مصطفى نصر - أم سليمان

تأتي سميرة- الماشطة -، فتقضي اليوم كله في البيت، تبدأ بتزويق أم سليمان - التي تسكن الدور الثالث – وتهبط لشقة انشراح. تبدأ بالبيضة، ثم تأتي نبوية من بيتها القريب لذلك، بعد أن انتهت من تزويق نبوية، قالت:
- وأنتِ يا إنشراح؟
مطت شفتيها آسفة:
- لمن أتزوق يا عزيزتي، الرجل .... (وصنعت بشفتيها صوتا يعني إن لا فائدة منه ).
قالت :
- ربما هذا لعدم اهتمامك بنفسك.
- لا، فعلت المستحيل، وهو كالبقرة.
لمت سميرة عدتها وأمسكت حقيبتها ووقفت قائلة:
- يعني امشي؟
قالت نبوية وهي مازالت تنظر للمرأة:
- زوقتي أم سليمان؟
- زوقتها قبلكن.
تضحك انشراح وقد شدت سميرة حتى أوقعتها بجانبها فوق الكنبة:
- أم سليمان أرملة الآن، فلمن تتزوق؟!
- لنفسها يا حبيبتي، لا بد أن تبدو المرأة جميلة في كل وقت.
بديعة، التي تسكن الدور الثالث، ويدعونها بأم سليمان. ذات وجه أحمر دائما، وقامة متوسطة الطول، والمؤخرة عالية بشكل ملحوظ، تحرص على جلي الشعر عن وجهها وجسدها في وقت محدد لا تحيد عنه، كأنها تنتظر زوجا، مع إنها ترملت منذ ثلاث سنوات وشهور قليلة، تركها الزوج العزيز في الشقة وحدها، بعد أن تزوج سليمان وسكن بعيدا في أبي قير، وقلما يزورها هو أو زوجته.
تصيح نبوية التي تنظر في مرآتها الصغيرة – التي لا تفارقها – لترى التغيرات التي أحدثتها سميرة بوجهها:
- من مصلحتك تدافعين عنها، فهي زبونة مستديمة، وبلغني إنها تدفع أكثر من عروس تستعد للزواج.
- هذا لا يهمني يا حبيبتي، الزبائن كثر، لا أستطيع تلبية كل الطلبات الآن.
تقول البيضة مجاملة لسميرة:
- ألحق، ليس في بحري من تزوق النساء مثلك.
تقول انشراح:
- كلكن بلهاوات ولا تعرفن ما ترمي إليه أم سليمان.
تجيب نبوية:
- ماذا، أتسعى للزواج؟
- نعم، وعينها من الشاب الصغير الذي يطوف بعربته الصغيرة مناديا على البرغل والفريك والعدس.
قالت البيضة:
- فعلا، فقد لاحظت إنها تنتظر قدومه في نافذتها، وما أن تراه حتى تنادي عليه بدلال ( تقلدها ) يا مسعود، أنت يا مسعود.
تضحك النسوة، يتذكرن طريقة بديعة في النداء، تقلدها نبوية أيضا:
" يا مسعود، أنت يا مسعود "
وتستدرك سميرة قائلة:
- ما كل سيدات الحي ينادين عليه.
فتقول نبوية:
- لكن ليست بهذه الطريقة، إنها تناديه كأنها تنادي عزيز، أو حبيب.
وتكمل انشراح:
- إنها تشتري منه كل يوم، ألا تأكل سوى البرغل والعدس والفريك؟!
فتجيب سميرة:
- على أية حال، الزواج ليس عيباُ، ماذا فعلت الحرة، تزوجت، كما إنها أرملة منذ أكثر من ثلاث سنين، يعني صبرت وعانت.
تضربها انشراح على صدرها قائلة:
- إنه أصغر من ابنها سليمان.
- القلب وما يريد.
**
تسير سميرة في شارع الباشا شاردة، لم تلحظ اهتمام أم سليمان ببائع البرغل والعدس والفريك إلا لما حدثتها انشراح وإبنتاها عنه.
فعلا، المرأة تتحدث عنه كثيرا، كلما حدثتها في موضوع، تدخل مسعود فيه، تقحمه دون داع.
الشاب وسيم، وجسده قوي، عيناه سوداوان واسعتان، وشفتاه صغيرتان، ممتلئتان. لم تلحظ سميرة مدى جماله من قبل، اشترت منه كثيرا، عدسا وفريكا، فلم يلفت نظرها.
يقف بعربته الصغيرة، يضع القراطيس، يملأها بالحبوب التي يبيعها، لماذا لا تتدخل سميرة وتزوجهما، ويا بخت من جمع اثنين في الحلال، ليت انشراح فتحت الموضوع قبل أن تصعد إلى أم سليمان بالأمس وتزوقها. كانت استغلت موضوع " زواقها " وحدثتها عنه، كانت ستقول لها: " تفعلين كل هذا من أجل مسعود؟ "
ستنتظره سميرة في الغد، ستنادي عليه بالطريقة التي تنادي بها أم سليمان: " يا مسعود، أنت يا مسعود "، ستفتح معه الموضوع.
تعود سميرة من المدرسة – التي تعمل بها - وقت حضور مسعود للمنطقة، تعرف خط سيره، والشوارع والحواري والأزقة التي يمر بها وينادي فيها.
تقابله سميرة، تقف وسط الطريق:
- مسعود، كيف حالك؟
أول مرة تناديه باسمه:
- ماذا تريدين؟
- كنت لدى أم سليمان بالأمس.
- من أم سليمان هذه؟!
تضربه على صدره معاتبة:
- لا تتخابث عليّْ، بديعة يا مسعود.
- صدقيني، لا أتذكرها فزبائني كثيرون.
- التي تسكن شارع السيالة.
يتذكرها مسعود:
- تذكرتها، ماذا بها؟!
- زوقتها بالأمس، تعرف إني أزوق النساء؟
- أعرف.
- وتعرف أن الأرملة تتزوق من أجلك؟
صاح مندهشا، وقد أمسك يدي عربته الصغيرة راغبا في البعد عنها:
- من أجلي أنا، لماذا؟!
- قلت، لا تتخابث.
دفع عربته بعيدا عنها، فسارت خلفه:
- انتظر، لم اشتر شيئا منك.
صاح دون أن ينظر إليها:
- الله الغني عن شرائك.
ابتعد الرجل بعربته في غيظ، لكن ذلك زادها إصرارا على أن تزوجها منه.
زارت في المساء أم سليمان، سارت دون أن تحدث صوتا تسمعه انشراح، أو إحدى ابنتيها.
دقت الباب في حذر، فتحت المرأة وهي تمضغ اللادن، فوجئت بها أمامها، ما الذي جاء بها، لقد زوقتها بالأمس، وأعطتها أم سليمان أجرتها:
- سميرة، تفضلي.
تابعتها سميرة دون قول، لكن بابتسامة توحي بأشياء، كانت تتفحص كل جزء في وجهها وجسدها:
- خير يا سميرة؟
جلست وهي مازالت تتابعها بابتسامتها تلك:
- تعرفي إنك تزدادين جمالا يوما عن يوم.
ضحكت المرأة بصوت مرتفع وقد سعدت بمدح سميرة لها.
- أين يا سميرة، كل شيء ضاع وانتهى.
ضربتها على صدرها الناهد:
- وهذا الجمال، ألن يتمتع به أحد؟!
أحست أم سليمان أن في الأمر شيئا جديدا، فهي تعرف، والكثيرون يعرفون الآن إن سميرة قد أضافت لعملها النسائي، تزويج البنات والنساء:
- ماذا وراءك يا سميرة؟
- مسعود.
أحست المرأة بما تريد قوله، لكنها تظاهرت بعدم الفهم:
- من مسعود هذا؟!
- أم سليمان، أنا أعرف كل شيء.
ارتعشت المرأة وأحست بالخوف، معني هذا إن الكل يعرف ما تفعل، ولاحظوا انتظارها لقدومه وشغفها للقائه.
- ماذا تعرفين يا سميرة؟
- أعرف إنك تريدين الولد مسعود.
وقفت المرأة غاضبة:
- لا يا سميرة، كله إلا هذا، مسعود أصغر سنا من ابني سليمان.
- وأين سليمان، متزوج ومتهني مع زوجته وأنتِ......
قاطعتها قائلة:
- مالي أنا يا سميرة؟!
- تعيشين وحدك في شقة طويلة وعريضة، وتحرمين نفسك من.....
جلست المرأة حزينة:
- سميرة، رفقا بي، لماذا تريدين تعذيبي؟!
اقتربت منها، شدتها إليها، ضمتها لصدرها، فبكت المرأة في صدرها، شمت سميرة رائحة العطر الذي تحرص المرأة على التعطر به.
- أم سليمان، الزواج ليس حراما، وأنت كالقمر، وجسدك ولا فتاة في العشرين.
مصمصت المرأة شفتيها أسفا على شبابها الذي يزوي دون شيء:
- وما فائدة كل هذا؟!
- سأزوجك مسعود، وسترين.
صمتت أم سليمان، ثم قامت لتعد شرابا لسميرة، التي قالت:
- لا أريد شرابا.
- لا، لا بد أن تتناولي العشاء معي، كل ليلة أتناوله وحدي.
وقفت محاولة الخروج من الشقة، لكن أم سليمان أقسمت بأن تتناول العشاء معها. وعندما استعدت للخروج، أعطتها أم سليمان لفة كبيرة فيها أطعمة وأقمشة جديدة، كانت تنوي أم سليمان أن " تفصلها ". لكن سميرة أولى بها.
**
شهور قليلة وجاء مسعود مرتديا ملابس أنيقة ورابطا عمة فوق طاقيته ومعه رجلان – أقارب - وسميرة.
دقوا باب شقة أم سليمان، وتحدثوا معها، كانت سعيدة ومرتبكة، بكت من شدة الفرح، لكنها تذكرت ابنها سليمان، فصاحت في يأس:
- ابني سليمان سيغضب مني.
ضمتها سميرة لصدرها وقبلتها، مسحت دموعها، لكن المرأة أصرت على أن يرضى ابنها على الزواج.
المبلغ الذي ستتناوله سميرة ليس قليلا، من مسعود وأم سليمان أيضا، هذا غير رزق سيأتيها من أقارب مسعود. فصاحت:
- سأذهب لأبي قير لمقابلة ابنك سليمان.
وتحدد موعد آخر حضره سليمان وزوجته التي ضمت أم سليمان لصدرها وقبلتها فرحة، كان ابنها سليمان غير راضي على ذلك. صاح في أمه لائما أمام زوجته وسميرة بينما مسعود مع أقاربه في الحجرة الأخرى:
- هل قصرت معك في الفلوس؟
بكت وقالت وهي تنظر للأرض في أسى وحزن:
- الفلوس ليست كل شيء.
ثار سليمان وعلا صوته ، لكن زوجته أمسكت يده، وهمست في أذنه:
- زواج أمك هو الحل، لن تحتاج لنقود منك، ولن تشكو الوحدة.
زفر في أسى قائلا:
- وكلام الناس؟
ضحكت سميرة، كان سليمان ينظر إليها في غيظ ويريد الفتك بها، فلولاها ما فعلت أمه هذا واحرجته أمام أهل الحي. قالت سميرة له:
- الرجال ينتظرونك بالداخل.
فقام مضطرا، وتم الزواج. لكنه سار حزينا ومحاولا الهروب من جيرانه القدامى في المنطقة. وعاد إلى أبي قير، ولم يعد ثانية لحي بحري.
تابعت انشراح وابنتاها مسعود وهو نازل على سلم البيت، يسعل لكي تحس انشراح وابنتاها به، ليفسحن له الطريق.
قالت نبوية:
- سميرة هي التي زوجته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى