لم يصدق نفسه عندما داهمته تلك الحمى، التي ارتعد جسده على إثرها، وبات يعاني آلاما مبرحة، يتردد داخله صوت "الشاويش عطية" في أفلام "إسماعيل ياسين" قائلا:
"هو بعينه وغباوته وشكله العكر"
ولكن ألا يجد مضيفا كريما يحسن استقباله سوى جسده المسكين؟!
إنها المرة الثالثة التي يشرفه فيها بالزيارة، والله وحده يعلم متى وكيف تنتهي؟ ووجد نفسه يتذكر المقولة الدارجة
" التالتة تابتة".
اشتدت عليه الحمى، فتصبب عرقا وراح يهذي بكلمات غير مفهومة، لتغفو عيناه رغما عنه، وكأنه راح في إغماءة مفاجئة، ليفيق بعد برهة من الوقت على همس في أذنيه:
_ سامحني يا صديقي، فأنا من الفدائيين الذين يزج بهم القادة في حربهم مع بني جنسكم، يعلمون أننا ضعفاء البنية، لا نقوى على سلب الأرواح، فيقتصر دورنا على مهاجمة أجسادكم؛ لتزداد أعداد المصابين؛ فتقوى شوكتهم ويثبت وجودهم.
_ وما ذنبي أنا أيها الأحمق حتى تحتل جسدي وتسبب لي هذا الألم وتلك العزلة الموحشة؟!
_ أخبرتك أنني أنفذ الأوامر وحسب، يبدو أنك مدرج في قوائم ضعيفي المناعة، والذين يسهل اختراقهم، لذا عليك أن تسجد شكرا لله أن جعلني من نصيبك بدلا من أن تتذمر هكذا، ألا تعلم ماذا يفعل خيرة فرساننا بأمثالك؟!
_ بلى أعلم للأسف، يحصدون الأرواح بلا ذرة من شفقة أو رحمة، وقد حمدت الله في كل مرة كتب لي فيها النجاة.
_ لا تقلق..أعدك أن ٱكون ضيفا خفيفا قدر استطاعتي، وأمنحك بعض الوقت دون أن يهاجمك الألم.
_ هذا كرم كبير منك، وليتك أيضا لا تسلبني حاستي الشم والتذوق تلك المرة، فأنت لا تتخيل كم هو سخيف أن تفقد الإحساس بالطعم والرائحة.
_ أتراني ماردا خرج إليك من المصباح لتوه، لتملي عليه أمنياتك؟! ولكن لا بأس..لك ما طلبت.
ساعده هذا الإتفاق على الخلود إلى النوم بضعة ساعات تلك الليلة، بعد أن تناول حفنة من الأدوية المسكنة ومقويات المناعة، ليستيقظ في الصباح وقد شعر بالجوع، ففتح باب الحجرة يلتقط طعام الإفطار بحرص شديد؛ فلا يصاب أحد أفراد أسرته بالعدوى, وبينما يتناول أولى لقيمات إفطاره، هاجم رأسه صداع شديد مع عودة آلام الجسد المبرحة من جديد..
_ هاقد عاد هذا اللعين ليباشر نشاطه، ألا يستطيع الانتظار حتى أنتهي من الطعام؟!
يأتيه الصوت الهامس ثانية:
_ لم السباب يا صديقي؟! هل هذا هو جزاء المعروف؟!
_ معروف! أي معروف وقد اقتحمت جسدي وهددت أمني وحياتي؟!
_ لقد وعدتك بهدنة قصيرة لا جلاء تاما، فلا تكن طماعا، وقدر حسن الصنيع.
استشاط غضبا من كلماته، وقد تكالبت عليه الآلام؛ فأفقدته القدرة على الجدال، فقرر أن يلوذ بالصمت، ويحاول الاسترخاء قليلا.
مرت الأيام وقد خفت حدة المرض وأعراضه السخيفة، لم يفقد خلالها حاستي الشم والتذوق كما وعده ضيفه الدخيل، الذي هنأه بنبرة حزينة على تخطي ذروة المرض، فسأله متعجبا:
_ ألم تقل أن مهمتك هي إصابتي وفقط، وقد فعلت..فلم ذاك الحزن المستتر وراء كلماتك؟!
_ هل نسيت أن تماثلك للشفاء يعني اقتراب نهايتي، خاصة مع تلك الكميات الهائلة من العقاقير الطبية التي حشوت بها معدتك؟!
_ معذرة..ولكن موتك هو ثمن حياتي، وتذكر أنني لم أدعوك لغزو جسدي، فلو لم تأت لما وصلنا الى هنا.
_ لا عليك..هذا مصير حتمي سواء كان معك أو مع غيرك.
_ أنا لا أفهمك حقا! تقول أنك من الفدائيين، ومثلكم في بني البشر يواجهون الموت بشجاعة؛ فهم أصحاب قضية، بينما يسكنك الحزن لاقتراب النهاية!
_ ها قد أجبت على نفسك، وماهي قضيتنا إذن؟! ماذا نستفيد نحن العامة لو أبدنا الجنس البشري كله مثلا ؟! نحن وقود حرب يصنع المجد للزعماء.
_ اسمح لي..تلك نسميها "سياسة القطيع"
قاطعت حديثهما طرقات خفيفة على الباب، ليأتيهما صوت" نور" تطمئن على صحة أبيها وتخبره أنها توحشته كثيرا، لتتهلل أسارير الأب لسماع صوتها ويخبرها أنه يتماثل الشفاء وأنه يفتقدها كثيرا، ويطلب منها أن تعتني بنفسها وتستمع إلى كلام أمها.
يتأثر الدخيل بحديثهما قائلا:
_ يالها من طفلة جميلة حنونة وذكية.
_ لا شأن لك بابنتي، وإياك أن تقترب منها أو أي من أفراد أسرتي.
_ لا تخف، وإن كانت مهمتي هي إصابة أكبر عدد ممكن من البشر، ولكن كيف وأنا مسجون معك في تلك الحجرة؟!
توالت الأيام واعتاد صديقنا على حديث الدخيل، والذي كان نافذته على عالم مجهول أراد أن يعرف عنه الكثير، وكلما استرد صحته، وهن الدخيل وخفت صوته، وازداد تعاطف صديقنا معه، ومع صباح يوم جديد..غاب ذاك الصوت إلى الأبد.
"هو بعينه وغباوته وشكله العكر"
ولكن ألا يجد مضيفا كريما يحسن استقباله سوى جسده المسكين؟!
إنها المرة الثالثة التي يشرفه فيها بالزيارة، والله وحده يعلم متى وكيف تنتهي؟ ووجد نفسه يتذكر المقولة الدارجة
" التالتة تابتة".
اشتدت عليه الحمى، فتصبب عرقا وراح يهذي بكلمات غير مفهومة، لتغفو عيناه رغما عنه، وكأنه راح في إغماءة مفاجئة، ليفيق بعد برهة من الوقت على همس في أذنيه:
_ سامحني يا صديقي، فأنا من الفدائيين الذين يزج بهم القادة في حربهم مع بني جنسكم، يعلمون أننا ضعفاء البنية، لا نقوى على سلب الأرواح، فيقتصر دورنا على مهاجمة أجسادكم؛ لتزداد أعداد المصابين؛ فتقوى شوكتهم ويثبت وجودهم.
_ وما ذنبي أنا أيها الأحمق حتى تحتل جسدي وتسبب لي هذا الألم وتلك العزلة الموحشة؟!
_ أخبرتك أنني أنفذ الأوامر وحسب، يبدو أنك مدرج في قوائم ضعيفي المناعة، والذين يسهل اختراقهم، لذا عليك أن تسجد شكرا لله أن جعلني من نصيبك بدلا من أن تتذمر هكذا، ألا تعلم ماذا يفعل خيرة فرساننا بأمثالك؟!
_ بلى أعلم للأسف، يحصدون الأرواح بلا ذرة من شفقة أو رحمة، وقد حمدت الله في كل مرة كتب لي فيها النجاة.
_ لا تقلق..أعدك أن ٱكون ضيفا خفيفا قدر استطاعتي، وأمنحك بعض الوقت دون أن يهاجمك الألم.
_ هذا كرم كبير منك، وليتك أيضا لا تسلبني حاستي الشم والتذوق تلك المرة، فأنت لا تتخيل كم هو سخيف أن تفقد الإحساس بالطعم والرائحة.
_ أتراني ماردا خرج إليك من المصباح لتوه، لتملي عليه أمنياتك؟! ولكن لا بأس..لك ما طلبت.
ساعده هذا الإتفاق على الخلود إلى النوم بضعة ساعات تلك الليلة، بعد أن تناول حفنة من الأدوية المسكنة ومقويات المناعة، ليستيقظ في الصباح وقد شعر بالجوع، ففتح باب الحجرة يلتقط طعام الإفطار بحرص شديد؛ فلا يصاب أحد أفراد أسرته بالعدوى, وبينما يتناول أولى لقيمات إفطاره، هاجم رأسه صداع شديد مع عودة آلام الجسد المبرحة من جديد..
_ هاقد عاد هذا اللعين ليباشر نشاطه، ألا يستطيع الانتظار حتى أنتهي من الطعام؟!
يأتيه الصوت الهامس ثانية:
_ لم السباب يا صديقي؟! هل هذا هو جزاء المعروف؟!
_ معروف! أي معروف وقد اقتحمت جسدي وهددت أمني وحياتي؟!
_ لقد وعدتك بهدنة قصيرة لا جلاء تاما، فلا تكن طماعا، وقدر حسن الصنيع.
استشاط غضبا من كلماته، وقد تكالبت عليه الآلام؛ فأفقدته القدرة على الجدال، فقرر أن يلوذ بالصمت، ويحاول الاسترخاء قليلا.
مرت الأيام وقد خفت حدة المرض وأعراضه السخيفة، لم يفقد خلالها حاستي الشم والتذوق كما وعده ضيفه الدخيل، الذي هنأه بنبرة حزينة على تخطي ذروة المرض، فسأله متعجبا:
_ ألم تقل أن مهمتك هي إصابتي وفقط، وقد فعلت..فلم ذاك الحزن المستتر وراء كلماتك؟!
_ هل نسيت أن تماثلك للشفاء يعني اقتراب نهايتي، خاصة مع تلك الكميات الهائلة من العقاقير الطبية التي حشوت بها معدتك؟!
_ معذرة..ولكن موتك هو ثمن حياتي، وتذكر أنني لم أدعوك لغزو جسدي، فلو لم تأت لما وصلنا الى هنا.
_ لا عليك..هذا مصير حتمي سواء كان معك أو مع غيرك.
_ أنا لا أفهمك حقا! تقول أنك من الفدائيين، ومثلكم في بني البشر يواجهون الموت بشجاعة؛ فهم أصحاب قضية، بينما يسكنك الحزن لاقتراب النهاية!
_ ها قد أجبت على نفسك، وماهي قضيتنا إذن؟! ماذا نستفيد نحن العامة لو أبدنا الجنس البشري كله مثلا ؟! نحن وقود حرب يصنع المجد للزعماء.
_ اسمح لي..تلك نسميها "سياسة القطيع"
قاطعت حديثهما طرقات خفيفة على الباب، ليأتيهما صوت" نور" تطمئن على صحة أبيها وتخبره أنها توحشته كثيرا، لتتهلل أسارير الأب لسماع صوتها ويخبرها أنه يتماثل الشفاء وأنه يفتقدها كثيرا، ويطلب منها أن تعتني بنفسها وتستمع إلى كلام أمها.
يتأثر الدخيل بحديثهما قائلا:
_ يالها من طفلة جميلة حنونة وذكية.
_ لا شأن لك بابنتي، وإياك أن تقترب منها أو أي من أفراد أسرتي.
_ لا تخف، وإن كانت مهمتي هي إصابة أكبر عدد ممكن من البشر، ولكن كيف وأنا مسجون معك في تلك الحجرة؟!
توالت الأيام واعتاد صديقنا على حديث الدخيل، والذي كان نافذته على عالم مجهول أراد أن يعرف عنه الكثير، وكلما استرد صحته، وهن الدخيل وخفت صوته، وازداد تعاطف صديقنا معه، ومع صباح يوم جديد..غاب ذاك الصوت إلى الأبد.