحة جديدة بفكرة الحياة السياسية، وأن يترشح فارس على قوائم حزب العمال، وأن يدخل مجلس العموم، وأنعش ما يمكن أن نسميه بالعرق السياسي؛ ليتمايز ويختلف عن الكُتَّاب السابقين.
صدَّر الكاتب للقارئ سؤالاً: هل المسألة كما قال شاعر الإمبراطورية البريطانية كبلن: "الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا؟" أم كما يقول بعض المتزمتين العرب: "الغرب الكافر"(؟!)، فالغرب ليس كتلة واحدة، وليس رجلاً واحدًا أو طيفًا واحدًا، لكن هناك حكماء وعقلاء في الطرفين الطرف العربي الإسلامي، والطرف الأوروبي المسيحي يؤمنون بإمكانية اللقاء والتفاهم والمثاقفة الحضارية دون عداوات أو حروب.
لو أن يحيي حقي بعد أن كتب "قنديل أم هاشم" امتد به الزمن، وأراد أن يقارن مجددًا بين الشرقي والغربي، يمكن أن يكتب عملاً مثل "فارس برمنجهام"؛ في قنديل أم هاشم، إسماعيل يذهب إلى انجلترا، فنلاحظ أن المكان في "فارس برمنجهام" انجليزي، كما كان المكان في "قنديل أم هاشم" انجليزيًا أيضًا. عاد إسماعيل من انجلترا معبأًٔ بحلم العلم والتفوق؛ ولذلك احتقر ما يحدث لفاطمة وعينها، وفي الرمزية "فاطمة"هنا قيل إنها رمز لمصر؛ فهو مطالب بالتطبيب والعلاج أن يعيد لها بصرها بعلمه، لكنه لم يستطع.
وصل يحيي حقي في "قنديل أم هاشم" إلى منطقة التصالح عندما عاد إسماعيل إلى الضريح وطلب زيت القنديل الذي كان يحتقره ويزري به، ثم في النهاية وصل إلى مساحة التصالح بالحب، وفي "فارس برمنجهام" وصل فارس إلى مساحة التصالح أٔيضًا بالحب.

رمزية الكاتب
يشتغل الكاتب على رمزية الأسماء، فالذي يذهب إلى انجلترا يسمى "فارس"، أي مقاتل محارب يزيح العقبات من طريقه، ويصنع لنفسه مجدًا، وهذه مسألة مهمة؛ لأن فارس ذهب بلا سند ولا ظهير، لكنه ذهب بعلمه وطموحه وإرادته فاستطاع من خلال تخصصه في هندسة الاتصالات أن يدرِّس في جامعة برمنجهام، وهنا لابد أن ننظر إلى نصف الكوب المليء؛ فإذا كنا نعتقد أن المجتمعات الغربية بها عنصرية فلماذا سُمح لفارس أن ينجح في جامعة برمنجهام، وأن يترشح فيما بعد لمجلس العموم البريطاني، أن يفوز ويشق طريقًا للنجاح؟!
لكن هنا تظهر حقيقة أن الغرب ليسوا كتلة واحدة ، فهنا توجد شخصية "توم"وهو الشخص المعبأ بالحقد الأسود العنصري الموتور والذي استهدف استئصال فارس؛ لأنه لا يريد أن يعرقله، بل يريد أن يستأصله تمامًا. لكن يوجد في الضفة الأخرى "جيمس" الذي أتى بباقة زهور ناضرة جميلة ل "هايدي" بعد أن أصيبت؛ ما بين عداء أسود ل"توم"، والورود الناضرة ل"جيمس "تتحرك هذه الرواية.
استخدم الكاتب الأسلوب الرمزي في مشهد اغتصاب هايدي شقيقة فارس، فكان المشهد أبعد بكثير من مجرد اغتصاب جسد لأنه تجاوز أفراد المشهد إلى دلالته الرمزية؛ فرمز به إلى اغتصاب الاستعمار الأوروبي للدول العربية أو الإفريقية. ويجسد المشهد الأوروبي وهو يستعيد استباحة الجسد العربي.

مشاكسة نقدية
يظهر في الرواية عنصر السرد، ومن باب المشاكسة النقدية نجد أن الجمل الحوارية قليلة. لابد أن تتحاور الشخوص في النص الروائي، لكن كِفة السرد تغلب تمامًا على كِفة الحوار.

الرواية البوليسية
اتجهت الرواية في الثلث الأخير إلى الحس البوليسي حيث يحاول فريق البحث الجنائي أن يصل إلى القاتل، حيث اختفى توم الذي نجح في وضع الفخاخ والشباك بعد أن قتل المحبوبة إيلين، فالثلث الأخير من الرواية معبا بالحس البوليسي، كأننا نقرأ ل أجاثا كريستي"، واقتضى ذلك أن يسرِّع الكاتب الإيقاع بعد أن بدأ الرواية في الثلث الأول والأوسط بالإيقاع المتوسط فتمهل في وصف الأمكنة والأزمنة والعلاقات، لكنه مع تعاظم الحس البوليسي سرَّع الإيقاع إلى أقصى حد بشكل متميز.

الكاتب والرومانسية
نجد في الخلفيات المباطنة حسًّا رومانتيكيًّا، ويبدو أن شخصية الكاتب تتميز به؛ لأن حب فارس لإيلين هو حب رومانتيكي وعشق لا تجده كثيرًا في هذا الزمان؛ يحبها حتى بعد موتها ويختتم الرواية بجملة "عشقك أبدي في قلبي سيظل"، ولا يقول هذا لإيلين لأنها فارقت الحياة، بل يقوله لقبرها، وكأنه يرسل رسالة مفادها أن الحب هو الذي سيظل وينتصر على العقبات العنصرية هنا وهناك.
هذه الرواية تشي بأن الكاتب يمتلك حصيلة لغوية، والعمل قائم على المقارنات مع أول مشهد عندما يصل إلى مطار هيثرو، تبدأ المقارنات بين أجواء مصر الحارة وأجواء إنجلترا الباردة.
إيلين تمثل حالة التعاطف؛ فهي تتبنى طموحه وتساعده على النجاح، وتوفر له فرصة العمل في مطعم بيتزا، رغم أننا نكتشف أن فارق السن بينهما ثلاثون عامًا، فهل يمكن أن تنبت علاقة عشق رغم هذا الفارق العمري؟ طبعًا، وبكل تأكيد، وتاريخ العشق عربيًا وأوروبيًا يقطع بهذا. فمثلًا محيي الدين ابن عربي نظم معظم قصائده في العشق في أستاذته التي كانت في التسعين من عمرها!

الكاتب والرواية النفسية
لعب الكاتب على وتر الرواية النفسية، حيث بدأ في الثلث الأوسط يحول الرواية إلى البعد النفسي للشخوص حيث علمت إيلين بخيانة زوجها، وأخذ فارس يشعر بشيء من العزلة، وبدأ يقع في غرام نانسي، فبدأ قلبه يحار بين معشوقتين: نانسي وإيلين؛ فبدأ يشد الرواية شيئًا فشيئًا إلى المساحة النفسية. واستخدم الكاتب الأسلوب الذي يعتمد على صدمة القارئ، ويصفعنا بالفارق السنيِّ؛ فلم يصرح بعمر إيلين إلا بعد ثلاثين ورقة أنها تكبره بثلاثين عامًا "تعلقه بأستاذته إيلين التي تكبره بأكثر من ثلاثين سنة".

الأداء اللغوي للكاتب
تعجبني مجازية الأداء اللغوي عند الكاتب عندما يقول: "وجد فارس نفسه فجأة بين أطلال قلبها المهشم حيث كانت أشبه ببقايا امرأة"، مستوحيًا تعبيرات رومانتيكية تعيد القارئ إلى أفق رومانتيكي مثل ناجي والهمشري ومحمود طه.

السرد الغنائي
أتصوَّر أن أحمد إسماعيل مشروع شاعر؛ لأن هناك مقاطع ينفلت فيها من السرد إلى الشعر، فاستخدم أسلوب السرد الغنائي، كما فعل نجيب محفوظ في مطلع رواية ميرامار: "الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع"؛ فنجد في النص الكثافة الغنائية التي تظهر في بعض المقاطع سباحته في المساحة الرومانتيكية مثل المقطع: "استيقظت إيلين في صباح اليوم التالي في مرح وسعادة، وابتسامتها العريضة تزين ثغرها، وقبلت صورة فارس على هاتفها المحمول، وكأنها تقبل معه الدنيا بأسرها"، كما أورد قصيدة في نهاية الرواية.
كما اشتمل الفصل الأخير من الرواية على أسلوب السرد الغنائي "استيقظ من نومه في صباح اليوم التالي وهو يعلم أن نهارًا يبدأ بابتسامتها لن يأتي فاغتم.. ويعلم أنه سيظل سجينًا للوحدة والهم.. وقف أمام مقبرتها يخبرها عن حاله بعد أن أصبحت كل النوافذ نحو قلبه موصدة.. ويشعر أن روحه عن السعادة مبعدة.. وعدها أن تظل جوارحه لها مخلصة.. رغم القلوب والعيون اللاهثة.. ورغم القلق القابع في قلبه طول الوقت.. فمنذ رحيلها وفي كل ليلة يرتجف الصمت.. و صوت عواء الذئب يخبره أن الليل طويل.. فيتساءل لماذا يسير تائهًا في دربه دون دليل؟.. يخبرها ببكائه أن الليل قاس ومَليل.. وقد أبى منذ وداعها أن يكون له خليل .. يخبرها أنينه المكتوم بعذابه أنها ليس لها بديل .. يسهر في قلقه الذي لا يعلم مقداره .. فالليل لا تعجبه خواطره الحزينة ولا أشعاره.. يتساءل فارس من يقوى أن يعزف على حزن أوتاره؟.. حاول أن يسكن بحرًا سبح فيه من قبل.. أو جبلًا في وادٍ أو سهل.. أو نجمًا يبزغ في السماء يذكره بالأهل.. أليس من الأفضل أن يلجأ للنوم ؟يقف فارس على باب النوم.. يداعب عينيه.. يغري عينيه بالنعاس وبالحلم.. حتى إن حل الحلم رآها.. رأى إيلين.. والويل له كل الويل.. تشتت في أمره.. وقرب عشقها من قلبه.. ويجيء الحب التائه في عتمة ليله فيوقظه طوال الليل.. ورغم البعد ورغم الموت الذي منع الوصل.. لكن مكانها في قلبه لا يزال كما هو من قبل.. لم تغادره بروحها، فهي الأصل وهي الظل.. حتى وإن غادر جسدها مملكته.. عشقها أبدي في قلبه سيظل.."

لغة الكاتب
توجد في النص جمل حوارية مشعَّة جدًا، فعندما يقول توم في حواره مع إيزاك موردخاي: "العربي هزمنا سويًا ولم يهزمني أنا وحدي". بتلك الجملة المفتاحية تتكتل أشكال الصراع والعداوة، ولذلك كان على الكاتب أن يستثمر طاقاته الرائعة في تنشيط وإنعاش وخلق الحوارات بين الشخوص.
وظَّف الكاتب التوهم والأحلام التي يراها فارس في نومه ببراعة كمؤشر لنوع القرار القادم لأنه يستخدمها بإجادة.
الصراع
ظهرت الصراعات والصعوبات عندما خاض فارس الانتخابات، ولا ينكر أحد وجود عنصرية في أماكن كثيرة في أوروبا، فلم تمر الأمور بسهولة حنطة وعسلًا إلى مجلس العموم البريطاني، وظهر إيزاك موردخاي اليهودي الذي أوعز إلى توم بعرقلة هذا الشرقي المتطرف وهو الاتهام المجهز سلفًا من بعض الغربيين بمجرد وصول عربي إلى المطار ودون رؤية أي تصرف منه، فكان موفقًا أن فجَّر هذه التناقضات. فرغم أن المجتمعات الأوروبية تعاني من شبح العنصرية إلا أن بها شكلاً مؤسسيًّا يكبح جماح هذه العنصرية.
يظهر فارس نبيلًا ويقهر كل الصعاب، ويزيح كل العقبات من طريقه، وينتصر طول الوقت ولا يقع في لحظة ضعف واحدة، فهل يمكن أن تسير الحياة بهذه الصورة دون أن يعرقل في بعض المراحل؟! لكن اختيار الكاتب لاسم "فارس" كان يقصد به أنه منذور أن يكون محاربًا أو يخوض معارك.
توالت المفاجآت في الجزء الأخير من الرواية وقد سلِم الكاتب من تأثيرها السلبي رغم أنه كان في حاجة إلى أن يمهد لها بعض الشيء.
في النهاية ينجح فريق البحث الجنائي في إنقاذ فارس الذي تورط في الاتهام بقتل إيلين لأن توم وضع مفكرته الشخصية بجوار جثمانها، فاجتهد فريق البحث حتى وصل إلى توم بعد أن استدل أحد الأشخاص على وجوده في ملهى ليلي.
الفكرة التي تلخص العمل
اشتمل العمل على كل عناصر الفن الروائي، وقد نجح في أن يستثير المتلقي ويصدِّر الفكرة للقارئ، وهي التساؤل "هل أوروبا كائن عدائي بشكل كلي، أم أنه من الممكن أن نتعايش مع هذا الكائن؟"
تبقى جملة الختام مهمة جدًا وهي"عشقك أبدي، في قلبي سيظل"، لأن البطل استطاع أن يذيب الحواجز العنصرية التي واجهته في إنجلترا بترياق الحب.

بقلم أ. د. حسام عقل
أستاذ النقد والبلاغة والأدب المقارن بكلية التربية جامعة عين شمس
ورئيس ملتقى السرد العربي الدائم بالقاهرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى