عبدالله عبدالإله باسلامه - تشوه

لم أصدق الإشاعة حتى صدمني وصول القرار ضمن الأوراق الواردة من الوزارة إلى مكتبي.
فكرت بأن أقدم استقالتي فورا من منصبي كنائب للمدير، وتنظيم عصيان داخل المستشفى، وأن أشعل حربا عبر وسائل التواصل حتى يحترق القرار، وتتراجع الوزارة عنه، لكن خيل لي أن بيتي الجديد يحترق معه؛ فلم يبق غير مرتب شهرين مع الإضافي ويكتمل حلمي.

شعرت بعزيمتي تتهاوى، وبأن علي التريث قليلا حتى أرى المدير الذي لم يكن قد وصل بعد؛ فهو المعني بهذا الأمر بالدرجة الأولى. أسرعت بالخروج من المستشفى، كي أتجنب خوض نقاش عقيم مع الأطباء أو العاملين حول هذه (الكارثة)، ورحت أسير في الطريق حائرا في أمري، لأجد نفسي بالقرب من بيتي الجديد الذي أصبح جاهزا للتشطيب.

بدا لي رائعا ومثاليا؛ ماعدا الغرفتين الصغيرتين في الأعلى، اتصلت بالمهندس وطلبت منه إزالة الجدار الفاصل، ودمج الغرفتين في غرفة واحدة، واسعة تصلها أشعة الشمس أغلب أوقات النهار لتكون غرفة أبي الخاصة؛ فهو مصاب بتضخم في البروستات، كما يعاني أيضا من داء النقرس .

أزعجني رد المهندس (سيشوه المكان ف....) قاطعته بأن يفعل ما أريد، وهددته باني لن أسلم بقية مستحقاته لتقفز صورة القرار المشؤوم أمامي.

عدت مسرعا إلى المستشفى ليفاجئني المدير ببروده، واستسلامه :
- هذا قرار وزاري وعلينا تنفيذه.
- من الجنون القبول بضابط عسكري يحل محلك!! هذا مستشفى وليس إدارة أمن .
- ستتعودون عليه .
دهمني شعور بالإحباط، والعجز غير مستوعب أن يدير ضابط شرطة المستشفى !! .

أسعدني رؤية الارتياح على وجه أبي، وأنا أدور به مع زوجتي، وأولادي في أرجاء البيت لأصل به إلى غرفته :
- أما أبي فقد اخترت له أكبر وأحلى موقع .

ما أن فتحت الباب حتى تسمرت في مكاني مصعوقا، بينما هتف أبي مستنكرا (ماهذا يادكتور)؟
خرجت بسرعة من الغرفة مستلا هاتفي :
- ما الذي فعلته يابشمهندس في وسط الغرفة ؟!
شعرت بشماتة واضحة في صوته :
- لقد قلت لك أن إزالة الجدار سيشوه...
- أيها ال... لم تقل لي أن هناك عمودا ضخما يتوسط الجدارين..
- ستتعود عليه.
- أيها....الو.. الو..

قررت تأجيل محاسبته، وعدت لأتلقى سيلا من التوبيخ، تحول بمرور الأسابيع والأشهر إلى تهكم، وسخرية تتجدد بزيارة الأصدقاء، لم تنقطع إلا يوم نقلت زوجتي فراش أبي ومسنده، والمتكأ، وبعض الوسائد إلى العمود، فأشعره ذلك بالارتياح كونه اصبح قريبا من الباب، ومن التلفاز، كما دقت زوجتي في العمود مسمارا لمسبحته حتى تكون بمتناول يده اليمنى، ومسمارا آخر للراديو الصغير، ورفا صغيرا لنظارته، وآخر لاقلامه، فأصبحت في مأمن من عبث الأولاد، ثم ركبت رفوفا أكبر حجما لأوراقه، ومصحفه، وكتبه، وبضعة مسامير في الأعلى قليلا علقت عليها معطفه، والشال، وفوقهما مسمارين للعصا، والمظلة... وفي الأعلى قليلا رفوفا صغيرة لبعض التحف الزجاجية واستغلت باقي المساحة - وهي المولعة بنباتات الزينة - لتصنع مكانا لأصص الزهور، ونباتاتها المتسلقة فاكتسى العمود بالاخضرار، واكتنز بالأشياء المهمة والجميلة، وتحول إلى محور يلعب الأولاد حوله لتسلية جدهم الذي تضخمت لديه غدة البروستات فاصطحبته لعمل الفحوصات اللازمة.

قررت إسقاط عريضة الشكوى التي كنت أجهزها سرا ضد المدير؛ برغم جهله المطبق بالأمور الطبية إلا أنه كان بارعا في ضبط النظام، والنظافة، والدوام، والإدارة... كما شعرت نحوه بالامتنان وهو يستقبل أبي مرحبا به، ومصرا على مرافقته، ودفع عربته بنفسه إلى عيادة الطبيب المختص الذي قرر إجراء عملية تقتضي بقاءه شهرا كاملا في المستشفى.

كنت متلهفا لعودة أبي إلى البيت فقد اعددت له مفاجأة ستفرحه بمجرد وصوله، لأتفاجأ بتبخر ابتسامته، وهو يتلفت وسط الغرفة:
- أين العمود ؟
- أزلته..فقد كان يشوه ال..
- واين مسبحتي؟! وكتبي، ومعطفي، وعصاي، والراديو أيها .....

توتره وغضبه المتفاقم دفعني لأقفز داخل الغرفة:
- هنا في الجدار ..لقد صنعت لك مكتبة فيها كل حاجياتك و..
- ومن قال لك انني أريد مكتبة ؟ أيها ال...

دخل في نوبة سعال كاد أن يسقط بسببها، فأسرعت زوجتي لتسنده، بينما فر الأولاد من ثورة غضبه المتفاقمة، فأخذت أتوسل إليه أن يهدأ، وانطلقت إلى النجار كي يصنع عمودا من الخشب بنفس حجم الخرساني، ويكون مجهزا بالرفوف، والمشجب، والمسامير ...

لم تهدأ ثائرة أبي كثيرا، رغم انقضاء أسبوع، فكلما أراد شيئا سألني متى يرجع العمود؟ وكلما سقطت ورقة، أو ذبلت زهرة تسألني زوجتي متى يصل العمود ؟ وإذا سئم الأولاد اللعب سألوني متى سيعود العمود؟!! وكلما دخلت الغرفة شعرت بأن ثمة شيئا جميلا كان فيها واختفى !! ِ

عبدالله عبدالإله باسلامه.
اليمن ذمار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى