طيبة فاهم ابراهيم - المصارعة ذات العباءة

مازلت اذكر قبل عام، حين دخلت القاعة فتاة تدعى وردة، تتلفع بعباءتها البغدادية وتسير على خجل وتتخذ موضعا لها على احد المقاعد وهي تنظر نحو البنات وهن يتصارعن كمتفرجة ليس الا.
استمر الوضع حتى اليوم النالي، حين قررت صديقتنا المصارعة المرحة والبطلة عبير وضع حد لهذا الصمت، فوضعت يديها على كتفي ورده وسالتها بصوت حنون :
لو فهمت سر العباءة هذه، لمنحتك كل القابي..
ضحكت وردة وضحكت معها واحمر وجهها خجلا، لكن عبير المعروفة بظرفها وطرافتها اردفت باللهجة المصرية؛
- (الله بأه ، ما ترمي العباية يا بنت، انت شايفه معانا شبح رجاله والا ايه ، محنا ستات زي بعض ومع بعض ومفيش جنس راجل معانا)
انفجرنا ضحكا جميعا ، وصرت اساعد ورده على القاء عباءتها وانا اقول لها :
حقا يا حبيبتي، جميع لاعباتنا ملتزمات متدينات، وداخل القاعة هو عالم نسوي خالص، وينبغي ان تأخذي راحتك وحريتك كاملة دون اي احراج، ما دمنا جميعا ضمن حدود الادب والالتزام مع بعض دون تجريح.
ارتاحت وردة لكلامي كثيرا، وبدأت تتآلف مع الجو المحيط وهي تمارس التمارين السويديه والحديد، وقد لاحظت لديها مطاولة في التمارين وقوة في التدريب وكأنها لاعبة محنكة مقتدرة وليست متدربة عادية.
ارتحت لها او لنقل اني استلطفتها، فالمحبة درجات، وبدأت ارتاح لشخصها، وهو ما جعلها يوما تناديني وتدعوني لاجلس شبه ملاصقة لها لتهمس لي بقصتها، ففعلت وكلي لهفة لذلك!!
صارحتني وردة بالقول : انها طالبة جامعية في قسم الجيولوجيا، وانها طوال حياتها لم تجد من تتفهم نفسيتها، اذ لا تفهم المصارعة الا المصارعة مثلها، وَما اندرهن في بلادنا، وأن اهلها من النوع المتشدد الى حد كبير، حيث لم يوافقوا على إتمامها الجامعة الا بشق الانفس، ثم انها استطاعت وبشق الانفس ان تقنع والدتها بالالتحاق بالنادي النسوي لغرض الرشاقة.
ثم اردفت بالقول وقد أومأت لها برأسي موافقة لكلامها :
انا منذ دراستي في الابتدائية وعمري لم يتجاوز الثانية عشرة عاما، كنت اعود من مدرستي واغلق الباب علي في حجرتي المستقلة، والقي كتبي جانبا، ثم ارتدي زي المصارعة واتدرب على لقطات المجلات وكتب تعليم اللعبة، ثم اخوض نزالات مع نفسي متخيلة عدوة لي، حتى اشفي غليلي من اللعبة، وانا الان غير مصدقة اني وسط مصارعات حقيقيات.
ابتسمت لها واجبتها : يا وردة، البنت تفهم البنت ونفسية المصارعه تفهمها المصارعة مثلها، كلنا في طفولتنا عشقنا ما كبرنا على محبته واختياره ، انطلقي معنا لتتدربي وتلعبي وتنفسي عن نفسك كل كبت.
اخذت بيدها نحو البساط فقالت لي : وانا ما شجعني للالتحاق بكم الا انت، أحببتك منذ اول لقاء لك في التلفاز وتابعتك وجئت لاتدرب معك.
كانت ورده، ورغم عدم تلقيها تدريبا على يد احد، الا انها بطلة مميزة، تجيد الحركات بمهارة تامة، وتنتصر على من تصارعهن، ويصعب اسقاطها او تثبيت كتفيها.
وكنساء، كانت العلاقات بيننا طيبة، تشوبها احيانا احقاد بين بعض اللاعبات لأسباب شتى، منها طبيعة اللعبة التي تقوم على الصراع والعنف.
كنت الاحظ نظرات حادة بين وردة ومصارعة تمتهن المحاماة اسمها ناهد، لا اذكر انهن قد تصافحن يوما او أبدت اي منهن محبة للاخرى او تكلمن معا بكلمة واحدة، ورغم كل ذاك لم اسأل أيا منهن عن هذا الجفاء، فمن المعتاد ان تقع معضلات بين المصارعات تطول او تقصر حسب طبيعة المعضلة.
كانت اقوى تمارين اللعبة هي ما تسمى بالحلبة الكبيرة او مصارعة التصفيات ، اي ان نقسم اللاعبات العشرين إلى قسمين، عشرا يصارعن عشرا، حتى اذا ما صرعت العشرة الاولى يكون الامر ان تصارع خمس مصارعات خمسا، وهكذا دواليك حتى لا تبقى على البساط سوى مصارعة واحدة تعد هي الصامدة والمنتصره.
كان هذا التمرين هو الاكثر مشقة للمنتصرة التي تظل تصارع وتصرع ثم تصرع حتى يأخذ منها التعب كل مأخذ، علما ان الصراع لابد ان ينتهي بالتسليم وليس التثبيت، ومن هنا كانت قوة وقسوة هذا التمرين.
ابتدا الصراع قويا بين الطرفين، بينما كنت انا وعبير نراقب البساط، صرعت وردة كلا من خمائل وضحى ونرمين، وسحقت ناهد كلا من منى وسلامة واسيل، وهنا وما ان لمحت المصارعتان وردة وناهد نفسيهما في مواجهة بعض، حتى صرخت كل منهن باسم الاخرى، ثم هجمن على بعض ودخلن في صراع عنيف وكل منهن تحاول البطش بالاخرى،
ابدت كل من المتصارعتين مستوى عاليا في اللعب والبراعة في تطبيق المسكات، وظل اللعب على هذه الشاكلة دقائق معدودة حتى بدا التعب والانهيار طريقه نحو ناهد التي بدا عليها عدم قدرتها على المواجهة، فسقطت ارضا شبه مغمى عليها وتحول النزال الى مسكة ارضية عنيفة افقدت ناهد وعيها، ثم وجدت وردة البطلة شيماء بانتظارها، فسحقتها وعادت الى ناهد الممدده على الارض،كانت كمن يهمس باذنها وناهد تحاول تحريك جسدها بصعوبة، عندئذ برمت وردة بطن ناهد المنهارة ، فتدخلت وابعدت ورده عنها، ونبهتنها بعدم تكرار ذلك، لانها تنفس عن حقد ولا تصارع.
انهينا معركة الحلبة الجماعية بفوز وردة ومصارعة تدعى بلقيس، بينما كانت بقية المصارعات يحاولن النهوض، في حين بقيت ناهد وبضع اخريات مرتميات يتلوين الما.
كنت غير راضية عما قامت به وردة، اما هي فقد اعتذرت وفسرت الامر على انه تفريغ عشقها للعبة والكبت الذي مورس ضدها، فقلت لها : يا ورده، لقد راقبت صراعكن معا، كأن بينكن ثأر قديم، فنفت ذلك وعللت الامر انه حقد نسوي عابر لا اكثر..
انتهى الامر وكانت المفاجأة ، وهي وجوب مواجهتي لاحدى الفائزتين في المعركة، وحين اعتذرت بلقيس عن المواجهة لخسارتين سابقتين معي، لاحظت لهفة وردة للامر، والاكثر من ذلك تصريحها للمدربة وللمشرفة انها الفرصة التي كانت تنتظرها لتسحقني !!!!
صعقت تماما ، لا سيما واني انا من احتضنتها ولقنتها رغم قوتها، وعلمت انها تندفع في عالم المصارعة بشكل جارف وان طموحاتها قد تقضي عليها، وكان شرطها ان يكون النزال خليطا بين المصارعة والملاكمة.
كانت اول جولة في النزال قوية حين قلبتها وكسبت بعض النقاط، بقصد امتصاص طاقة جسدها، ثم كانت الجولة الثانية حين بدأت اسلوب الضخ اللكمي،
حيث كانت تذوب في اللكمات وعبناها تنقلبان مع كل لكمه، وكادت عيناها تخرجان من المحاجر مع لكمات البطن، حيث كان الحبل والحكمة ينقذانها كل مرة.
مع منتصف الجولة الثانية، تحولت وردة الى وردة ذابلة متيبسة، كانت تترنح مثل سكرى، وتهذي بكلمات لم افهمها ادركت خلالها انها بلغت حد الانهيار التام، وان مزيدا من الضرب لا داعي له، فقررت وضع حد للنزال بالقاضية، وهو ما صرخت به المشرفة بقولها :
اطلقي عليها لكمة الرحمة..
كانت تنظر نحو لا شي حين وجهت لها لكمة مستقيمة القتها ارضا دون حراك، َكنت انظر إلى ذلك الجبروت والقوة التي قضت على سبع مصارعات في نزال واحد وكيف تحولت الى جسد بلا حراك، تركتها وغادرت الحلبة وهي تغط بنوم عميق.
حين تركت النادي، تذكرت كل شي، كيف تعرفت عليها بعباءتها ، وكيف علمتها ما ينفعها، وكيف تحولت الى نسر هائج تجرأت لتصارع لبوة مثلي، عرفت كيف تعيدها الى دارها متلفعة بعباءتها، مع صديقتين تساعدانها على المسير، وما اقسى الجحود.

تعليقات

الأديبة العراقية المرموقة، والبطلة الأولمبية وأقوى المصارعات في بلاد الرافدين الاستاذة طيبة فاهم إبراهيم تنقل لنا بأسلوب قصصي شائق وجميل، وسرد رائق وهادئ كهدوء أعصاب أبطال فنون الحرب.. تجربتها الذاتية عبر سير غيرية تتناول مسارات بطلات اولمبيات.. فتتحدت عن شهرزاد وشينا ووردة، ونضال، لوحات ترصد سلوكاتهن ونفسياتهن ونزالهن على بساط المعركة بكاميرا اليقين والعين المتبصرة.. مما يؤكد أن ساحة الأدب العربية كسبت كاتبة وأديبة من الطراز الرفيع تجمع بين الحسنيين العقل السليم في الجسم السليم.. (الادب والرياضة)
حين نقرأ قصص الاستاذة طيبة نجد في نصوصها السردية علاوة على نضج التجربة الابداعية وفرادتها تلك الروح الرياضية والنفس الانسانية الصادقة التي تنماز بها البطلات العالميات.. والداعية للاخاء والمحبة والوفاق والتسامح والتواضع التي يتوجب ان يتحلى بها الرياضي في المقام الاول، ونبذ الانتقام والغيرة والغضب والحقد
ومن هذه المنصة الاكاديمية نتمنى لاديبتنا البطلة الشهمة مسيرة ابداعية طيبة وموفقة، ومسيرة رياضية مظفرة وهي تتأهب لخوض رهان الاستحقاقات العالمية بشرف عظيم
 
أعلى