لم تعد ترغب في المزيد من البقاء بيننا، لم تعد تبالي بما يدور حولها من أحداث وتطورات، لم تعد تسأل احد منا سوى عن صحته وابنائه وليس عن آخر أخباره وحواراته مع الدنيا مثل المعتاد. شهيتها للكلام تراجعت بدرجة ملحوظة، مبادرتها بالتحدث وفتح المواضيع اختفت، تلقائيتها في الحديث عن نفسها وعن آخر الحوادث والأزمات التي تعرضت لها، وعن اولئك الذين زاروها أو هاتفوها للسلام والاطمئنان عليها ضاعت نهائيا منذ فترة ليست قصيرة. مسلسلاتها التلفزيونية المفضلة لديها على قناة النيل للدراما التابعة للتلفزيون المصري لم تعد تهتم بمتابعتها أو الانبهار والدهشة باحداثها والتعاطف مع ابطالها المظلومين. عندما نسألها لماذا لاتتابعين تمثيلية معينة دائما كانت تثني عليها تردد عبارة " مبقتش عايزة خلاص". انسحاب الذاكرة التدريجي من رأسها بدت ارهاصاته مزعجة ومقلقة. كأنه انسحاب تدريجي من واقعنا بدأت في فرضه علينا أو تهيئتنا له. من يستطيع ان يوقف ذلك يا الله؟. لا أحد!. مالت الشمس الى المغيب، تيار الاكتئاب يبدو جارف، لكنه اكتئاب مخفي، لم يستطيع الظهور في العلن، كما يتمكن من ملامح وجهها الجميل المليح، ولا من عينيها المستديرتين اللامعتين اللتين تخفيان عنا الما جسديا ونفسيا رهيبا يعمل داخلها. كما لايستطيع هذا الاكتئاب الرزل ان يحبسها في غرفة نومها التي اعتادت ان لا تلجها سوى في الليل عند النوم فقط، حدث ذلك حتى آخر لحظة ظهرت فيه معنا. لاتزال صامدة صمود الشجعان، تحارب الأيام التي تتراكم فوق كاهلها الذي بدأ يئن من كثرتها وثقلها، تحارب الملل والرتابة وتكرار المشاهد التي تعايشها في رضاء داخلي غريب. الشيء المثير للعجب والدهشة هو تلك المقاومة العنيدة من ناحيتها لكل محاولتنا للضغط عليها حتى نكسر هذا الملل الذي استشعرناه عندها، وتلك الرتابة التي سلبت تعاطفنا وتوحدنا بها، واخراجها من محبسها الاختياري في البيت لكي تنزل معنا في نزهة بالسيارة، نمخر خلالها عباب الشوارع، تصافح عينيها سحنات أخرى مختلفة، وهواء مختلف، وشمس مختلفة، وثرثرة وعراك مختلفين في الطريق، وان تعاين كل ما استجد أو تغير من أمور كثيرة في الطرقات والمباني والمحال التجارية، وحركة الناس وأحوالهم. فرضت على نفسها العزلة أو المحبس الاختياري منذ عشرة سنوات. تأبي الخروج سوى لزيارة الطبيب في الظروف الطارئة، أو تقديم واجب العزاء لأبناء رفيقة من رفيقات رحلة الأيام الطويلة المرهقة. لاتزال تكافح من أجل ان تظل تمضي في مجرى الوعي والواقع، رغم ذلك الاكتئاب اللعين الخفي الذي تسلل داخلها من دون ان ندركه أو نلحظه. لا تزال نظافتها الشخصية على أعلى مستوى مثل المعتاد، لاتزال تحتفى بالعباءات الجديدة المهداة اليها من احفادها في عيد الأم، ولاتزال تحتفى بتناول الفسيخ والرنجة في شم النسيم وسط تجمع الابناء والأحفاد في جو احتفالي مهيب مزدحم بالضحكات والنكات والضوضاء المؤنسة المبهجة والمتصالحة مع الفرحة والحياة. دائما كانت تطالع الشمس من زجاج نافذة غرفتها بجوارها، تصر دائما على غلقها خشية دخول الحشرات والفئران من الخارج الى داخل عرينها، تطالع النهار من خلف زجاج النافذة المغلق ، تتصاعد عيونها نحو السماء، تأمل ان يجود علام الغيوب عليها بهدية عظيمة من عنده، تمنحها الدهشة والشغف، تستعيد بها حيوية داخلها الذي كبلته قيود الكآبة وانطفاء الشغف. تواصلها مع ربنا لم ينقطع لحظة واحدة، سواء صلاة أو عطاء دائم للفقراء والمحتاجين، وللاحفاد الذين يزورونها، وكذلك فريضة الصيام رغم حالتها الصحية المتردية، وكيس الدواء بجوارها من كل صنف ولون المطلوب منها ابتلاعه. اصرارها وعنادها دائما يفوق اصرار من حولها، اولئك الذين يلحون عليها ان تستخدم رخصة الافطار التي فرضها الله لمن هم على شاكلتها في أنهر رمضان الصعبة، دائما تأخذها نوبات شرود سرية تسرقها منا لحظات ثم تطالع الشمس وتنتظر هدية السماء، لا تبوح ابدا الى أحد بتلك الرغبة المخبؤة داخلها ولا ذلك الأمل المرجو الذي تنتظره، بنفس القدر الذي يمنعها من البوح بموجات الألم التي تتصاعد وتنتشر داخل احشائها في خبث مريب. تترقب بشغف صوت الهاتف أو جرس الباب طمعا في ان يهل أحدهم من الابناء أو الاحفاد أو الأقارب أو الجيران، يهل عليها ويملأ يومها بالونس وبعض الدفء، مثل ترقبها لحركة الشمس من السطوع الى الخفوت وتحمل معها ايام اضافية، وهموم واكتئاب وألم يسرى في احشائها بخبث متحدي يباغتها في الليل، لكن لا يجرؤ على العراك معها في ضوء النهار وشمسه المشرقة. هذه المرة وبينما كانت ترقب لحظة غروب الشمس وتهيئ نفسها للعراك المؤلم المعتاد في الليل انهارت مقاومتها العنيدة فجأة، تداعي كل شيء في لحظة. غابت مع الغروب هذه المرة. كأنها قررت ان تضع حدا لتلك الموجات الرهيبة شديدة المراس التي لايشعر بها أحد سواها وقد احتملتها كثيرا جدا. ربما كانت هذه المرة فوق طاقة احتمال شجاعتها، وربما رغبت هي نفسها في الحد من الانتظار والترقب ومراكمة الأيام السخيفة عديمة المعنى والجدوى خاصة بعد رحيل جميع من شاركوها صحبة الأيام وحلاوة الذكريات. شمس الجسد غابت أخيرا مع غروب الشمس، لكن شمسها تظل تدور داخلنا مع دوران حركة الشمس في السماء، وتظل تطل علينا من عرينها باعتبارها سمش الشموسة الجميلة الرائعة، وأرها تقول " انتظروني، ابدا لن اغيب مثلما ترحل الشمس في مغيبها الحتمي.