تخايلني بدلة المدرس الجالس علي حافة الكنبة، ألوانها صفراء، ينخرط في الدرس،بنت قريني الثرية تتشاغل عن كلماته؛ فمنذ مغادرتها القصر وهي لا ترتاح لأي شخص ،ابنتي التي تماثلها في العمر تشخبط وتعبث بكراستها، وتنظر إلي الأنسيال الذي يحيط بمعصمه.
كثر ذهاب وإياب الأستاذ المتأنق والمشهد ثابت لا يتغير، وكأنه صورة فوتوغرافية مدسوسة في كتاب بال!
مع نهاية الدرس أدفع أجرة بنتين، وتكرار ذهول المدرس لا محل له من الأعراب!
طلبت منه عدم الحضور، فقفل راجعاً ، حاولت الاسترخاء، لم استطع،شاكتني الكنبة وكأنها تأبى جسدي المُقلق، غادرتها إلي الحصيرة،لا أدري أي مصير ينتظرني؟
أسفل الوسادة كابوس يحرك في داخلي المجهول،قد يستهويني الأمر فأغرق في بحر أمواجه مضطربة،شطآنه لا تُرصد إلا في الخرائط،وقبل أن يلتقطني الأخطبوط أتحسس شعاب الجهل.
شطرت عيناي الحائط،الموسيقي الهادئة تلاغيني،تمرح بي،أسافر إلي بلاد بعيدة،أنقب عن ذكري طعمها عذب؛هاهو البيت يحضر بمدخله الفسيح،رائحة الكلور تفوح من عتبته اللامعة،يخطو البيت إلي الخلف بضعة أمتار،يحل محله فراغ من الرمل والحصى الدقيق،وأقصى اليسار بنت صغيرة أشبه ما تكون بابنتي،تجلس فوق طوار من القش،وبيدها طبق،فيه قطع من بقايا لحم،تلعق النثار فتتساقط البرابيرمن أنفها،أدعها في متعتها،لم تلحظ وجودي،أوهكذا ظننت!
البيت والفراغ والبنت يرسمون خلفية المشهد،وفي مواجهتي الآن دورة مياه منفردة،وربما تكون ملحقة ببيت مطموسة معالمه،نصفها العلوي من زجاج،تماما ككشك تذاكر المترو،قريني في جلبابه الأصفر البلدي يقضي حاجته،في فمه سيجارة فلترها أحمر،يفحص مروري،يناديني،أقف،يسألني:
ما رأيك في نخيل رمزي؟
أقول:
مازالت فيه لقمة عيش مغموسة بالدهن.
يسهب:
ثلاث أو أربع نخلات (حلوين)،بالضبط تسع عشرة نخلة،ويمكن جنيهم مرتين.
الهواء الذي أستنشقه يفوح برائحة نفاذة وهسيسه صراخ مبحوح،تخلصًا من المأزق أقول:
انته وستجدني في الجرن.
الكاميرا تتحرك إلي الأمام،لم تدخل الكنيف لتظهر ماركته الايطالية،ولكنها تسوقني بعدستها،بيوت الأسمنت تتقافز،تندس الكاميرا في الشقوق باحثة عن بقرة أو جاموسة،تمسح المفردات لتأتي بدلائل القرية.
أتوكأ علي ذهني،أركض في مضماري الداخلي:
أيمكن للكاميرا أن تلتقط الصور التذكارية لهواجسي؟
يترامى إلي سمعي صوت جهوري يتعاطى جرعات الانفصام:
سفر وسهر،خدام وحاشية.
وفي النهاية جني البلح العرابي والحياني.
أأنفخ بالون الحاجة؟
هأ..هأ..ولو نفخت يا فالح فلن ينفجر البالون.
يخفت الصوت،ينغمس في دورق الهمس،قهقهاتي تضج،أزوغ من الكادر،تطويني الأرض،ينظرني الناس.
أنا-الآن-في الجرن،يداهم العجز جسدي فيرتخي،بهدوء،أتمدد بجوار البئر المهجورة،تتداعى الكادرات،رائحة عطنة تتسرب إلي مناخيري،أجس الموضع المجاور،أكتشف نشعاً ببقايا بول،أتأفف،أتزحزح قليلاً،أقذف طوبة علي جذع الجميزة،سقطت فوق صرة أسراري،عيناي تتربصان بالمكان،أسفل هذه القاع الرفات،عظام حكاية لم تسلم من الدود:
يمكنك الزحف ونبش الحفرة ونفض اللحد؟!
أتعتقد أنه باستردادك السر ستفقد جذور الجميز مقومات الوجود؟
أتنطفئ في صرتك جذوة الحياة؟
أتجدك فيها رغما عن مغادرتك إياها منذ أربعة عقود؟
الناموس يلهو،الغبار يمرح،روائح أطعمة الكوانين تفوح في السماء،نباح،مواء،نهيق،وثغاء تعزفهم فرقة موسيقي القرية بصحبة كورال السعال والتنهد.
أزحف،وحينما ضج قلبي نبضاً تسمرت مطرحي،أهيل الأتربة،أنقر الأرض،هاهي الخرقة البالية،أفضها،ها هي السكين،دماء سوداء فوق نصلها،ذهبت السنون ولم تمح الدماء.
صرخت وتألمت.
كتمت فمها بعصابة سوداء،حتي لا يسمعها أحد:
ألم تظلم نفسك بقتلها؟
ماذا تقول لعقل ذاهل،وفي غياهب الجب ساكن؟
ولماذا لا تعلن الحزن وتتخلص من الكبت،فقد كان لها في قلبك متكئاً؟
أيمحو الدمع بقع الغدر؟
لماذا نكأت الجروح وفرغت عالمك الموبوء بك؟
لو حفرت أكثر لوجدتها،أيمكن لديدان الأرض أن تعوفها؟
انصحك ألا تجرب النبش، فأنت لم تقتلها وحدك، بل جميعهم نصبوا لها المشانق، علي أبواب الجامعة، علي نوافذ الدواوين، في مستهل الطرق، علي باب زويلة، دع أمنية في مرقدها، لا تحاول فك جدائلها،اتركها في بطن أرض الجميز.
أصحو علي هزات ابنتي، ألمحها مهندمة، أندم علي ضياع الحلم، أسأل:
أتنوين الرواح؟
تومئ بالموافقة، من باب المجاملة أسأل:
أهناك من أساء إليك؟
تشيح بوجهها بعيدا، أبدل ملابسي مفكراً:
ربما أعود ويعود السر.
عصام الدين محمد أحمد
كثر ذهاب وإياب الأستاذ المتأنق والمشهد ثابت لا يتغير، وكأنه صورة فوتوغرافية مدسوسة في كتاب بال!
مع نهاية الدرس أدفع أجرة بنتين، وتكرار ذهول المدرس لا محل له من الأعراب!
طلبت منه عدم الحضور، فقفل راجعاً ، حاولت الاسترخاء، لم استطع،شاكتني الكنبة وكأنها تأبى جسدي المُقلق، غادرتها إلي الحصيرة،لا أدري أي مصير ينتظرني؟
أسفل الوسادة كابوس يحرك في داخلي المجهول،قد يستهويني الأمر فأغرق في بحر أمواجه مضطربة،شطآنه لا تُرصد إلا في الخرائط،وقبل أن يلتقطني الأخطبوط أتحسس شعاب الجهل.
شطرت عيناي الحائط،الموسيقي الهادئة تلاغيني،تمرح بي،أسافر إلي بلاد بعيدة،أنقب عن ذكري طعمها عذب؛هاهو البيت يحضر بمدخله الفسيح،رائحة الكلور تفوح من عتبته اللامعة،يخطو البيت إلي الخلف بضعة أمتار،يحل محله فراغ من الرمل والحصى الدقيق،وأقصى اليسار بنت صغيرة أشبه ما تكون بابنتي،تجلس فوق طوار من القش،وبيدها طبق،فيه قطع من بقايا لحم،تلعق النثار فتتساقط البرابيرمن أنفها،أدعها في متعتها،لم تلحظ وجودي،أوهكذا ظننت!
البيت والفراغ والبنت يرسمون خلفية المشهد،وفي مواجهتي الآن دورة مياه منفردة،وربما تكون ملحقة ببيت مطموسة معالمه،نصفها العلوي من زجاج،تماما ككشك تذاكر المترو،قريني في جلبابه الأصفر البلدي يقضي حاجته،في فمه سيجارة فلترها أحمر،يفحص مروري،يناديني،أقف،يسألني:
ما رأيك في نخيل رمزي؟
أقول:
مازالت فيه لقمة عيش مغموسة بالدهن.
يسهب:
ثلاث أو أربع نخلات (حلوين)،بالضبط تسع عشرة نخلة،ويمكن جنيهم مرتين.
الهواء الذي أستنشقه يفوح برائحة نفاذة وهسيسه صراخ مبحوح،تخلصًا من المأزق أقول:
انته وستجدني في الجرن.
الكاميرا تتحرك إلي الأمام،لم تدخل الكنيف لتظهر ماركته الايطالية،ولكنها تسوقني بعدستها،بيوت الأسمنت تتقافز،تندس الكاميرا في الشقوق باحثة عن بقرة أو جاموسة،تمسح المفردات لتأتي بدلائل القرية.
أتوكأ علي ذهني،أركض في مضماري الداخلي:
أيمكن للكاميرا أن تلتقط الصور التذكارية لهواجسي؟
يترامى إلي سمعي صوت جهوري يتعاطى جرعات الانفصام:
سفر وسهر،خدام وحاشية.
وفي النهاية جني البلح العرابي والحياني.
أأنفخ بالون الحاجة؟
هأ..هأ..ولو نفخت يا فالح فلن ينفجر البالون.
يخفت الصوت،ينغمس في دورق الهمس،قهقهاتي تضج،أزوغ من الكادر،تطويني الأرض،ينظرني الناس.
أنا-الآن-في الجرن،يداهم العجز جسدي فيرتخي،بهدوء،أتمدد بجوار البئر المهجورة،تتداعى الكادرات،رائحة عطنة تتسرب إلي مناخيري،أجس الموضع المجاور،أكتشف نشعاً ببقايا بول،أتأفف،أتزحزح قليلاً،أقذف طوبة علي جذع الجميزة،سقطت فوق صرة أسراري،عيناي تتربصان بالمكان،أسفل هذه القاع الرفات،عظام حكاية لم تسلم من الدود:
يمكنك الزحف ونبش الحفرة ونفض اللحد؟!
أتعتقد أنه باستردادك السر ستفقد جذور الجميز مقومات الوجود؟
أتنطفئ في صرتك جذوة الحياة؟
أتجدك فيها رغما عن مغادرتك إياها منذ أربعة عقود؟
الناموس يلهو،الغبار يمرح،روائح أطعمة الكوانين تفوح في السماء،نباح،مواء،نهيق،وثغاء تعزفهم فرقة موسيقي القرية بصحبة كورال السعال والتنهد.
أزحف،وحينما ضج قلبي نبضاً تسمرت مطرحي،أهيل الأتربة،أنقر الأرض،هاهي الخرقة البالية،أفضها،ها هي السكين،دماء سوداء فوق نصلها،ذهبت السنون ولم تمح الدماء.
صرخت وتألمت.
كتمت فمها بعصابة سوداء،حتي لا يسمعها أحد:
ألم تظلم نفسك بقتلها؟
ماذا تقول لعقل ذاهل،وفي غياهب الجب ساكن؟
ولماذا لا تعلن الحزن وتتخلص من الكبت،فقد كان لها في قلبك متكئاً؟
أيمحو الدمع بقع الغدر؟
لماذا نكأت الجروح وفرغت عالمك الموبوء بك؟
لو حفرت أكثر لوجدتها،أيمكن لديدان الأرض أن تعوفها؟
انصحك ألا تجرب النبش، فأنت لم تقتلها وحدك، بل جميعهم نصبوا لها المشانق، علي أبواب الجامعة، علي نوافذ الدواوين، في مستهل الطرق، علي باب زويلة، دع أمنية في مرقدها، لا تحاول فك جدائلها،اتركها في بطن أرض الجميز.
أصحو علي هزات ابنتي، ألمحها مهندمة، أندم علي ضياع الحلم، أسأل:
أتنوين الرواح؟
تومئ بالموافقة، من باب المجاملة أسأل:
أهناك من أساء إليك؟
تشيح بوجهها بعيدا، أبدل ملابسي مفكراً:
ربما أعود ويعود السر.
عصام الدين محمد أحمد