د. مصطفى رجب - رحلتي إلى القاهرة :(6)

(6)

وصل القطار إلى محطة الجيزة وتوقف عليها ، قمت من مقعدي لأتوجه للنزول ، نظرت للسيدة الفضلى ..كانت مازالت تأكل بشراسة ، ونظرت للتي خلفي ، كانت ماتزال تحكي بطولاتها مع ضحاياها ، ونظرت لبطل الحروب ( الإذاعية) ، كان ما يزال يحلل نوعيات النساء اللواتي أحبهن أو كرههن ، نظرت لبعل السيدة الأكول فلم أتبن ملامح عينيه من شدة كثافة نظارته .. نزلت من القطار وفي عقلي أسئلة كثيرة أهمها : كيف يمكن لسيدة أن تأكل وتشرب وتقزقز لمدة ثماني ساعات متواصلات بلا أي فاصل ؟ وكيف يمكن لموجهة " تربوية " أن تحكي نحو ذلك الوقت عن بطولاتها مع ضحاياها من المدارس التي تتابعها ؟
توجهت إلى محطة مترو الأنفاق كما أرشدني المرشدون ، وعندما وقفت أمام شباك التذاكر ، ومددت للرجل ورقة بخمسة جنيهات وطلبت تذكرة إلى محطة كوبري القبة ، نظر إليَّ الرجل نظرة مريبة ، ودقق في ملامحي كما يدقق المحققون في مستندات مشكوك فيها ، ثم ازورت عيناه ، ودقق في النظر إلي ثم سألني بأبوية حانية : حضرتك وصلت ال 65 سنة ؟ قلت له متوجسا : نعم أنا فوق الخامسة والستين فتبسم في حنو أبوي بالغ ، وكرم حكومي سابغ ، وأعاد لي جنيها حديديا – مع التذكرة – وقال : من حق حضرتك ( نصف تذكرة) مادمت فوق الخامسة والستين !! قلت له : من قال هذا ؟ قال : هذا قرار الحكومة .
كان اسم ( الحكومة ) كافيا ، مع قروي مثلي ، لاصطكاك الركبتين والفكين واختلاج العينين ، لكن هذا كله لم يمنع سعادتي بهذا الجنيه الحديدي الذي أعادته الحكومة لي مشكورة .
لم يكن أمام الشباك أحد غيري ، فوجدتها فرصة للحوار مع الحكومة ممثلة في ابنها ذلك الشبَّاكي الأصيل ، فسألته ببراءة قروي موغل في التشكك والحذر : حضرتك تعرفها ؟ هز رأسه مستغربا وسألني : أعرف من ؟ قلت : الحكومة فتبسم ضاحكا وقال : نعم أعرفها ..أتريد منها شيئا ؟ قلت : لنفسي : لا ، لكن أرجوك أبلغها بأن أمام القصر الجمهوري بالقبة [ الذي أسكن بجواره ] عدد كبير من الرجال والنساء والأطفال ، يبيتون تحت الكباري العلوية ويعانون في الشتاء القارس من لطم البرد ، فضلا عن الجوع ، والخوف من الكلاب الضالة ، ومن البشر المجرمين . أوحتْ لي هزة رأسه بأن الرجل ظنني من المجانين ! وقد أشار لي إلى الرصيف بما معناه : اجرِ.. يا أستاذ ، المترو وصل .
لحقت بالمترو ، وما كدت أقف وسط زحامه حتى انبرى فتى مهذب يجلس بجوار سيدتين لعل إحداهما أمه ، فأخذ بيدي وأجلسني مكانه مشكورا فشكرته ودعوت له وبدأت أتأمل من هم حولي...
ويا ليتني ما نظرت ...!!!

مصطفى رجب - رحلتي إلى القاهرة: (7)

(7)

...أجلسني ذلك الفتى - ذو المروءة - مشكورا مكانه بجوار سيدتين فضليين ، كأنهما أمه وإحدى جاراتها أو قريباتها أو زميلاتها ، فقد كانتا مندمجتين اندماجا نسويا حادًّا في أحاديث تتصل بالزواج والنساء و" عمايلهن " ، وبالرغم من أن الشاب الذي كان في مقابلي بالجهة الثانية من المترو قد شدني بمنظره الغريب ، فقد وجدت نفسي مضطرا لمتابعة حكايات السيدتين الفضليين اللتين (تكومت ) بجوارهما ،
كانت إحداهما تحكي لأختها عن فشل زواج قريبتها ( ابنة ابن شقيق زوج بنت خالة حماة عمة ابن أخت سلفتها ) بسبب خلاف نشب بين أسرتي العروسين حول ( النيش) - بنون مشددة مكسورة بعدها ياء – وقد أردات إحدى الأسرتين التعجيل بشراء الثلاجة والغسالة والمراوح والمقشات ، وسكاكين المطبخ ...الخ ، مع تأجيل شراء ذلك ( النيش) - بنون مشددة مكسورة بعدها ياء – إلى قرب موعد الزفاف ، فأبت الأسرة الأخرى أشد الإباء ، ورأت في ذلك مساسا مهينا بوضعها الاجتماعي ، وتاريخها العائلي ، فجدتها نفيسة طيب الله ثراها – كما قالت – تزوجت ب " نيشها " قبل خمس وسبعين سنة ، فكيف نخالف تلك التقاليد . كانت المستمعة- فيما بدا لي - غير مقتنعة كثيرا بأهمية " تنييش " العرائس ، ولعلها كانت ترى أن ما في المطابخ من رفوف قد يكون كافيا وإن لم تصرح بذلك ، لكنني استشففته من بقايا مقاطع محاولاتها الموءودة لاقتحام حوار لم يتم قط بينها وبين محدثتها .
كان صوت ذلك الشاب الذي كان في مقابلي بالجهة الثانية من المترو ، وشدني بمنظره الغريب ، قد ارتفع قليلا ، فنقلت بصري إليه فرأيت ما لم أره في حياتي : كان للشاب لحية مثلثة الشكل ، تمتد لنحو ثلثي مسطرة إلى أسفل على هيئة مثلث متساوي الساقين ، منسقة كل التنسيق ، فلا تكاد تظهر منها شعرة واحدة شاذة خارج حدود ذلك المثلث المقلوب ، أما ما حول أذني الفتي ونصف رأسه الخلفي فكان محلوقا حلاقة حديثة ناعمة تنعيمية كأشد ما يكون التنعيم . أخذت أتأمل هذه الحلاقة العجيبة ، وأتخيل " منظر " أبيه الذي خلَّفه كيف يكون شكله ؟ وكيف سمح لهذا الفتى أن يحلق هذه الحلاقة ؟
غير أن تساؤلاتي تلك تضاءلت كل التضاؤل ، واضمحلت أشد الاضمحلال ، حين نزلت بعينيَّ على جسد الفتى لأكتشف أن بنطلونه إلى ركبتيه فقط .. !!
وهنا كدت ألطم ...
لولا أن بجواري سيدتين فضليين مندمجتين في حكايات أتابعها فخشيت إن لطمت أن تواسياني ببعض الصراخ فلا أسمع بقية حديثهما عن النيش - بنون مشددة مكسورة بعدها ياء –...
وإلى الغد ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب الرحلة
المشاهدات
1,137
آخر تحديث
أعلى