محمّد الهادي خضراوي - رهائن لعنة اليمّ..

" وليس في جزيرة لنبذوشة شيء من الثمار أو الحيوان"
الإدريسي ( قبل عشرة قرون)


طلَبتِ منّي أن أقصّ عليكِ ما حصل. لن أبدأ من البداية، فأنتِ تعرفينها بجلّ تفاصيلها وسأكتفي بذكر ما حدث في الأيام الأخيرة:
صحوتُ فوجدت نفسي في إحدى غرف ذلك المستشفى لعلّها غرفة إنعاش وكان منصور ابن عمتي في الركن الآخر من الغرفة وقد فهمت أنه قد استفاق قبلي بيومين و كانت خراطيم وأسلاك وأجهزة طبية تحيط بنا و كان في فمي أنبوب لم يكن لمنصور مثله. كان هناك شرطيّ يطلّ من حين إلى آخرمن باب الغرفة يلقي علينا نظرة ثمّ يخرج و يغلق الباب خلفه وكانت هناك ممرّضة عجوز تحمل علامة الصليب الأحمر على طاقيتها تتردد علينا فتراقب الأجهزة وتفحص رجلي منصور ولا تتكلّم إلا نادرا و يبدو أنّ منصور قد علّمها معنى اسمه فقد سمعتها تدعوه فيتشنزو .
اقتربت مني الممرضة بعد أن عرفت أنني عدت إلى وعيي :" أنا كارلا، كما سبق أن أخبرتُ فيتشنزو، أنتما هنا في المستشفى المدني بن فراتلّي ". أشرت إلى الأنبوب في فمي أردت أن أسألها عن أمور كثيرة قالت : "لا، ليس الآن يجب أن تحتفظ به".
لم أكن أتوقع أن يزورنا أحد كما يزار الناس في المستشفيات، لكن جاءنا في ساعة متأخّرة من ذلك النهارشابّ يلبس جبّة سوداء طويلة ضيّقة صافحنا وجلس بجانب منصور مبرزا ابتسامة عريضة تعلو ياقته البيضاء، محاولا أن يبدي براءة وطمأنينة لا يتطرّق إليهما الشّك. رحّب الشّاب بمنصور وتحدّث عن المحبّة وعن الأب والإبن والرّوح القدس وعرض عليه مساعدة الربّ والعذراء إن هو اعتنق النصرانية وسلّمه نسخة من الإنجيل، بدا منصورغيرمكترث وأجابه بلهجة صارمة :
" إن كان ربّي الذي ليس له أولاد ولا امرأة لم يساعدني فكيف يساعدني ربّك أنت وهو صاحب عائلة عليه أن يعتني بها طوال الوقت".
لأول مرّة رأيت الممرّضة العجوز تخرج عن وقارها وتستسلم لنوبة من الضّحك حاولت دون جدوى أن تقاومها.
لم يجرأ المبشّرالشاب على تحدّى صرامة منصور بمزيد من المحاولة ونظر إليّ فلم يجد لديّ ما يشجّعه على استكمال زيارته فجمع كتيباته وانصرف وهو يقول : "سأعود ثانية عندما تكونان في حالة أحسن " قال ذلك وهو يحاول ألا يتخلّى عن ابتسامته ولو للحظة واحدة .
اقتربت الممرّضة من منصور وقالت بصوت خافت وهي تناوله ترمومترا: "لا تقلق لن يزعجك بعد اليوم.. هؤلاء يبيعون ترّهات، إنهم يعيشون خارج المعركة يتفرّجون ويوهمون الناس أنهم قريبون منهم". وانطلقت من هناك إلى حديث متحمّس طويل عن معاناة أغلبية الناس وعن النموّ الفاحش للثروات بين أيدي قلّة قليلة، من بينها الكنيسة ، تحتكر كلّ شيء الخ...
أردت أن أختبر يقظتي ،أشرت الى ساعة الممرّضة سائلا، قالت :" إنها السابعة من مساء يوم 21 يناير أنتما هنا منذ بضعة أيام وتعالجان من هيبوثرمية بالغة"
التفتت كارلا إلى منصور لتستعيد منه الترمومتر " تسعة وثلاثون ونصف... يجب أن أحقنك بمخفّض للحرارة" كانت عيناه في غاية التصميم ووجنتاه محمرّتان "اسمعي أيتها السيّدة " قال لها "... لقد وقعت طائرتي الخاصّة في عرض بحركم.. جئت إلى هنا لأعرض على رجال أعمالكم شراكة في مجالات عدّة ..أنا صاحب انشاءات عقارية وبنوك ومنتجعات سياحيّة... يجب ألاّ نضيع الوقت، عليك أن تخبري إدارة هذا الفندق لتخصّص لي القاعة الكبرى لإقامة ندوة صحفيّة، عليك أن تدعي الصحافة وجميع المعنيين بالاقتصاد سترين قيمة الاستثمارات التي سأعرضها عليهم.. الأرجح أنّك شيوعيّة وقد لا تعجبك أساليبي ولكنّي لن أنسى فضلك وسأجعلك على رأس إحدى مؤسّساتي حيث تشائين في لندن، في سنغافورة، في كوالالمبور ..أو ربّما يناسبك أكثر أن تكوني على رأس إحدى مؤسّساتي الخيريّة لتتجنّبي تبعات آثام الرأسماليّة.. أنت طيّبة مثل أمّي الفرق بينكما أنها هي تحبّ الألماس و قد اقتنيت لها أفخر ألماسة في العالم لترصّع جيدها..." تناول كأس ماء ثمّ أضاف: ".. رئيس وزرائكم يجب أن يطمئنّ أنا فكّرت في أولئك المهاجرين ..رأيت مراكبهم تغرق عندما سقطت طائرتي الخاصّة سأخصّص وظائف لهم جميعا في مشاريعي وسأسارع بمنحهم تسبقات هامّة لقضاء لوازمهم المستعجلة .. يجب أن يرتاح الرأي العامّ هنا فالمشاريع التي أعتزم إنجازها ستفي بأغراض الجميع في هذه الجزيرة الفقيرة في المقام الأوّل... اتصلي بمساعدتي الإرلنديّة آشلينغ هي حاليّا في مهمّة بسان فرانسيسكو، تجدين رقم هاتفها في جهاز اللابتوب ستوافيك بالمعلومات اللّازمة التي تريدينها.. أريدك أن تكوني جاهزة للندوة الصحفيّة خذي بطاقة الفيزا واشتري طقما جميلا، أعرف أنّك بحاجة الى المال ...عندما بدأتُ حياتي في أوروبا منذ سنوات كنتُ معدما ثمّ اشتغلت بأجر قليل وكنت أحتاج إلى الكثير من المال..كان ذلك قبل أن أصبح من أنا الآن .
رأيت الممرّضة تمسح دمعة وهي تحقن دواء في ذراع منصور وتحاول تنشيف العرق المنهمر من جبينه .
بينما كان منصور يتكلّم كنت أقنع نفسي بأنّ كلّ ماقاله كان عين الحقيقة ولا يتطرق إليه أدنى شك وكلّما كنت أرغب في إظهار ثقتي له أجده لا يوجّه عينيه نحوي أبدا كما كان حاله منذ فتحت عينيّ في تلك الغرفة.
كنت أريد من صميم جوارحي أن تكون تلك هي الحقيقة الآن بقطع النظرعن أيّ اعتبارآخر. وما إن انتهى منصور من الكلام حتى شعرت بغصّة تخنق أنفاسي وأحسست أن كل أحزان حياتي تتجه في حزمة واحدة الى حلقي ثمّ الى حدقتيّ وتدفع عينيّ بقوة لتخرجهما من فلكيهما... كنت أريد أن أكلّم أحدا أن أقصّ عليه قصّتي، نظرت إلى الممرّضة وأشرت مرّة أخرى الى الأنبوب الذي في فمي، قالت : "ليس بعد" وسكبت ماء على قطعة قطن بللّت بها شفتيّ ومسحت جبيني بمنديل وبرمت صنبور الجيب البلاستيكي الموصول بالخرطوم المثبت على ذراعي.. أنعشني البلل قليلا وأحسست بشيء من الهدوء يسري في شراييني ثمّ تملّكني النعاس.
أفقت بعد فترة وجيزة فلفت نظري منصور وهو يكتب شيئا في الصفحات الأخيرة من دفتر صغير كان يلازمه وكان يتمتم ولا يبدي أيّ اهتمام بما حوله، ورأيت الشرطيّ يطلّ من الباب وسمعته يقول لكارلا :" لقد تقرّر ترحيلهما حالما يسمح المستشفى بذلك" وإذ هي تقترب منه وتشير الى رجلها فيندفعان في حديث خافت بدا جدّيّا جدّا لكنّني لم أفقه معظم ما حواه ولم أسمع منه إلّا ذكرا لمئات الجثث التي لفظها البحر ولعشرات آلاف القادمين ولجشع المهرّبين وغرق المراكب المتصدّعة المكتظّة ولاستفحال البطالة وللمناطق البائسة المعدمة .
في مساء ذلك اليوم و لأوّل مرّة زار الغرفة فريق من الأطباء، أماط أحدهم اللحاف عن قدم منصور وجعلوا يفحصونه ويقرؤون البيانات الطبية المثبّتة على الفراش ويتحدّثون ثمّ توجّه أحدهم بالكلام إليه فقال: "لم تفلح الأدوية، علينا أن نبتر رجلك لإيقاف انتشار الغرغرينا المنجرّة عن الهيبوثرميا التي أصابتك بعد غرق المركب". لم يحرّك منصور ساكنا، كما لو أنّه كان ينتظر ذلك ويعلمه مسبّقا.
بعد خروج الأطباء..وفي لمح البصر أبصرت منصور يفكّ عنه الأنابيب والأسلاك.. لم يتّجه إلى غرفة الحمّام كما كنت أتوقع بل أسرع الى الخروج من باب الغرفة ، بدا متوجّعا وكأنه يمشي على الجمر وسرعان ما جرت الممرّضة وراءه ونبّهت الشرطي بصوت عال. سمعت جلبة ودويّ أرجل كثيرة وصوت منصور وهو يزمجر: "يجب أن أجد طائرتي الخاصّة، أين طاقم طائرتي، عليّ أن أرحل، لن يستطيع أحد أن يقطع برنامجي، لديّ مواعيد كثيرة، لقد أضعت وقتا كثيرا هنا، لن أسمح لكم أن تعطّلوا شؤوني."
ثمّ ابتعد صوته واستمرت الجلبة والدويّ وفجأة سمعت إطلاق نار وهدأت الجلبة وتلا ذلك حراك سريع.
منعتني المستلزمات الطبيّة العالقة بي من الخروج لمعرفة ما حدث. لم يعد منصور ولا الممرّضة ولا الشرطيّ. بعد حين جاء رجل يلبس لباس الطاقم الصحّيّ ليفحصني لا أدري إن كان طبيبا أو ممرّضا سألتُه بالإشارة عمّا حدث،قال لي: " لقد مات، استولى على مسدّس الشرطي وأطلق النار على نفسه".
لا أعلم حقيقة ما جرى ،هل قتل منصور نفسه فعلا أم قُتل ؟ لكنّهم أحكموا عليّ الحراسة منذ تلك الساعة. ومن الغد أخبروني أنه سيتمّ ترحيلي مع جثّة منصور وأنهم حجزوا لنا على الطائرة كما سلّموني دفتره الصغير.
تصفّحت الدفتر، فإذ هو يحتوي في صفحاته الأولى على ديونه مبوّبة مع ذكر المبالغ ومواعيد تسديدها ومنها: ألفا دينار ثمن بيع حليّ أمّه دُفعت للمهرّب وتسديدها في شهر ماي، وخمسمائة دينار من عمّه ومئتي دينار من أخته وتسديدها في شهر سبتمبر الخ...أمّا الصفحات الأخيرة فقد خصّصها لمؤسّساته في كافّة أنحاء العالم مع ذكرعناوينها.
لم أعد مع جثة ابن عمّتي.. كان ذلك سيصعقني خزيا أمام أهلي ومعارفي هناك.. بعد أن رهنت بيت أمّي ومتّ ألف مرّة غرقا ورعبا بين اللجج المتوحّشة. لقد ساعدتني كارلا على الاختفاء وستحاول الحصول لي على أوراق وقتيّة. عليّ أن أجد الوسيلة لتسديد كلّ ما عليّ وكلّ ما على منصور فقصّته كانت منذ البداية قصّتي.
هذا كلّ ما طلبتِ معرفته لتُطلعي عمّتنا وسائرالأهل على ماحدث. اُكتبي لي مؤقّتا على عنوان كارلا في فييا أريستوتيلي كما هو مبيّن على قفا هذا الظرف .
ملاحظات :
- المستشفى المشار اليه هو" أوسبيدالي تشيفيكو بنفراتلّي" في لنبدوسة
- لنبذوشة: اسم جزيرة لنبدوسة عندما كانت صقلية تابعة للدولة الأغلبية
-آشلينغ : اسم بنت في ايرلندا ومعناه الحلم


مارس 2011

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى