حميد محمد الهاشم - عكازي بين الذباب وأشياء اخرى

أدفع بعكازي وعكازي يسحبني،
وقبل أن أدخل غرفة الرنين جلستُ متهالكا قبالتهُ.
كان الأمر كذلك، وأرجو أن تصدقني، في الوقت الذي كنت أكتب قصة عن الذباب؛ حطت ذبابة على قدمي اليمنى، ثمة وخزة تركها تلامسُ شعيراتها مع قدمي البريئة، بريئة قدمي، مثل برائتي ومثل براءة قدمي اليسرى، حين كانت قدمي فعلا.
ألتفتَ الدكتور إلى قدمي والتي لا أثر لها.
إنها موجودة يا دكتور لكنها غير مرئية، أبتسمتُ كما تكلفتْ شفتا الدكتور ابتسامة بصعوبة، الشيء الغريب يادكتور وهذا بالطبع لا يعني لك شيئا إن قدمي هذه ،والتي لا أعرف إلى أين ذهبت، أإلي رحمة الله أم رحمة التراب، حيث دُفِنتْ فيه!، الشيء الغريب هي اللحظة المكررة في قصتي مع الذباب، أحداهن قد سبقت نزول شظيتي العاهرة تلك بيوم واحد، أستنساخ رديء لزمن البتر.
_حقا هذا لا يعنيني،لكن ليس كل من تتقيح قدمه تذهب للبتر.
هكذا أجابني طبيبي المفضل الذي بتر كثيرا من الأيدي، والإقدام في حروبنا التي بعضها ذرية من بعض.
قلت للطبيب والذي راح يرتّب أوراقا له، وقدشعرتُ إنه غير مكترث بجريمة هذه الحشرات و التي حدثت لي مرتين، فماذا يهمه أو يهم غيره إنْ كانت سمائي مغطاة بأسراب منها أو من الجراد، لكني لا أعرف لماذا حشرتُ تلك الاحياء اللطيفة هه هه بين قدمي المبتورة قبل ثلاثين عاما، وقدمي التي يجتاحني وهم؛ إنها قريبة من البتر، ربما المسألة أكبر من ذكرى تلامس قديم، ربما لأن مساحة الزمن ماقبل ثلاثين عاما، واللحظة هذه تحكي ماذا يفعل الذباب بنا، ولا فرق بين شظية تقطع ساقك، وبين كائن صغير، لا أدري ماهيته يجعل ساقك بأنتطار عكاز جديد، عكازي القديم أصبح قديما مثلي، تجاوزتُ أنا الستين وتجاوز عكازي الثلاثين، مع بعض الدعجات هنا أو هناك، عكازي ربما أفضل مني لكن ينقصه الشعور بالألم وأنا أرمي بثقلي عليه.. وينقصني صبره وأنا أطئ به الأرض، أسفلتا كانت، أو طينا، أو ترابا، أو.. أو... ثمة صبر بلا شعور ،وثمة شعور خارج دائرة الصبر، وتحوم حوله أسراب ذباب.
لم ينتبه الدكتور للنصف الأخير من مرثيتي ،حول عكازي وقدمي ،وشظيتي اللعينة، التي أطاحت بها.
_ كِلا القدمين تؤلماني دكتور. حديدُ(الشيش)في حربنا المنسية الطويلة والذي وضِعَ في ساقي؛ يزداد عليّ ألماً في الليل.
يقلّب صورة الأشعة وجها وظهر, ولم يتكلم، فما علاقته بالليل أو الحرب المنسية, أو ذبابي الذي لا يهدأ، وله الحق في ذلك، وأنا لي الحق أيضا في أن أكمل مرثيتي.
_ أما قدمي الثانية التي لقحتها العاهرة الاخرى ؛فها هو التقيح أمامك, وأشعر أن عظامي هي من ترسل رسالة القيح لي،
ألتفتَ لي أخيرا ,وكأنه يتنفس الصعداء, وقد ازعجتهُ بحديثي البكائي.
_ حسنا.. سأكتب لك أشعة رنين.
_ لمن دكتور.. لقدم الشظية، أم لقدم المحتملة، أم لعكازي، فهو يحتاج رنينا أيضا؟
الشظايا والذباب هم أبناء الحروب، وأنا وعكازي أصبحنا من أحفادها، قيح ذبابتي يُفْرَز حسب الفصول، في الخريف بعضهُ يخصّبُ بعض ؛فيتكاثر في قدمي, وها أنا في قمة الخريف الجميل المتقيح, وقبعة بيضاء تنمو على رأسي أما الألم الذي دَفَنَتْهُ الشظية في قدمي الأخرى؛ فأنه يغلي حسب مدار اليوم، في النهار يدخل في السبات ،عكس مخلوقات الله ،وفي الليل تبدأ دورته اللعينة، وها أنا أعيش ليلاً وخريفا بلا رحمة.
دخلتُ غرفة الرنين؛ أدفع عكازي وعكازي يدفعني، كائن رباعي الدفع،معطّل الحركة.
الطابور الذي ينتظر؛ أنا الثالث فيه، شاب قروي ورجل أبكم، ستة كراسٍ تشبه مقاعد الكوستر، منفوشة الأمعاء، جلد أصفر مهترئ، عمرٌ متعبٌ يجمع بين جلودها وأحشاؤنا المعطوبة.
الغريب أن الذباب لاحقني هنا ، طنين لأربع أوخمس منه في سماء غرفة الرنين، لأيهما الطنين لست أعرف، الرنين مع الطنين يجتعان في غرفة انتظار الكشف عن العاطب والمعطوب في أجسادنا.
بادرني الشاب القروي بثوبه الشكري ،هو الثاني في الطابور الذي يحلق فوقه ذلك السرب ،وكنت قد ألتفتُ من نافذة متسخة الزجاج إلى حديقة تجاورُ غرفة الرنين، وطابوره وذبابه، أزهار يخنقها الذبول، وفتاة يبدو إنها مهندسة زراعية، تتجول بين الذبول ويعلو رأسها طوق؛ يضغط على سويق زهرة حمراء.
الشاب القروي يسألني.
_يا حاج، أنا خائف، هل جهاز الرنين مخيف،أكيد هذه ليست مرتك الأولى.
توزعت نظراتي بين خوف هذا المسكين، وبين إحدهن والتي طردتها من أنفي، لو تقيح الأنف فماذا أفعل!؟
ثمة غيوم خلف الزجاج تداخلتْ فيما بينها ،وكأنه تزاوج بين حيوانات خرافية.
_لا تخف.. ستسمع فقط أصواتا متقطعة..مثل دندنة عالية، عمرها قصير، فالأشياء مهما كان عمرها ؛ فهو قصير. دندنْ داخل نفسك لتنسَ، فأنا دندنتُ في صمتي الأول، وصَمَتُ تماما في دندتني الثانية.
الأزهار معدة للأستبدال ،أو الموت، هي تنتظر ذلك، يختفي قرص الشمس خلف التزاوج الخرافي والنافذة العمياء، بداية أفول لكل شيء.
في غرفة الأنتظار بدأ رنين آخر، صوت قروي جميل، صفير يشبه الأغنية.مقاطعٌ متتالية، يخبو أحدهما ثم يرتفع الأخر ،ويفصل بين مقطع وأخر صعود وهبوط تفاحة آدم، هكذا بدأ الشاب القروي مشروعه للتخلص من الخوف ،وسط دهشتي أنا والأبكم الثالث والممرضة التي فتحت الباب ؛ لتتبين ماذا يجري ورقصة الذباب، وقطرات العسل من قدمي التي اجتازت حاجز الضماد ،وعكازي المستريح قربي.
ليس لأحدٍ أن يُدهش ،أو لا يُدهش ،فالأمر سيّان وها هي الزهرة صارخة اللون تتخلص من طوق فتاتها ،عندما هبت ريح خفيفة تلاعبت بخصلات شعر الفتاة.
تحررتْ الزهرة لكن .....!!
تلك المشاهد حدثت بسرعة واحدة، لكنني إذا بدأت من رنين الإنتظار سأبدأ من حيث...
الصفير القروي،
قطرات قيحي العسلي،
رقصة الذباب،
عبوراً إلى الحديقة الصفراء ؛حيث أنزلقتْ الزهرة الحمراء من تحت طوق الفتاة, مارةً في لولبين من أنفاقِ خصلات شعرها ، عابرةً بعض الأخاديد لبلوزتها من جهة الظهر، بعض تويجاتها قد سقطت، أصبحتْ معوقة التويج هي الأخرى، تعثرت بجيب بنطال الفتاة الخلفي؛ ليدخل سويقها فيه، هكذا تعكزت عليه لكي تستطيع الوقوف،تستطيع الصمود أمام الإنحدار، جيبٌ جميل لمؤخرةٍ جميلة أوقف الإنحدار.. لا بأس. حسناً..مؤخرة الفتاة أنقذتْ ما تبقى من الوردة الصارخة ،أما نحن الذين فقدنا ما فقدنا، وفي طريقنا لفقدان أشياء أخرى، مَن ينقذ ما تبقى فينا أو منّا ؟..هل نقف كطابور خلف شئ ما حتى وإن كان مؤخرة كمؤخرة الفتاة تلكْ، ولكن بحجم شاحنة كبيرة لتنقذ بقية ما فينا،لعل جيباً ما، يكون ملجأً لنا ونحن نتدحرجُ في دهاليز حياتنا، حياتنا التي لم تَعُد حياتنا .أصبحنا جميعنا في الخلف، وكل منّا له عكازهُ.
بعد هذه اللوحات السوريالية،تمتمتُ وأنا أمسك بعروة عكازي الفيلسوف ؛أهمُّ للنهوض، بعد يوم حافل بالقيح،
لكني لم أتذكر تحديداً ماذا قلتُ.. ربما.. " لم يصبح الطريق خلفنا بعد" .
إنتهت.
*(جهاز الرنين ):لكشف أمراض العظام والمفاصل وغيرها

حميد محمد الهاشم /العراق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى