مهداة إلى مانيكان آلان روب جرييه
كان أبي ( باترونيست حريمي ) مهنة تأتي بعد مصمم الأزياء، لتصنع من خياله وجودًا جماليًا.. أليس هذا ما تفعله الكتابة بنا؟ تداهمنا بالأحلام والأخيلة، نكتبها فنخلق منها وجودا حيا؟
الآن..حتى بعد كل هذه السنين، وأنا أجلس على مقعد متحرك أمام بحر صامت بلا موج، أدرك أن حكايات الجمال الأولى لم تهجرني بعد، كل شيء يحضر كأنه يحدث الآن، فأرى عيني أبي مفعمتين بفرح شفيف، عندما يرى الفستان ينطق على جسد صاحبته، ويبوح بكل تفصايله. بين كان والآن يقبع التاريخ، ويهرم، ليصبح صورا تتماهى في بعضها، تسكن أحلامنا، وتخايلنا بشغف البدايات، وروائح الأزمنة.
التفصيل كلمة يستخدمها أبي حين يتكلم عن مهنته، يعبر عما فيها من طاقة حسية بيديه وبكل ملامحه. تبدأ وهو يتحسس ملمس القماش عندما يخرجه من لفافته، وتنتهي وهو يتأمله على جسد الزبونة ينطق بالحياة. يا له من مبدع خبير بأجساد النساء، جدير بأن يمنحهن تفاحة الحياة التي أغوت جدنا القديم. كان يعد لهذه اللحظة بغوايات أليفة، يدعوها أن تجلس على هذا المقعد الوثير، المكتنز بسحر قديم يحفظ أسرار أجسادهن العابرة، ويدعم انفعالاتهن بيقين غامض، وهن يتصفحن مجلات الموضة التي يقدمها لهن: هذه بوردا الألمانية، وهذه (elle ) الفرنسية، لكن (جراتسيا ) الإيطالية قد تكون الأنسب لك، وطبعا هذه حواء. خذي راحتك يا مدام.
عندئذ.. يمكنها أن تحلم بفستان يبرز جمالها، وأبي سوف يجعل من أحلامها واقعًا. سيعطي لها ظهره لتأخذ راحتها، وتحلم على مهل، لكنه سيراقبها من خلال المرايا.. للمرايا هنا دور مهم، يجب أن تتوزع في المكان بدقة، لتعكس انفعالاتها، يراقب ملامحها وهي تلتقط إحدى المجلات من فوق المنضدة المجاورة، يسجل الأبعاد الثلاثة لجسدها في ذاكرة رسام، متخيلا تلك اللحظة الأخيرة، وهي تطلق أفراحها أمام مرآة غرفة نومها.
في البداية، تتصفح المجلات بأصابع متوترة، بضع دقائق وتسترخي تمامًا، وتترك لجسدها حق التعبير عن نفسه. هي الآن تحاول محاكاة عارضات الأزياء اللاتي يبتسمن لها من بين صفحات (elle)، سيمنحنها شيئًا مثيرًا بالتأكيد. تلك صورة لامرأة تبتسم بأسنان ماسية وشفاه مغوية بالتهامها. دونما وعي. تعض شفتها السفلى وتتنهد بعمق، فيفوح عطر تخبئه بين نهديها. تنتبه لنظرات البترونيست في المرآة المقابلة، ترتبك للحظة، ويطوف بوجنتيها حمرة خفيفة، تتخلص منها سريعا عندما يمنحها ابتسامة آمنه.
تدرك أن جسدها الآن حر، هو جنتها المحرمة، لقد جاءت إلى هنا من أجله، لتتركه يتجول بين الصفحات، ويطوف على عارضات الأزياء كما يشاء. لهذا لن تشعر بساقها اليمني وهي ترتفع لتستريح على اليسرى، وتنزلق إلى الأمام قليلاً لتعكس ظلالا خافتة بينهما؛ لا يراه غير الصبي الذي يقف أمامها بزجاجة الكوكاكولا المثلجة.
لم تنتبه إليه أصلاً. كانت منشغلة عنه، تقارن بين ساقي عارضة الأزياء الباريسية وساقيها الممتلئتين، تتأمل جلستها الواثقة على مقعد (لوي كانز) بلون النبيذ الأحمر، وتسبح في فراء من الفيزون الأبيض، فيما تضع على ركبتيها حقيبة جلدية من تصميم (لويس فيتون) الفرنسي الذي مشى أميالا على قدميه قاصدا باريس، ليكون أسطورة في تصميم حقائب النساء.
– تفضلي يا مدام
قالها الصبي وهو يقف على بعد خطوة من ساقيها، لكنها لم تنتبه لصوته الهامس. كانت تحادث نفسها، تنظر في المرآة المقابلة وتتأمل جيدها: “ليس طويلاً بما يكفي ليظهر من فتحة الصدر الضيقة لهذا الفستان. الشانيل موديل يناسبني أكثر، سيجعلني أبدو رشيقة في عيون الناس، وسوف أجعل شعري قصيرًا مثل شعرها لتظهر رقبتي. إنها تشبهني، بيضاء مثلي، و..”
– تفضلي يا مدام..
قالها الصبي بصوت عال هذه المرة، فهربت أحلامها، عندئذ انتبهت لوجوده أمامها. منحته ابتسامة ممتنة، حاولت أن تعدل جلستها لتتمكن من أخذ زجاجة الكوكاكولا. عندما أحست بنظراته تنزلق على ساقيها، ارتبكت، أشارت بسبابتها إلى المنضدة المجاورة:
– ضعها هنا وامش.
بسرعة اختفى الصبي خلف ستار ثقيل يداري سلم (الصندرة ) الخشبية. مرحًا كان، موسوما بخفة منحها له حذاء ماركة (باتا ) اشتراه أبوه بالأمس، وراعي أن يكون مناسبًا لتلميذ سوف ينتقل إلى المرحلة الثانوية. العام الدراسي الجديد على الأبواب، وبدأت أطياف الشتاء تلوح، ولم يعد الصندل القديم يليق بقدميه الكبيرتين. وفجأة، توقف على الدرجة قبل الأخيرة من السلم. لم يكن ينوى ذلك أبدًا، كان يفكر في ردة فعل الزبونة التي تجلس على المقعد الوثير، ويبتسم ابتسامة تلاشت بسرعة وهو يقف أمام ذلك المشهد الذي رسم المخطط الحيوي لحياته كلها. سمراء تجلس على ماكينة الخياطة، تتصفح مجلة، وتترك لساقيها براحًا ساحرًا يشع من تحت الجوب القصير.
“إنها صوفي منير حنا، مسيحية متدينة من أخميم، قليلة الكلام وكأنها تخجل من صوتها الناعم المثير، فقط تعلق ابتسامة خافتة على شفتيها، وتومئ برأسها كيمامة. بشرة نحاسية لجسد رشيق، يغريك أن تلمسه برهافة عازف فيولينا. أنهت تعليمها بعد المرحلة الثانوية لتساعد أسرتها الفقيرة، لكن حصص الأشغال، والتدبير المنزلي في المدرسة، رسمت شغفها الأصيل لخياطة الملابس، حلمتْ لسنوات بامتلاك ماكينة خياطة، عندما تأكدتْ أن حلمها لن يتحقق، عملت مساعدة لجارتهم (أم سعاد الخياطة ) بضع شهور وهاجم الروماتويد ساقي أم سعاد، فاعتزلت المهنة تمامًا بأمر الطبيب. “
ذات مساء، طرقت صوفي الباب الزجاجي لمحل ترزي بالقرب من دير الراعي الصالح. ربما أغرتها لافته المحل المبهمة (بوردا.. خياط حريمي ) وربما ظنها أبي زبونة جديدة، فرحب بها. لكنها باغتته بصوت ناعم خجول:
-حضرتك محتاج خيّاطة؟
تأملها أبي للحظات، ابتسم :
– خياطة! أنت مانيكان يا بنتي.
زاد خجلها فاكتست بشرتها بلون النحاس الساخن. ابتسم أبي وقال:
– ما اسمك؟
– صوفي
– أتجيدين الخياطة على الماكينة يا صوفي؟
هزت رأسها بالإيجاب، ولمعت عيناها بفرح دامع.
الصبي الذي وقف على الدرجة قبل الأخيرة لسلم الصندرة كتم أنفاسه. وهو يحدق في ساقيها اللامعتين تحت ضوء لمبة الفلورسنت، ارتعشت خلاياه بدفقة هرمونية خجلى، فيما هي منهمكة في قراءة المجلة. لا يدرى كم بقى في وقفته، وهو يمد البصر لأبعد نقطة يسمح بها الجوب القصير، لكنها انتبهت فجأة، وهبت واقفة. ليداري الصبي خجله سألها: ماذا تقرأين يا صوفي؟
– قصة لصوفي عبد الله.
دهشته تلاشت ببطء عندما نبهته أن صوفي عبد الله شخص آخر غيرها. ربما فتر حماسه قليلا، ولكنه من باب الفضول سألها:
– ممكن اقراها؟
مدت يدها بالمجلة وهي تبتسم كعادتها كلما سمعت نبرة صوته؛ الذي تغير كثيرًا خلال الشهور الأخيرة. أصبح خشنًا، ومثيرًا لابتسامتها الماكرة، تلك التي ترسمها على شفتين رخوتين، كأنهما تتهيئان لقبلة، فيما هو يقرأ:
” عضت تفاحة على شفتها السفلى بأسنانها اللؤلؤية كي تمنع الدمع الحبيس في عينيها النجلاوين أن ينهمر على خدها الناعم البض…”*
هل كان يحتاج للحظة كهذه؟ لحظة يتآمر فيها الوجود ليرى شغفه المخبوء، ذلك الذي رهن حياته كلها بعوالم مراوغة لا يعرف لها نهاية. حتى وهو يجلس الآن على مقعد متحرك، ويحدق في أفق بلا سحب، وبحر بلا موج. يراه يتشكل بذكرياته الأولى، وهو يتردد على باعة الكتب والمجلات القديمة. يفترشون الأرض أمام مدرسة الراعي الصالح، ويحتلون سور مدرسة التوفيقية بشارع شبرا. وقتها.. لم يكن في نيته أي شيء سوى أن يعثر على قصص صوفي عبد الله. لكن مؤامرات الوجود لا تيأس أبدا من مطاردته، حتى بعد كل هذا العمر. الآن يتذكر تلك اللحظة بكل تفاصيلها. صياح الأولاد وهم يلعبون خلف سور المدرسة، الترام الذي انفلتت سنجته وأحدثت شررا مخيفا.. بائع الكتب النحيل ذي العين الواحدة الذي لم يكف عن متابعته وهو يتفحص الكتب واحدا بعد الأخر.
حتى الآن هو لا يعرف، كيف استطاعت عين واحده أن تقرأ ما بداخله! و لا يعرف لماذا استسلم لبائع الكتب، وهو يمد له يده برواية أحدب نوتردام!. وقتها هو لم يكن يعرف معنى أحدب، ولا نوتردام تلك، لكنه رأي القبح والجمال على غلاف واحد، ورأي اسم صوفي عبد الله بينهما. القبح مسخ مشوه اسمه كوزامودو، والجمال غجرية سمراء، اسمها أزميرالدا، بشفتين رخوتين، تشبهان شفتي صوفي منير حنا، التي لم يتمكن من تقبيلها أبدا.
على مقعد متحرك، يرسم ابتسامة متهكمة من خيال رهن حياته بحب مستحيل. أحيانا يظن أن صوفي منير كانت مجرد طيف أو خيال منحه عشقا مراوغا حتى أنه لم يعد يعرف أيهما صوفي منير وأيهما أزميرالدا. يبتسم: “لتبقى الكتابة هي الدليل الوحيد على وجودهما، والعهدة على صوفي عبد الله ” ولا شيء الآن سوى هزات رأس تربت على ألم قديم، يوم عرف من أبيه أن صوفي منير تركت العمل فجأة واختفت.
حتى الآن لا يعرف لماذا فعلت ذلك، تتركه ليخوض وحده عشقا مستحيلا ومراوغا! كل ما يذكره أن أباه كان يتجنب سيرتها، ويحدق في فراغ مشابه لما يحدق فيه الآن.
“هل وقع أبي في غرامها أيضا؟”
يلقي برأسه إلى الوراء، ويغمض عينيه. مستسلما لنسمة هواء عابرة، مفعمة برائحة البحر، عندئذ رآى نفسه، صبيا يقف على الدرجة قبل الأخيرة من سلم الصندرة الخشبية. يحدق في ساقين جميلتين، فتعاوده دفقات هرمونية أثارت دهشته:
– ياااااه .. حتى بعد كل هذا العمر؟ ترى.. أين أنت الآن يا صوفي؟
قالت بصوتها الناعم: في دير الراعي الصالح..
عندما فتح عينيه. رأي البحر ساكنا كما هو، والفضاء بلا سحاب، فهمس لنفسه: لا شيء يموت بداخلنا.. نعم .. كان أبي ( باترونيست حريمي ) مهنة تأتي بعد مصمم الأزياء، لتصنع من خياله وجودًا جماليًا..أليس هذا ما تفعله بنا الكتابة؟
سيد الوكيل
*مفتتح قصة (عاصفة الصيف ) للكاتبة: صوفي عبد الله.إحدى رائدات الأدب المصري ( 1925 – 2003)
كان أبي ( باترونيست حريمي ) مهنة تأتي بعد مصمم الأزياء، لتصنع من خياله وجودًا جماليًا.. أليس هذا ما تفعله الكتابة بنا؟ تداهمنا بالأحلام والأخيلة، نكتبها فنخلق منها وجودا حيا؟
الآن..حتى بعد كل هذه السنين، وأنا أجلس على مقعد متحرك أمام بحر صامت بلا موج، أدرك أن حكايات الجمال الأولى لم تهجرني بعد، كل شيء يحضر كأنه يحدث الآن، فأرى عيني أبي مفعمتين بفرح شفيف، عندما يرى الفستان ينطق على جسد صاحبته، ويبوح بكل تفصايله. بين كان والآن يقبع التاريخ، ويهرم، ليصبح صورا تتماهى في بعضها، تسكن أحلامنا، وتخايلنا بشغف البدايات، وروائح الأزمنة.
التفصيل كلمة يستخدمها أبي حين يتكلم عن مهنته، يعبر عما فيها من طاقة حسية بيديه وبكل ملامحه. تبدأ وهو يتحسس ملمس القماش عندما يخرجه من لفافته، وتنتهي وهو يتأمله على جسد الزبونة ينطق بالحياة. يا له من مبدع خبير بأجساد النساء، جدير بأن يمنحهن تفاحة الحياة التي أغوت جدنا القديم. كان يعد لهذه اللحظة بغوايات أليفة، يدعوها أن تجلس على هذا المقعد الوثير، المكتنز بسحر قديم يحفظ أسرار أجسادهن العابرة، ويدعم انفعالاتهن بيقين غامض، وهن يتصفحن مجلات الموضة التي يقدمها لهن: هذه بوردا الألمانية، وهذه (elle ) الفرنسية، لكن (جراتسيا ) الإيطالية قد تكون الأنسب لك، وطبعا هذه حواء. خذي راحتك يا مدام.
عندئذ.. يمكنها أن تحلم بفستان يبرز جمالها، وأبي سوف يجعل من أحلامها واقعًا. سيعطي لها ظهره لتأخذ راحتها، وتحلم على مهل، لكنه سيراقبها من خلال المرايا.. للمرايا هنا دور مهم، يجب أن تتوزع في المكان بدقة، لتعكس انفعالاتها، يراقب ملامحها وهي تلتقط إحدى المجلات من فوق المنضدة المجاورة، يسجل الأبعاد الثلاثة لجسدها في ذاكرة رسام، متخيلا تلك اللحظة الأخيرة، وهي تطلق أفراحها أمام مرآة غرفة نومها.
في البداية، تتصفح المجلات بأصابع متوترة، بضع دقائق وتسترخي تمامًا، وتترك لجسدها حق التعبير عن نفسه. هي الآن تحاول محاكاة عارضات الأزياء اللاتي يبتسمن لها من بين صفحات (elle)، سيمنحنها شيئًا مثيرًا بالتأكيد. تلك صورة لامرأة تبتسم بأسنان ماسية وشفاه مغوية بالتهامها. دونما وعي. تعض شفتها السفلى وتتنهد بعمق، فيفوح عطر تخبئه بين نهديها. تنتبه لنظرات البترونيست في المرآة المقابلة، ترتبك للحظة، ويطوف بوجنتيها حمرة خفيفة، تتخلص منها سريعا عندما يمنحها ابتسامة آمنه.
تدرك أن جسدها الآن حر، هو جنتها المحرمة، لقد جاءت إلى هنا من أجله، لتتركه يتجول بين الصفحات، ويطوف على عارضات الأزياء كما يشاء. لهذا لن تشعر بساقها اليمني وهي ترتفع لتستريح على اليسرى، وتنزلق إلى الأمام قليلاً لتعكس ظلالا خافتة بينهما؛ لا يراه غير الصبي الذي يقف أمامها بزجاجة الكوكاكولا المثلجة.
لم تنتبه إليه أصلاً. كانت منشغلة عنه، تقارن بين ساقي عارضة الأزياء الباريسية وساقيها الممتلئتين، تتأمل جلستها الواثقة على مقعد (لوي كانز) بلون النبيذ الأحمر، وتسبح في فراء من الفيزون الأبيض، فيما تضع على ركبتيها حقيبة جلدية من تصميم (لويس فيتون) الفرنسي الذي مشى أميالا على قدميه قاصدا باريس، ليكون أسطورة في تصميم حقائب النساء.
– تفضلي يا مدام
قالها الصبي وهو يقف على بعد خطوة من ساقيها، لكنها لم تنتبه لصوته الهامس. كانت تحادث نفسها، تنظر في المرآة المقابلة وتتأمل جيدها: “ليس طويلاً بما يكفي ليظهر من فتحة الصدر الضيقة لهذا الفستان. الشانيل موديل يناسبني أكثر، سيجعلني أبدو رشيقة في عيون الناس، وسوف أجعل شعري قصيرًا مثل شعرها لتظهر رقبتي. إنها تشبهني، بيضاء مثلي، و..”
– تفضلي يا مدام..
قالها الصبي بصوت عال هذه المرة، فهربت أحلامها، عندئذ انتبهت لوجوده أمامها. منحته ابتسامة ممتنة، حاولت أن تعدل جلستها لتتمكن من أخذ زجاجة الكوكاكولا. عندما أحست بنظراته تنزلق على ساقيها، ارتبكت، أشارت بسبابتها إلى المنضدة المجاورة:
– ضعها هنا وامش.
بسرعة اختفى الصبي خلف ستار ثقيل يداري سلم (الصندرة ) الخشبية. مرحًا كان، موسوما بخفة منحها له حذاء ماركة (باتا ) اشتراه أبوه بالأمس، وراعي أن يكون مناسبًا لتلميذ سوف ينتقل إلى المرحلة الثانوية. العام الدراسي الجديد على الأبواب، وبدأت أطياف الشتاء تلوح، ولم يعد الصندل القديم يليق بقدميه الكبيرتين. وفجأة، توقف على الدرجة قبل الأخيرة من السلم. لم يكن ينوى ذلك أبدًا، كان يفكر في ردة فعل الزبونة التي تجلس على المقعد الوثير، ويبتسم ابتسامة تلاشت بسرعة وهو يقف أمام ذلك المشهد الذي رسم المخطط الحيوي لحياته كلها. سمراء تجلس على ماكينة الخياطة، تتصفح مجلة، وتترك لساقيها براحًا ساحرًا يشع من تحت الجوب القصير.
“إنها صوفي منير حنا، مسيحية متدينة من أخميم، قليلة الكلام وكأنها تخجل من صوتها الناعم المثير، فقط تعلق ابتسامة خافتة على شفتيها، وتومئ برأسها كيمامة. بشرة نحاسية لجسد رشيق، يغريك أن تلمسه برهافة عازف فيولينا. أنهت تعليمها بعد المرحلة الثانوية لتساعد أسرتها الفقيرة، لكن حصص الأشغال، والتدبير المنزلي في المدرسة، رسمت شغفها الأصيل لخياطة الملابس، حلمتْ لسنوات بامتلاك ماكينة خياطة، عندما تأكدتْ أن حلمها لن يتحقق، عملت مساعدة لجارتهم (أم سعاد الخياطة ) بضع شهور وهاجم الروماتويد ساقي أم سعاد، فاعتزلت المهنة تمامًا بأمر الطبيب. “
ذات مساء، طرقت صوفي الباب الزجاجي لمحل ترزي بالقرب من دير الراعي الصالح. ربما أغرتها لافته المحل المبهمة (بوردا.. خياط حريمي ) وربما ظنها أبي زبونة جديدة، فرحب بها. لكنها باغتته بصوت ناعم خجول:
-حضرتك محتاج خيّاطة؟
تأملها أبي للحظات، ابتسم :
– خياطة! أنت مانيكان يا بنتي.
زاد خجلها فاكتست بشرتها بلون النحاس الساخن. ابتسم أبي وقال:
– ما اسمك؟
– صوفي
– أتجيدين الخياطة على الماكينة يا صوفي؟
هزت رأسها بالإيجاب، ولمعت عيناها بفرح دامع.
الصبي الذي وقف على الدرجة قبل الأخيرة لسلم الصندرة كتم أنفاسه. وهو يحدق في ساقيها اللامعتين تحت ضوء لمبة الفلورسنت، ارتعشت خلاياه بدفقة هرمونية خجلى، فيما هي منهمكة في قراءة المجلة. لا يدرى كم بقى في وقفته، وهو يمد البصر لأبعد نقطة يسمح بها الجوب القصير، لكنها انتبهت فجأة، وهبت واقفة. ليداري الصبي خجله سألها: ماذا تقرأين يا صوفي؟
– قصة لصوفي عبد الله.
دهشته تلاشت ببطء عندما نبهته أن صوفي عبد الله شخص آخر غيرها. ربما فتر حماسه قليلا، ولكنه من باب الفضول سألها:
– ممكن اقراها؟
مدت يدها بالمجلة وهي تبتسم كعادتها كلما سمعت نبرة صوته؛ الذي تغير كثيرًا خلال الشهور الأخيرة. أصبح خشنًا، ومثيرًا لابتسامتها الماكرة، تلك التي ترسمها على شفتين رخوتين، كأنهما تتهيئان لقبلة، فيما هو يقرأ:
” عضت تفاحة على شفتها السفلى بأسنانها اللؤلؤية كي تمنع الدمع الحبيس في عينيها النجلاوين أن ينهمر على خدها الناعم البض…”*
هل كان يحتاج للحظة كهذه؟ لحظة يتآمر فيها الوجود ليرى شغفه المخبوء، ذلك الذي رهن حياته كلها بعوالم مراوغة لا يعرف لها نهاية. حتى وهو يجلس الآن على مقعد متحرك، ويحدق في أفق بلا سحب، وبحر بلا موج. يراه يتشكل بذكرياته الأولى، وهو يتردد على باعة الكتب والمجلات القديمة. يفترشون الأرض أمام مدرسة الراعي الصالح، ويحتلون سور مدرسة التوفيقية بشارع شبرا. وقتها.. لم يكن في نيته أي شيء سوى أن يعثر على قصص صوفي عبد الله. لكن مؤامرات الوجود لا تيأس أبدا من مطاردته، حتى بعد كل هذا العمر. الآن يتذكر تلك اللحظة بكل تفاصيلها. صياح الأولاد وهم يلعبون خلف سور المدرسة، الترام الذي انفلتت سنجته وأحدثت شررا مخيفا.. بائع الكتب النحيل ذي العين الواحدة الذي لم يكف عن متابعته وهو يتفحص الكتب واحدا بعد الأخر.
حتى الآن هو لا يعرف، كيف استطاعت عين واحده أن تقرأ ما بداخله! و لا يعرف لماذا استسلم لبائع الكتب، وهو يمد له يده برواية أحدب نوتردام!. وقتها هو لم يكن يعرف معنى أحدب، ولا نوتردام تلك، لكنه رأي القبح والجمال على غلاف واحد، ورأي اسم صوفي عبد الله بينهما. القبح مسخ مشوه اسمه كوزامودو، والجمال غجرية سمراء، اسمها أزميرالدا، بشفتين رخوتين، تشبهان شفتي صوفي منير حنا، التي لم يتمكن من تقبيلها أبدا.
على مقعد متحرك، يرسم ابتسامة متهكمة من خيال رهن حياته بحب مستحيل. أحيانا يظن أن صوفي منير كانت مجرد طيف أو خيال منحه عشقا مراوغا حتى أنه لم يعد يعرف أيهما صوفي منير وأيهما أزميرالدا. يبتسم: “لتبقى الكتابة هي الدليل الوحيد على وجودهما، والعهدة على صوفي عبد الله ” ولا شيء الآن سوى هزات رأس تربت على ألم قديم، يوم عرف من أبيه أن صوفي منير تركت العمل فجأة واختفت.
حتى الآن لا يعرف لماذا فعلت ذلك، تتركه ليخوض وحده عشقا مستحيلا ومراوغا! كل ما يذكره أن أباه كان يتجنب سيرتها، ويحدق في فراغ مشابه لما يحدق فيه الآن.
“هل وقع أبي في غرامها أيضا؟”
يلقي برأسه إلى الوراء، ويغمض عينيه. مستسلما لنسمة هواء عابرة، مفعمة برائحة البحر، عندئذ رآى نفسه، صبيا يقف على الدرجة قبل الأخيرة من سلم الصندرة الخشبية. يحدق في ساقين جميلتين، فتعاوده دفقات هرمونية أثارت دهشته:
– ياااااه .. حتى بعد كل هذا العمر؟ ترى.. أين أنت الآن يا صوفي؟
قالت بصوتها الناعم: في دير الراعي الصالح..
عندما فتح عينيه. رأي البحر ساكنا كما هو، والفضاء بلا سحاب، فهمس لنفسه: لا شيء يموت بداخلنا.. نعم .. كان أبي ( باترونيست حريمي ) مهنة تأتي بعد مصمم الأزياء، لتصنع من خياله وجودًا جماليًا..أليس هذا ما تفعله بنا الكتابة؟
سيد الوكيل
*مفتتح قصة (عاصفة الصيف ) للكاتبة: صوفي عبد الله.إحدى رائدات الأدب المصري ( 1925 – 2003)
طه حسين ورؤى تنويرية.. جدل التراث. بقلم: د. أماني فؤاد
يحكي بعض من حَضَر تشييع جثمان طه حسين، الذي خرج من جامعة القاهرة، في واقعة كانت الأولى من نوعها، كيف خيَّم الحزن على المثقَّفين المصريين والعرب، وكيف رثاه نزار قباني بقصيدة مؤثرة، وتحدَّث عبد العزي…
sadazakera.wordpress.com