ياسر جمعة - إليــكِ..

وجدت العذوبة كلها منذ قليلٍ، في الحلم، حيث كان ينافس همسكِ -رغم حزن ما كنت تقولين- كل الضجيج الذي تركتْه في روحي الأيام، فانتعشتُ.. نعم ينعشني حضوركِ ويزرعني في قلب الحياة، التي إن كنتِ لا تعلمين أراها تلفظني وتدفعني للمغادرة، غير أني، في حضوركِ وما يصنعه بي، أجدها تفتح ذراعيها لي، وأنا لن ألقي بنفسي في حضنها إلا لو كان لها ملامحك.. ربما لأتذوق طعم الجمال، ربما لأولد من جديدٍ، أو لأني أفتقدكِ، وجدًا، وأشعر بوحشةٍ كاويةٍ بحجم المسافات بيننا، غير أني أربِّت على روحي بما لكِ فيها، وهو كثيرٌ: صوركِ التي تشاغب المستحيل، جموح أطيافك التي تقتحمني في غفلةٍ من الحزن الجاثم، وكلماتكِ.. كلماتك القوية، الناصعة، التي يرددها قلبي، ما زال، كأنها صَلاته الخاصة، والتي لكلٍّ منها سحرُ الكاف والنون.

عزيزتي -أود أن أناديك بقولٍ آخر غير هذا، ويمنعني الغموض الذي يلفُّ كل ما هو حقيقيٌّ في حياتنا، ويمنعني، كذلك، فخ الحنين، لذلك سأكتفي بها، وربما أكررها كأنها الكلمة الوحيدة التي تعبر عن شعوري بكِ!- ما زلت أسمعك وأنت تهمسين:
- في كل شجرةٍ غابة، فلا توقظها إن رأيتها نائمةً، ولا تشعل السكون بهمسك المشتاق، واحفظ ما يعتمل في الروح.. لا تحرره، أو حرره، وانتظر أن تلملم رماد غابتي.
فأرتجف، ويحرق المجاز في جملتكِ قلبي، لذا أقوم أفتح النافذة لأحصل على المزيد من الهواء.. هكذا، وأغمض عيني، فيتفجر فيَّ الشوق لأن أضمك.. أضمك كمن يلوذ بالموت خوفًا منه، وكما حدث في الحلم، تقوديني إلى أرضٍ عاريةٍ إلا من عشبٍ صغيرٍ، لينٍ، وتتكورين فوقي كطفلةٍ تضج بالأنوثة والغموض، وكما في الحلم أيضًا أربت عليكِ منتظرًا، في شوقٍ محتارٍ، خطوتك القادمة: هل ستكتفين بالبكاء على صدري ثم تذهبين، أم ستصيبك الحمى، فتمسكين كفي وتتحسسين بها كل موضعٍ من جسدكِ، كمن يدل أعمىً على الطريق؟ وفيما أتمنى العمى، أسمعك تقولين:
- هل خانتني الأيام أيضًا؟
ويردُّ الصدى:
- لقد خانني قلبي.
فأسقط من الحلم، أو من الخيال، على أرض الواقع القاسية متلفتًا حولي ولا أجدكِ، فأردد جملتكِ:
- هل خانتني الأيام أيضًا؟
وأغلق النافذة.
أشرب الآن قهوتي المسائية، مع السيجارة رقم (٤٧) لهذا اليوم، ويستحضر خيالي ما حدث في الحلم، بعد همسكِ والصمت السميك، وأنت تتجردين، وتجرديني ملهوفةَ، لنغيب في بعضنا والوجد للحظاتٍ، أو لدقائق، وفيما كانت تتعانق ساقاكِ حول وسطي، لأنظركِ من علٍ، صُعقتُ.. نعم صُعقتُ، لقد كنتُ أعتقد إلى ما قبل هذه اللحظة، الآن، أنك تغمضين عينيكِ علي، ولكني لم أجد نفسي في عينيكِ، ولا في، ولا في هذه اللحظة رغم حميميتها والشبق.. لم يكن هناك أحدٌ غيركِ، أنتِ فقط، كأنكِ الغابة التي تسكن الشجرة النائمة، وكنتُ وكأنني فكرةٌ سقطت من رأسٍ ما وفقدتْ ذاكرتها إثر ذلك، أخبركِ بهذا وأنا أشعر بغصةٍ، يحاول عقلي أن يتجاهلها، وكأن ما يحدث يحدث لآخر!
عزيزتي، في الحقيقة -هل يوجد حقيقةٌ أصلاً؟- أود أن أسألك: هل نستطيع أن نعيش بوجهٍ واحدٍ فقط؟
- نعم.
يقولها صوت الأيام التي كانت لنا، ويضيف:
- مع من نحب، وكذلك مع من نكره.
فأضحك، متأملاً ما تقوله الأيام، وأفكر أننا نفعل ذلك دائمًا، عن وعيٍ مرةً وعن لا وعيٍ مراتٍ، وكذلك تفعل بنا الحياة في تقلبها الحاد، وكأننا، نحن والحياة، نخشى الوجه الواحد لنا وللأشياء، فنمسخه، أو نبدله، مع أن أرواحنا تمشي في طريقٍ أخرى، ووحيدةٍ، نحو المعنى الأساس الذي نهرب ونحتال عليه، ألا وهو: الوحدة. ولكن لماذا نهرب من الحقيقة الوحيدة فينا؟
يحذرني الخوف الذي كان في همسكِ من الإجابة، فأغمض عيني لئلا أرى حريق الغابة، وأصرخ بكل ما يعتمل في روحي.. بكل ما لكِ فيَّ، ولا أنتظر الرماد، ألقي بنفسي في النار، وأنا موقنٌ أن هناك يدٌ، ربما لطفلٍ، ستجمع رمادنا وتصنع منه بعد مزجه بالكثير من ماء البراءة والحب، تمثالاً، سيكون له شكلكِ وجنوني بكِ، وما إن يتركه هذا الطفل مجهدًا وينام، حتى تدب فيه الروح، لذا يقترب منه كي يوقظه، فتستيقظ الغابة كلها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى