د. علي خليفة - مسرحية بروميثيوس مقيدًا للشاعر الإغريقي أيسخيلوس «525ق.م 456 ق.م»

تختلف هذه المسرحية عن سائر المسرحيات الإغريقية بكونها تمثل أكبر معارضة لزيوس رب الأرباب الوثني عند الإغريق، وفيها كثير من الهجوم على زيوس، فهو اغتصب ملك أبيه كرونوس، وهو باطش شديد، لا يقبل أي مناقشة، وهو معتد بملكه الجديد، وكذلك هو فاحش داعر، ويقوم في هذه المسرحية بإغراء فتاة بشرية اسمها آيو، ويسعى لاغتصابها، وتعاقبها زوجته هيرا بأن تجعل لها قرنين، وتأمر ذبابة القطيع بأن تعذبها أينما كانت، وتحكي هذه الفتاة قصة معاناتها لبروميثيوس وهو مشدود لصخرة مطلة على محيط في أقصى الأرض عقوبة له من زيوس، ويتنبأ لها بروميثيوس – وهو عنده القدرة من بين آلهة الأولمب الوثنيين على التنبؤ – باستمرار عذابها لوقت طويل، وأنها ستتخلص من ذلك العذاب في مصر، ويقول لها: إنها ستنجب من زيوس إلهًا، ومن نسل هذا الإله سيأتي هرقل الذي سيخلص بروميثيوس من عذابه، ويضع حدًّا لجبروت زيوس.
وقد شك بعض الباحثين في صحة نسبة هذه المسرحية لأيسخيلوس الذي يتبدى شديد الإيمان بآلهة الإغريق الوثنية في مسرحياته الأخرى التي وصلتنا؛ مما يعزز بالفعل الشك في صحة نسبة هذه المسرحية له.
وقد لفت نظر كثير من المبدعين والنقاد شخصية بروميثيوس المتمرد على زيوس، وقد رفض إطاعة أوامره، وأصر على موقفه على الرغم من تشديد زيوس العقاب عليه، ويقول شلجل عن هذه المسرحية: إنها المأساة بحق من مسرحيات الإغريق، وما وصلنا عنهم من مآسٍ تعد مآسي عادية.
ونعرف من هذه المسرحية أن عقاب زيوس لبرميثيوس كان لوقوفه
في صف البشر، ونعرف أيضًا من هذه المسرحية أن زيوس رب الأرباب الوثني
قد أوجد البشر وأهمل شأنهم، فهو جعلهم يعيشون في كهوف كالنمل،
ولا يعرفون شيئًا من المعرفة، وليس عندهم ذاكرة، ولم يعرفوا النار التي هي سر كل الفنون والعلوم، فما كان من بروميثيوس إلا أن أخرج البشر من كهوفهم، وعلمهم كثيرًا من المعارف كالقراءة والحساب، وكيفية بناء السفن، كما أنه أمدهم بالنار، وبمعرفتهم لها توصلوا لعلوم وفنون كثيرة.
وعاقب زيوس بروميثيوس على تعاطفه مع البشر، وكان يهم بإفنائهم
– حسب الأساطير الإغريقية – وإيجاد سلالة أخرى على الأرض، ويأمر زيوس بعض أبنائه من الآلهة الوثنية، وهم كراتوس؛ أي القوة، وبيا؛ أي العنف، وهفستوس، بتقييد بروميثيوس في قمة صخرة عالية تطل على المحيط في أقصى الأرض.
وتبدأ المسرحية بهذا الموقف، ولا يتخللها كثير من الأحداث، بل إنها يغلب عليها الحوار عن الحركة.
ويشكو بروميثيوس لنفسه في بداية المسرحية من العذاب الذي يعانيه، ثم يشكو آلامه لكورس مكون من حوريات البحر "الأقيونيسيات"، وهن يرين أن البشر لا يستحقون منه هذه التضحية.
ثم يزور بروميثيوس في مكانه هذا المقيد به إلهٌ وثنيٌّ هو إقيانوس والد حوريات البحر، ويعرض على بروميثيوس أن يتشفع له عند زيوس، ويحذره بروميثيوس من ذلك رأفة به، وخشية أن يناله هو الآخر بطش زيوس؛ لأنه باطش ظالم، وعند ذلك يطلب إقيانوس إلى بروميثيوس أن يخضع لزيوس، ويرفض بروميثوس الخضوع له.
وتأتي آيو الفتاة البشرية لبروميثيوس، ويتنبأ لها بما سيحدث لها، ويذكر لها أن خلاصه سيكون من حفيد لها ينتمي أيضًا لزيوس.
ويصل لزيوس نبوءات بروميثيوس فيما سيحل به من أحد أحفاده من الآلهة الوثنية، فيرسل هيرميس رسول الآلهة الوثنية؛ ليعرف من بروميثيوس تفاصيل هذا الأمر، فيرفض أن يخبره بذلك رغم أن هيرمس أخبره أن زيوس سيزيد من عقابه، وسيرسل الرعد ليزلزل به الأرض، وأنه أيضًا سيرسل نسرًا يأكل كبده طوال النهار، وإذا عاد كبده في الليل جاءه ذلك النسر في النهار ليلتهمه من جديد، وسيستمر على ذلك طويلاً حتى تتحقق نبوءاته، ومع ذلك يصر بروميثيوس على موقفه، بعدم إطاعة زيوس، ويصر على موقفه المتعاطف مع بني البشر، وتنتهي المسرحية بذلك.
ولا نعرف من خلال نص المسرحية الذي وصلنا لماذا كان بروميثيوس شديد العطف على البشر؟! وهو حين يواجه بهذا السؤال من الأقيونيسيات "حوريات البحر" لا يجيب، بل يصر على معارضة زيوس.
ويرى بعض النقاد أن مسرحية "بروميثيوس مقيدًا" تحمل بعض الرموز، ومنها أن العقاب والعذاب هما ثمرة المعرفة، وأن المخلص لا بد أن ينال عقابه.
وأغلب الظن أن هذه المسرحية هي جزء من ثلاثية، ولم تصل إلينا المسرحيتان الأخريان اللتان كانتا تعرضان معها، وهما "بروميثيوس جالب النار"، و"بروميثيوس الطليق".
وشخصية بروميثيوس المعارض لزيوس والذي يتلقى صنوف العذاب منه جزاء معارضته إياه ألهمت بعض المبدعين، مثل: ميلتون في "الفردوس المفقود"، فقد جعل الشيطان فيها على مثال بروميثيوس في معارضته وعناده، وكذلك تأثر جوتة بشخصية بروميثيوس في بعض أعماله الأدبية خاصة مسرحية "فاوست"، وكتب شيلي من وحي مسرحية "بروميثيوس مقيدًا" قصيدته "بروميثيوس الطليق"، وفي الأدب العربي كتب أبو القاسم الشابي قصيدة "الجبار" أو "هكذا غنى بروميثيوس"، متأثرًا فيها بمسرحية "بروميثيوس مقيدًا".



1654708234653.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى