عبد الرحيم التدلاوي - قراءة في المجموعة القصصية "الحقيقة العارية" لمحمد محضار

يعد محمد محضار من الأقلام التي انجذبت للقص الوجيز تخطب وده؛ هو القادم من القصة القصيرة والشعر؛ لقد استهوته التجربة فخاضها كإجراء تعبيري، ومغامرة لقول الكثير بالقليل. وقد أثمرت التجربة مجموعة سماها ب “الحقيقة العارية” وتشتمل على 53 نصا، بإسقاط النص المكرر، وأتت بعناوين مفردة ومضافة ومركبة، مع نص واحد بجملة فعلية. والبين أن جملة من تلك العناوين لم تلتزم بما درجت عليه العنوة في القص الوجيز، بل سمحت لنفسها بالتمطط، كما هو شأن هذا العنوان الوارد في الصفحة 20 "شيء لم يكن في البال" وكذلك الشأن بالنسبة للوارد في الصفحة 33 "رجل واحدة لا تكفي". ومن سمات المجموعة الفنية ؛ الاختزال والتكثيف والحذف التي منحت النصوص بعدا دلاليا؛ كما أنها مجموعة تمنح المتلقي فسحة التأويل ليملأ الفراغات والبياضات، وتحثه على إعمال ملكة التفكير لديه حتى يتمكن من ضبط إيقاع المعنى. نصوص انقسمت إلى ضنينة، مسرفة في اقتصادها اللغوي، وأخرى؛ وهي قليلة، طويلة مسرفة في الطول، سخاؤها اللفظي قد يظهرها بمظهر من خرق مبدأ الاختزال الذي يقوم عليه هذا اللون الإبداعي. فقد وجدنا نصوصا قصيرة جدا لا تتجاوز السطرين، وأحيانا تصل إلى ثلاثة أسطر؛ وهي الكثيرة، أما تلك الكريمة، فلا تتجاوز الأربعة، ومنها "التباس" الذي تمدد على مدى صفحتي 53و54 و"الغروب الأسود" ص44. و ميل القاص إلى القصر كان بغرض التكثيف الشديد لدرجة كاد يوقع نصوصه في خانة الومضة القصصية مثل قصة "الحقيقة العارية" ص11 و"نرجسية" ص12، وغيرهما. ويعد قصر الحجم عنصرا بارزا في هذه المجموعة، مع ما يستتبع ذلك من أحادية الحدث، وتنكير الشخصية الواحدة، مع بياضات تدعو إلى ملئها، أو استنطاقها، واستخراج مضمرها. من هنا، نقول: إن نصوص محمد محضار تتميز بدقتها واختزالها الشديد... والتزامها بالاقتصاد اللغوي ذي المعنى مفتوح المدى، مع استعمال المفردة المشعة بالمعنى من خلال أدائها وظيفة دلالية مكتنزة في السياق بما يريد المُؤلّف.. ؛ وهي فنيات لا تتسع للسرد المرسل بل للسرد المتقطع المتطور المحققة للغة المكثفة التي تصبح فيها الشخصية عبارة عن علامة سيميائية والحدث دلالة عن حالة واللحظة القصصية مفاجئة خاطفة... لهذا فالمتن عنده يتعمد خلق إحساس عميق بالحالة بفعل مزج النصوص باللقطة السينمائية والمشهد المسرحي، فحضور الحوار سمة بارزة في المجموعة، والانزياح والتكثيف والمفارقة والسخرية والتماهي مع الشذرة وحسن الافتتاح، واستثمار الجمل الفعلية ذات الطاقة الحركية القوية وجمالية القفلة.. صحيح أن هذه الأخيرة تميزت بخاصية الإدهاش، لكنها منحت بعض القصص بعدا جماليا، مكنها من الخروج من دائرة الخبرية؛ فلو تم إبعادها، لسقط النص قي تقريرة غير مرغوبة، ولكان مجرد خبر.

والإضمار هو حذف أشياء كثيرة من النص مما يوفر المجال فسيحا للمتلقي كي يقوم بملء ما حذف؛ وذلك حسب فهمه واستنتاجه ورؤيته وثقافته؛ الإضمار، إذا، تقنية تسهم في التكثيف اللغوي، وتحرك التخييل وتثير التأويل وتنأى عن التقريرية والمباشرة. والأكيد أن المتلقي اللبيب يستشف المضمر ويعيه ويشعر بمتعة الاستكشاف وما يليه فتتحقق بذلك النظرية التأويلية التداولية المعرفية التي تعتبر التخييل من مظاهر التواصل. إن تجربة القاص محمد محضار في هذا الفن القصصي القصير جدا بالرغم من قصرها تعد مغامرة طيبة كان هدفه منها البحث عن إثبات وجوده كقاص متميز يحاول الاقتراب من جزئيات الواقع الصغيرة والمكتنزة بالدلالات الاجتماعية والنفسية الضاغطة مع استنطاق للمتخيل عبر استعمال لغة سهلة ومبسطة للتعبير عن الفكرة ومعالجة المسألة.
وقد سعى القاص إلى نقد التسلط، وما يعتري الواقع من قبح بحثا عن العدل والحرية والجمال والسلام معتمدا أسلوبا مخاتلا يتعمد مباغتة القارئ في جو من المتعة والسحر الجمالي داعيا المتلقي إلى التأمل والاستقراء.كما أن شخصيات المجموعة المهمشة تميزت برفضها للواقع متمردة عليه وعلى سوداويته بغاية التحرر منه بتشييد عالم أرحب. كل ذلك كان مؤطرا برؤية إصلاحية مضمخة بروح دينية بينة، وخاصة في نص"حاكم البلد" ص 62؛ فقفلتها توحي بهذا البعد؛ كل نفس ذائقة الموت، ولن تميز بين فقير وغني، بين حاكم ورعية؛ فالجنازة لا تشيد بل تذكر جنسه فقط، مما يسقط كل الألقاب.
والمتلقي لهذه المجموعة القصصية القصيرة جدا سيجد نفسه أمام تجربة قصصية ثيماتها متنوعة تمتد من السياسي إلى الاجتماعي إلى الثقافي، بلغة تتغير بتغير تلك الثيمات. يتبين أن القاص يمتلك ناصية السرد القصير جدا حيث النصوص مكتوبة بعفوية وتلقائية بلاغتها في بساطتها الظاهرية النابعة عن جدة في الرؤية والعمق الحقيقي في التقصي ..
ومن مميزات العمل، نجد: الإيجاز: وهو القصر الأقصى ، والاختصار الممكن الذي يمس النص ويجعل جمله المكونة له تشكل المعنى بأقل الكلمات بالاستغناء عن كل ما يطيل النص من أوصاف ونعوت ، مما يحقق للنص خاصية الإيماض، والإبراق المكثف، والقصر، والسرعة ، والإيقاع السريع، ، والاكتفاء بالأقل لتأدية المعنى .. والإيجاز يؤدي إلى التكثيف ، وهو يدفع القارئ/ المتلقي إلى التأويل والبحث عن جعل النص له معنى ...والقصة القصيرة جدا كتابة إيجاز؛ وهذا يمنحها جمالية وقوة إيحائية .. تحفزه على بذل الجهد للوصول إلى المعنى من خلال اعتماده على التأويل ..ومن أمثلة ذلك: "حبل الكذب" ص32، و"انكسار" ص31، و"عازفة الليل" ص28، على سبيل المثال لا الحصر. يتبين من خلال هذه النصوص الحضور القوي للتكثيف إن على مستوى الحيز، وإن على مستوى الحكاية، فالأفعال تتابع بدقة وبسرعة لبلوغ النهاية، مما يفرض على القارئ متابعتها إلى النهاية فاتحا أبواب التأويل على مصراعيها بغاية بلوغ دلالة النص، والقبض على معناه. في النص الأول، نلاحظ سخرية لاذعة من مناضل بدل موقعه بمجرد حصوله على منصب حكومي، ليكون ممثلا فخريا للكذب في أجلى معانيه. وهذا التغيير السلبي، هو نفسه مفارقة النص الصارخة. وفي الثاني، نلمس، من خلال ما حشده السارد العارف من أفعال متلاحقة، حيرة الشخص واضطرابه، وتخاذله، وعدم قدرته على مواجهة الموقف الذي وجدت نفسها فيه وهو يرى عشيقته من بعيد، فكيف سيكون رد فعله لما تقترب؟ وفي الثالث، نجد مقابلة بين موقفين لشخصيتين، ذكورية وأنثوية، وحيث السارد هو الراصد لتلك المقابلة والشخصية المشاركة، والراصدة لمنكر العزف، فالأنثى تعزف زمن نوم السارد، مما يولد التنافر بينهما، لكن العنوان يجعلنا نطرح السؤال: لم هي عازفة ليل؟ لتتولد لدينا صورة أخرى غير العزف، قد تكون مخالفة تماما، خاصة وأن الليل له إيحاءات ذات أبعاد جنسية. يبدو النص بسيطا، إن لم نقل سطحيا، لكن إمعان النظر، وتفكيك مكوناته، يحتم علينا مراجعة القول، بحثا عن دلالاته، خاصة وأن ما تعزفه هو لكبار عباقرة الموسيقي الكلاسية؛ فلم تعزف الجمال ليلا، وبصخب؟ لابد أن المعنى المقصود هو غير الظاهر، فالباطن أمر مختلف. هناك تقابل بين إرادتين، واحدة تريد السهر، والثانية تريد النوم، مما يشي بصدام قادم. والراجح، والممكن، أن الأنثى عازفة لنوع آخر من الموسيقى. ففي هذا النصوص القصصية القصيرة جدا، نجد التركيز على الإيجاز والتكثيف مما يربك القارئ ويجعله في قلق وحيرة بحثا عن المعنى الكامل، مقابل المعنى الناقص الذي شيد عليه النص، والذي أصبح ضمنيا عليه البحث عنه، إذ انه يصطدم بما لم يكن يتوقعه وهنا تحدث المفارقة.
يخيب توقع أفق انتظار المتلقي، و يولد لديه كما قلنا نوعا من التأزم يدفعه إلى طرح مجموعة من الأسئلة ، والتي يبدأ في البحث لها عن أجوبة ممكنة ومحتملة بناء على مؤشرات نصية داخلية ، ومن ثمة يلجأ إلى التأويل ومحاولة سد كل الفراغات ، وعندما يستوي المعنى لديه ، يشعر بنوع من الرضا والانشراح... ختاما يتبين، من خلال ما ذكرناه آنفا، أن محمد محضار يمتلك ناصية القص القصير جدا بمقوماته الناضجة من مثل الحفاظ على البؤرة السردية، وقلب المعنى، وعملية التسريع السردي، كل ذلك وغيره، سيحقق، ولا شك، التفاعل المنتج بين اللغة والتقنية والرؤيا.

1653043801145.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى