إيمان فجر السيد - قراءة نقدية لنص رسالة للأستاذ ياسر جمعة

نص الرسالة:

(إليــكِ)

وجدت العذوبة كلها منذ قليلٍ، في الحلم، حيث كان ينافس همسكِ -رغم حزن ما كنت تقولين- كل الضجيج الذي تركتْه في روحي الأيام، فانتعشتُ.. نعم ينعشني حضوركِ ويزرعني في قلب الحياة، التي إن كنتِ لا تعلمين أراها تلفظني وتدفعني للمغادرة، غير أني، في حضوركِ وما يصنعه بي، أجدها تفتح ذراعيها لي، وأنا لن ألقي بنفسي في حضنها إلا لو كان لها ملامحك.. ربما لأتذوق طعم الجمال، ربما لأولد من جديدٍ، أو لأني أفتقدكِ، وجدًا، وأشعر بوحشةٍ كاويةٍ بحجم المسافات بيننا، غير أني أربِّت على روحي بما لكِ فيها، وهو كثيرٌ: صوركِ التي تشاغب المستحيل، جموح أطيافك التي تقتحمني في غفلةٍ من الحزن الجاثم، وكلماتكِ.. كلماتك القوية، الناصعة، التي يرددها قلبي، ما زال، كأنها صَلاته الخاصة، والتي لكلٍّ منها سحرُ الكاف والنون.

عزيزتي -أود أن أناديك بقولٍ آخر غير هذا، ويمنعني الغموض الذي يلفُّ كل ما هو حقيقيٌّ في حياتنا، ويمنعني، كذلك، فخ الحنين، لذلك سأكتفي بها، وربما أكررها كأنها الكلمة الوحيدة التي تعبر عن شعوري بكِ!- ما زلت أسمعك وأنت تهمسين:
- في كل شجرةٍ غابة، فلا توقظها إن رأيتها نائمةً، ولا تشعل السكون بهمسك المشتاق، واحفظ ما يعتمل في الروح.. لا تحرره، أو حرره، وانتظر أن تلملم رماد غابتي.
فأرتجف، ويحرق المجاز في جملتكِ قلبي، لذا أقوم أفتح النافذة لأحصل على المزيد من الهواء.. هكذا، وأغمض عيني، فيتفجر فيَّ الشوق لأن أضمك.. أضمك كمن يلوذ بالموت خوفًا منه، وكما حدث في الحلم، تقوديني إلى أرضٍ عاريةٍ إلا من عشبٍ صغيرٍ، لينٍ، وتتكورين فوقي كطفلةٍ تضج بالأنوثة والغموض، وكما في الحلم أيضًا أربت عليكِ منتظرًا، في شوقٍ محتارٍ، خطوتك القادمة: هل ستكتفين بالبكاء على صدري ثم تذهبين، أم ستصيبك الحمى، فتمسكين كفي وتتحسسين بها كل موضعٍ من جسدكِ، كمن يدل أعمىً على الطريق؟ وفيما أتمنى العمى، أسمعك تقولين:
- هل خانتني الأيام أيضًا؟
ويردُّ الصدى:
- لقد خانني قلبي.
فأسقط من الحلم، أو من الخيال، على أرض الواقع القاسية متلفتًا حولي ولا أجدكِ، فأردد جملتكِ:
- هل خانتني الأيام أيضًا؟
وأغلق النافذة.

أشرب الآن قهوتي المسائية، مع السيجارة رقم (٤٧) لهذا اليوم، ويستحضر خيالي ما حدث في الحلم، بعد همسكِ والصمت السميك، وأنت تتجردين، وتجرديني ملهوفةَ، لنغيب في بعضنا والوجد للحظاتٍ، أو لدقائق، وفيما كانت تتعانق ساقاكِ حول وسطي، لأنظركِ من علٍ، صُعقتُ.. نعم صُعقتُ، لقد كنتُ أعتقد إلى ما قبل هذه اللحظة، الآن، أنك تغمضين عينيكِ علي، ولكني لم أجد نفسي في عينيكِ، ولا في، ولا في هذه اللحظة رغم حميميتها والشبق.. لم يكن هناك أحدٌ غيركِ، أنتِ فقط، كأنكِ الغابة التي تسكن الشجرة النائمة، وكنتُ وكأنني فكرةٌ سقطت من رأسٍ ما وفقدتْ ذاكرتها إثر ذلك، أخبركِ بهذا وأنا أشعر بغصةٍ، يحاول عقلي أن يتجاهلها، وكأن ما يحدث يحدث لآخر!

عزيزتي، في الحقيقة -هل يوجد حقيقةٌ أصلاً؟- أود أن أسألك: هل نستطيع أن نعيش بوجهٍ واحدٍ فقط؟
- نعم.
يقولها صوت الأيام التي كانت لنا، ويضيف:
- مع من نحب، وكذلك مع من نكره.
فأضحك، متأملاً ما تقوله الأيام، وأفكر أننا نفعل ذلك دائمًا، عن وعيٍ مرةً وعن لا وعيٍ مراتٍ، وكذلك تفعل بنا الحياة في تقلبها الحاد، وكأننا، نحن والحياة، نخشى الوجه الواحد لنا وللأشياء، فنمسخه، أو نبدله، مع أن أرواحنا تمشي في طريقٍ أخرى، ووحيدةٍ، نحو المعنى الأساس الذي نهرب ونحتال عليه، ألا وهو: الوحدة. ولكن لماذا نهرب من الحقيقة الوحيدة فينا؟

يحذرني الخوف الذي كان في همسكِ من الإجابة، فأغمض عيني لئلا أرى حريق الغابة، وأصرخ بكل ما يعتمل في روحي.. بكل ما لكِ فيَّ، ولا أنتظر الرماد، ألقي بنفسي في النار، وأنا موقنٌ أن هناك يدٌ، ربما لطفلٍ، ستجمع رمادنا وتصنع منه بعد مزجه بالكثير من ماء البراءة والحب، تمثالاً، سيكون له شكلكِ وجنوني بكِ، وما إن يتركه هذا الطفل مجهدًا وينام، حتى تدب فيه الروح، لذا يقترب منه كي يوقظه، فتستيقظ الغابة كلها.
إيمان
إيمان السيد
القراءة النقدية:

يُعتبر الأدب التراسلي- برأيي- من أجمل الفنون الأدبية على الإطلاق، وما قلِّة الاهتمام به إلا بسبب ما يُلحقه نشر الرسائل من إشكالياتٍ تحول بينها وبين نشرها على الأغلب، رغم أدبيتها المعترف بها، سواء في الأدب الغربي كرسائل جوليت دروات إلى فيكتور هوجو، ورسائل كافكا إلى ميلينا، أو في الأدب العربي... كرسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة، ورسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، ولعلَّ الكثير من هذه الرسائل طرقت باب التأليف أكثر من باب التراسل ،بغرض التواصل، فحظيب بمرتبةٍ عاليةٍ في الأدب، سيما أنَّ فنَّ الرسائل قليلُ التدوال في ظلِّ طغيان الأجناس الأدبية الأخرى كالراوية والقصة القصيرة رغم فرادة أدب الرسائل وجماله وتميّزه.

نص القاص هنا رسالةٌ واضحةٌ إلى (فتاةٍ ما) آثر ألا يذكر اسمها واكتفى بعنونة الرسالة ب (إليكِ) وقد كتبها بروحه نظرًا للوجدانية العالية الواضحة في النص، وأراها كرسالةٍ تنافس-وبقوةٍ- القصة القصيرة كنجس أدبي، وقد استطاع الكاتب عبر رسالته هذه تحقيق معادلةٍ جميلةٍ من خلال مزجه بين نوعين من الفنون الأدبية في رسالته المميزة هذه، إذ ارتقت لمستوى كتابة القصةبأسلوبٍ سرديٍ شائق، فيها أحداثٌ وشخصيَّاتٌ وزمانٌ ومكانٌ، وأكثر من فكرةٍ ،خاصةٍ ومجتمعيَّةٍ، تناولها الكاتب هنا بشكلٍ روحانيٍّ، تناوبت بين الواقع والخيال، أي بين ما يعيشه من آلام البعد وقسوته في الواقع، وما يحياه في الخيال من آمال اللقاء بفتاته تلك، وبثِّ مشاعره الجيَّاشة في القرب والبعد، والتأثير الكبير لتلك "العزيزة" في نفسه؛ ليتعدَّى حدود الواقع المرير متجاوزًا الحلم إلى المعنى الفلسفي لحقيقة ما بينهما من ميثاقٍ غليظٍ، لا تحلُّ وثاقه قسوة البعد، ولا صروف الأيام.

نلاحظ تصارع الذَّات الحقيقيَّة مع الذَّات الحالمة في هذا النص، والعتب اللطيف الذي يحاول القاص أن يبثَّها إياه لفتاته... عبر نص رسالته التي يحاول جاهدًا أن يستجرّها للحلم الجميل، أو الخيال الجامح؛ ليعيش معها بعض حياةٍ وقد حال الواقع بينهما.

الشخصيَّات هنا مركَّبة بين شجرةٍ وغابةٍ، وكلاهما مؤنث لعلهما (فتاته) التي يكتب لها رسالته النارية هذه، ويبثُّها لواعجه، والبطل هو السارد نفسه والطفل الصغير بينهما ذاك الذي نحت تمثالًا لفتاته، كذلك جعل الكاتب من الأيام شخصيَّةً مركبةً حاورها كثيرًا، وشكى منها وعليها.

أما الحدث الأساس والبطل في هذا النص، فهو الحنين...الحنين الذي يجعله لا يتردَّد لحظةً، ليرميَ بنفسه في مجاز الغابة، لعلّ الاحتراق الفعلي أخفَّ وطأةً مما يعيشه من لواعج الشوق والحنين...

نصٌّ شاهقٌ، جذبنا من ياقات قمصاننا منذ وقعت عيوننا على الكلمة الأولى، وأمسك بذمامنا ،بقوةٍ، حتى الكلمة الأخيرة، وإن كنت لأرى أنه ليس من أخيرٍ لإبداع كاتبن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى