مصطفى نصر - اللعبة

كنت أتساءل – بيني وبين نفسي – عما يحدث أمامي كل عدة أيام، إذ تتغير “ منى “ – زوجة أخي الكبير – فجأة، فيحمر وجهها وتحرك جسدها في عصبية وهي تلت العجين داخل إنائه، يحدث لها هذا في وجود أخي الكبير – زوجها – الذي يتحدث كعادته مع أمي وأختي الكبيرة - التي طلقها زوجها فجأة فجاءت ببناتها الثلاث ليعشن معنا - تعوَّد أخي أن يتحدث وهو مضطجع فوق الكنبة العربي القديمة، وأمي وأختي مشغولتان عنه بالعمل إن كان عجينا أو غسيلا أو كنساً.
تتابع منى أخي من طرف عينيها وتبتسم ابتسامة صغيرة خجلى، فتتغير لغة أخي، يتوه ويشرد وينسى الموضوع الذي كان يتحدث فيه. لا أرى – عادة – وجه أمي أو أختي الكبيرة، فهما تستديران ناحية الحائط، أو تحنيان رقبتيهما مشغولتان بما تفعلهما. ولا أدرى ما شعورهما الآن، وأخي الكبير يتعثر في حديثه – على غير عادته – فهو معروف في العائلة والحي بقدرته على الحكى وانتقاء الكلمات المناسبة للموضوع الذي يتحدث عنه، يحكى لأمي عن أشياء حدثت له في عمله، حيث يعمل ملاحظا للكناسين في منطقة ما في الإسكندرية لم أرها قط. أو أن يذكر بطولاته مع رؤسائه وكيف نال منهم وأفحمهم بردوده وأثبت لهم بأنه – رغم شهادته البسيطة – أكثر ثقافة ومعرفة منهم. كل هذا يتغير عندما تنظر إليه منى ( إنني – في الحقيقة – غير متأكد من الذي بدأ بالنظرة الأولى، هو أم هي).
ترفع منى نصف جسدها لأعلى، ثم تلم العجين العالق بيديها وذراعيها؛ وتضعه في الإناء وتقف، فإذ بأمي أو أختي تحل محلها آليا في العمل دون اتفاق مسبق. وتمر من أمامه وهي تبتسم في حياء مصطنع، وتحاول لمسه – أحيانا – بجسدها، فلا تصل الأمور – عادة – إلا للمس ثوبها الفضفاض الذي ترتديه من الصباح لعمل لوازم البيت؛ وتنام به أحيانا.
إننا نسكن في شقة بالدور الأرضي مكونة من حجرتين وصالة، يشغل أخي الكبير حجرة من الحجرتين بلا باب، وأنام أنا وأخي – الآخر – الذي يكبرني بعامين في الصالة فوق كنبتين متقابلتين، والحجرة الأخرى الصغيرة لأمي، تنام فيها وحدها. لكن طلاق أختي الكبيرة فجأة أفسد كل شيء، فقد نامت أختي مع أمها برفقة واحدة من بناتها الثلاث، والبنتان الأخرتان تنامان في كوخ فوق سطح البيت، أقمناه جميعا، اشترت أمي صفائح فارغة من الزبالين الكثيرين في الحي، وأعمدة خشب من " باب سدرة – حيث يكثر تجار الخشب، ( كنا ننقل الصفائح من بيوت الزبالين أنا وبنات أختي الثلاث) ووقف أخي الكبير وأمي يقيمان أعمدة الخشب ويدقانها في حائط البيت المجاور لنا، فقد كان أعلى من بيتنا. وكنت أنا وأختي وبناتها نمسك الخشب لهما، ونقدم لهما المسامير والشاكوش والمنشار، حتى وقف الكوخ وصار صالحا للإقامة، لكن كانت فيه فتحات صغيرة تدخل المياه شتاء، وتدخل الشمس الحامية صيفا. لم يشترك أخي الذي يكبرني بعامين في أي شيء من هذا، فهو خارج البيت دائما، لا يأتي إلا متأخرا لينام. فهو مشغول بصيد العصافير، يحمل فخه وقطع صغيرة من الزلط، يضعها في جيوب بيجامته، ويطوف شوارع الإسكندرية التي تحاط بالأشجار، ويصطاد العصافير،هو مشهور بإتقانه للنشان، قلما تفلت عصفورة منه، ويعود محملا بصيده، خاصة في الخريف عندما يكثر السمان. ترحب أمي بهذا، وتسعد لصيده، وتنحني هي ومنى وأختي الكبيرة لسلق العصافير أو السمان، ونتف ريشه وهن يتحدثن عن مهارة أخي الذي يكبرني بعامين في الصيد.
عادت منى من دورة المياه المغطاه بقطعة قماش بدلا من الباب، فشقتنا ليس بها سوى باب الشقة، فقد مات أبى فجأة قبل أن يشترى باقي أبواب البيت، ووعد أخي الكبير باستكمال ذلك، لكنه لم يقدر. هو يتحدث كثيرا عن أمانيه، لكن..... ذلك ليس مهما، المهم الآن أن “ منى “ عادت بعد أن غسلت يديها من آثار العجين، وهي تمسح أصابعها إصبع إصبع في طرف ثوبها كاشفة عن ساقيها وهي تنظر إلى أخي نظرات غريبة ( أقول عنها غريبة رغم أنى أراها كل عدة أيام، لأنني لا أعرف معناها ) أمي وأختي الكبيرة مشغولتان بأعمال أخرى، فأعمال البيت كثيرة: الأفواه الكثيرة مفتوحة، والدخل قليل، فلابد أن تعجن أمي في البيت، لا تستطيع شراء الخبز من السوق، لا أستطيع أن أسترسل في سرد ذكريات أسرتنا، فقد انشغلت تماما بمتابعة “ منى “ التي تلاحق أخي وهو ينظر إليها ثم إلى أمى وأختي في حذر. لم يلتفت نحوى وكأنني غير موجود، ربما لأنني قابع في ركن الحجرة لا أحدث صوتا واكتفي بملاحقة منى، وأنظر – أحيانا – إلى أمي وأختي الكبيرة.
تسللت “ منى “، ابتعدت عن الجميع، وأمي تتحدث مع أختي الكبيرة وهما منحنيتان على أواني العجين الكبيرة، ثم نظر أخي إلى كل شيء في الصالة التي نجلس فيها، وتحرك بعصبية، ثم خرج إلى دخلة البيت.
أحسست أن اللعبة قد انتهت، لم أسأل نفسي عن المكان الذي ذهب إليه. خرجت من الباب، صعدت فوق سطح البيت، عالمي الذي أرتاح فيه، أحاول تقليد أخي الذي يكبرني بعامين، في صيد العصافير الطائرة فوق السطح، وأطلق الزلط من الفخ الذي اشتريته – والذي يشبه فخ أخي كثيرا – لكنني لم أفلح قط في صيد عصفورة واحدة. أذاكر فوق ذلك السطح. وأحلم بأن أجد حلا لإنهاء شقاء هذه الأسرة. اقتربت من العشة التي تربى أمي فيها دواجنها، إنني المسئول عن هذه العشة، أنظفها كل يومين، أخرج " الفرشة " وأغسلها وأنشرها فوق سياج السطح، وأطلق الدواجن. أتابع ذكر البط وهو يقفز فوق ظهر أنثاه. وأضحك كثيرا لذلك، وأجمع البيض، أضعه في علبة سمن فارغة صدئة، أعده، وأذهب إلى أمي لأخبرها بعدده. هذا البيض ليس لنا، فأنا أعرف ماذا أفعل فيه. آخذه إلى حسن البقال، بعلبة السمن الفارغة الصدئة، يعده عم حسن، ويعطيني ثمنه، فأعطيه لأمي، ولا أخبر أحدا بهذا؛ حتى أخي الذي يكبرني بعامين، فقد سألني كثيرا: " أين يذهب البيض الذي تبيضه الفراخ؟! " فأمط بشفتي ولا أجيبه. أحيانا يعطيني عم حسن البقال شايا وسكرا بدلا من ثمن البيض.
اقتربت من الكوخ، بابه مغلق على غير العادة، طفت حول الكوخ سمعت صوت همهمات. نظرت في فتحة من فتحاته الكثيرة، رأيت منى تنام فوق الفراش، ونصف أخي الأعلى عاريا، وهي لا يظهر منها سوى وجهها وساقيها المرفوعتان لأعلى. دهشت مما أرى. كانت منى تبتسم وتتحدث، وأخي يتحدث أيضا، ومؤخرته العارية أمام عيناي تماما، ومنى تدق عليها بيديها. ثم رأتني، فضحكت بصوت مرتفع، ورأيت أخي ينظر نحوى وقد هب من مكانه باحثا عن شيء يغطى به عريه. وأخذت أجرى إلى الشارع. جريت بطريقة لم أفعلها من قبل.
إنها مشكلة صعبة، فلابد أن أخي الكبير سيضربني، وستشاركه في ضربي أمي أيضا، وأختي الكبيرة، وسيسبني أخي الذي يكبرني بعامين، وستسخر منى بنات أختي الثلاث. أمي تحبني أكثر من الجميع، فأنا آخر العنقود – كما تقول دائما – وأنا أشفق عليها وأساعدها في كل شيء. لكنها ستنقلب على، وسأفقد صداقتها.
سرت حتى حدائق الشلالات وحدي، وأنا لم أفعل هذا من قبل. أذهب إلى حدائق الشلالات كثيرا، لكن برفقه الأصدقاء. نمت تحت شجرة كبيرة، الآن أتضح كل شيء، وعرفت سر النظرات التي تحدث بين “ منى “ وأخي الكبير.، الغريب أن أمي لم يحدث منها ما أفهم منه إنها تعرف ما سيحدث، فلم تبتسم في حياء، كما يحدث دائما، ولم تعلق على ذلك مع أختي الكبيرة. أنهما تتصرفان كأمر عادى أن تترك " منى " العمل الذي تفعله، وتحلان محلها لكي تذهب للقاء زوجها. ففي الليل يصعب هذا اللقاء، حيث تجتمع الأسرة وتزدحم الشقة.
عدت متأخرا، وقد هدني التعب، فكرت في الذهاب إلى عمى في الورديان لكي يأتي معي ليحميني من ضربهم، لكنني لا أمتلك نقودا للذهاب، كما أن ذلك سيزيد المشكلة تعقيدا، فسيضحك عمى، ويحكى لزوجته التي لا تكف عن السخرية، خاصة في مثل هذه الأشياء.
التعب جعلني أغامر بالدخول، وبتحمل أي شيء يحدث لي. فتحت أمي باب الشقة، ارتعش جسدي، منتظرا الضربات التي ستأتي من كل جانب، لكنها تابعتني في اهتمام، لم تسألني – ككل مرة أتأخر فيها – عن المكان الذي كنت فيه. قالت:
- اغسل يديك لتتعشى.
كان الوقت متأخرا، وأخي الكبير وأخي الذي يكبرني بعامين مازالا في الخارج كعادتهما. و” منى “ وأختي وبناتها نائمات. قلت لأمي:
- لا أريد أن أكل.
وعندما وجدتها تلح في أن آكل. قلت: تعشيت مع صديق لي.
كنت أريد أن أهرب من أخوى، فإذا عادا يجداني نائما. فالجوع ليس مهما، المهم هو الضرب.
ظللت ساهرا إلى أن جاء أخي الكبير، فضممت جسدي، وشددت الغطاء وبكيت من شدة الخوف، لكنني سمعته يسأل أمي:
- هل عاد؟
- إنه نائم.
- أرجو ألا يحدثه أحد في هذا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى