شريف محيي الدين إبراهيم - أربعة شهب تحترق في الوادي... رؤية نقدية لرواية: (شهب من وادي رام) للكاتبة الفلسطينية: بشري أبو شرار

فدرة وشقيلة وهجرو ومرمرة أربعة شهب تحترق في فضاء هذا النص المركب، ولكل فتاة منهن قصة أو حكاية مع المكان الذي هو البطل الحقيقي لتلك الرواية.

الكاتبة بشري أبو شرار تقدم لنا حالة من الحزن العميق، إنه ذلك الشجن الذي يملأ قلوبنا جميعا، بل يحتوينا ليعصرها.
ولكل فتاة جمال خاص وطعم مختلف وشخصية مميزة، وإن اشتركن جميعا في تعرضهن للقهر على يد هريديةزوجة الأب، تلك المرأة الشرسة الموغلة في ظلمها أمام هوان الأب واستسلامه لها تحت مبرر لم شمل الجميع في بيت واحد.
تهتم بشري بالكادر السنيمائي والوصف الدقيق لكل التفاصيل المرتبطة بالزمان والمكان... الحاضر والماضي، أما المستقبل فهو ذلك المجهول الغارق في عتمة الظلم والضياع!!!
وتهتم كذلك بالوصف من الخارج، الذي سرعان ما نكتشف أنه مجرد عتبة للولوج للداخل... داخل العالم الحقيقي لتلك الرواية ،داخل نفوس أبطالها، ومع معاناتهم وإصرارهم رغم كل المعوقات ، على مواصلة المضي قدما... مواصلة رحلة الحياة!!!
***
تبدأ الرواية بتلك الجدة الطاعنة في السن عندما تقوم بشري بتقريب عدسة كاميرتها، وتكبيرها لصورة الجدة مع حبات القمح، وحركة الرحى.
(بكف جدتى تدور الرحى على حبات قمح تناثرت قشورها على حوافها... تفرد ساقها وتلم الأخرى فتلامس حافتها، بيد تقبض على العصا تلفها براحة يدها وتلقى بالأخري حبات القمح فتتناثر القشور وتندفع الحبات المطحونة على حوافها)
ص ٧
استخدمت الكاتبة ضمير الغائب في سرد معظم الأحداث، ولجأت أحيانا إلى ضمير المتكلم للتعبير عن المشاعر الداخلية للشخصيات.
(أفيق من نومي فأبدأ بالانفكاك من قميص نومي وارتداء لباسا خشنا يوحي بمظاهر الرجولة فيطالعني نهداي لا أعرف كيف أواريهما ما بين حنايا ملابسي، فأتى بشريط قطني أبدأ بلفه وأضغط في كل دورة والتفافة حتى يستوي بصدري دون أي بروز، وأنطلق خارجة أجوب الطرق والوديان)
ص ٢٢
هكذا تحدثنا فدرة عن نفسها وقد استخدمت الكاتبة هنا ضمير المتكلم
نحن أمام حالة فنية من فقدان الأمان!!،
وخاصة بعد موت الأم
وتخازل الأب أمام زوجته الماكرة، والأخ هنا غائب دائما عنهن بما هو أدعي وأهم
(أين أخي عائد؟!
_منذ يومين وهو ينام خارج البيت يبعث لي بالمرسال لكي أطمئن عليه، يراودني قلق... ولكن أظن أن غيبته لن تطول، لا تخافي يا فدرة ستلتقي بعائد، فهموم الوادي يحملها في البعد)
ص ٣٢
وتأخذنا الكاتبة مع الشهاب الأول (فدرة)
تلك الصغيرة التي تفوقت في دراستها رغم بدايتها المتعثرة ورغم قسوة هريدية إلا أن فدرة عرفت كيف تخفي كتبها وعلومها عن زوجة أبيها، وكيف تنام أهدابها على الثورات، والثائرين..
جيفارا... الهروب إلى المقاومة، المبعدين والمنفيين عن أوطانهم،وكل أحرار العالم..
فدرة تعلمت كيف تفسح طريقا لشعاع نور مع كتب الجغرافيا والتاريخ والأدب...
أورشليم وبيت لحم، والرقيم، وتلك الأمجاد التي حفرت في حجر واحد لحضارة واحدة.
تمزج بشري بين التاريخ والجغرافيا... الزمان والمكان، وما لهذا من دلالات تنعكس على فضاء النص.
وهي في الأساس تقوم بعملية مزج للعذاب والهوان والظلم، وما يقابله من مقاومة وإصرار على الحياة والبقاء. (تقطع العربة المسافات في ربوع حوران، وفدرة تغوص في دهاليز التاريخ لمدن أموات سبقت مدن أحياء... من أدوم الجبارة العاصية إلى الأنباط وكسر شوكتهم ليصيروا أمة واحدة لقوم لم يبنوا قصورهم ليومهم بل لغدهم... لمجد محفور في الصخور... من أرام إلى النبطين إلى كنعان)
ص ٣١
وفى عبارات قصيرة، ولكنها مكثفة تنقل لنا الكاتبة واقع مرير لتلك الأمة الجريحة.
(احتدم الخلاف هنا، وصارت أحلاف وفصائل بعضهم اتجه شرقا والآخر اتجه غربا، وبدأ المد والجزر، والجميع داخل أرض التيه لا يعرفون ميعاد الخروج... دماء ،قتلي، جرحي... هذه حياتنا خلف النهر)
ص ٣٤
(لم نعد ندر من أين تأتينا الضربات... الجميع يتناحرون، وقد يقضي علي الجميع، وكلما عاد أخي، أفرح لعودته ولا أسأله كيف وإلى متى؟!)
ص ٣٥
(نحن نعيش الحرب يا فدرة، الجوارح تحوم في سمائنا لتنقض على الرجال، ولا أدري كيف لي من كل هذا؟!)
ص ٣٥
***

ومع( شقيلة) الشهاب الثاني تواصل بشري في إصرار فني رحلة عذابها مع هريدية زوجة الأب، وسلسلة الاضطهاد والظلم التي تحاصر بها شقيلة حتى تصل بها إلى قمة معانتها حين تكتشف تلك الفتاة خيانة هريدية لأبيها ولا تقدر على البوح ولا يتملكها سوي الصمت، ربما خوفا على أبيها، بينما تستمر هريدية في خيانتها وغيها وظلمها.!!
(فكانت هريدية تتهامس في حضن ذلك الرجل، إنه نايف الأعرابي المتنقل بين بلدان وخرب تحطه وتقذف به، يضمها بين ساعديه يعتصرها، تتململ في دلال وغنج، غارسة أنفاسها في صدره، ثم يتناولها، يشدها إليه لتبدأ عاصفة من القبلات)
ص ٩٥
اهتمت الكاتبة بصياغتها لهذا المشهد حتى بذكرها لنايف بأنه الأعرابي المتنقل بين الخرب.
ومن الوصف الخارجي انتقلت إلى أعماق شقيلة (تسمرت أمامها شقيلة لا تعرف أي حائط أو أرض تبتلعها، دارت في مكانها تمد يدها لتجد جمادا يحمل جسدها المتهاوي)
ص ٩٥
ثم تقدم لنا الكاتبة في نفس المشهد صراعا من نوع آخر، إنه صراع العيون.
(تقابلت عيناهما كحراب انتزعت من مخادعها مسنونة لامعة، تستعد لوقت النزال، ولكن عيني شقيلة تنسحب إلى غربة ووجيعة، تتقلب في جمارها تصطلي بنارها)
ص ٩٥
وقد أجادت بشري في تصويرها لهذا المشهد المعقد من الداخل والخارج
***
أما الشهاب الثالث فهو تلك الفتاة البريئة( هجرو) التي لطخت هريدية سمعتها ولوثت شرفها.
(و إذا بصوت هريدية يعلو صراخا فالتفتت نحوها فزعة، ويظهر سهيل وحشا هائجا يقترب منها، يمسك بها، تنتفض هجرو فزعة، اجتاحتها رجفة، تكومت بجسدها أمام أبيها، رفعها إليه، يهزها بعنف :
أنظر ي إلى جيدا يا هجرو... لقد رأيت رجلا يقفز من شباك حجرتك، من يكون هذا الرجل؟!)
ص ١٥٢
سهيل الأب لا يلين لبكاء ابنته، ونداءتها لجدتها وأمها طالبة العون على كل ما حل بها من ظلم ووقيعة لا تقدر على صدها
(أحكم الشر قبضته، رأس سهيل ولم ينفك منه إلا حين أوصد سجن هجرو وسلسلها وحيدة إلا من دمعاتها وصرخاتها)
ص ١٥٣
وفى تأكيد على ضياع الحق ومواصلة الشر لانتصاره تنجح هريدية في التخلص من هجرو وتزوجها رغما عنها لابن عمها عون.
(بماذا تدينيني يا ابنة سهيل؟!
ها أنت في بيتي حيث الشمال الذي طالما حلمت بالعيش فيه، والبقاء على مدى الزمان كأشجار زيتونكم بدلا من الترحال مع العربان من مكان لمكان، و عشيرتك يا هجرو الجميلة باتت بعيدة عنك، ولم تعد للعين مرأة لهم... الآن أنت والأرض معا)
ص ١٧٥
ولا يخفى على القارئ ما في كلمات عون من دلالات وايحاءات تعنيها الكاتبة.
وقد نجحت بشري في توظيفها لهذه الشخصية (عون) ورغم قصر حجم دورها في الرواية إلا أن الكاتبة وفقت في استخدامها لتأكيد المعنى الذي تريد إيصاله إلينا جميعا.
***
ومع (مرمرة) الشهاب الأخير، تأخذنا الكاتبة في رحلة معاناة أخرى مكررة ومعادة ولكن بصور أخرى وكأن الكاتبة تود أن تقول إن الظلم ممتد ومستمر منذ عهود بعيدة وممتد لعصور طويلة قادمة في رتابة ووقاحة منفرة، ومع صباح كل يوم يرتدي قناعا ووجها آخر مختلفا، فالظلم لا يعدم الحيلة ولا يمل أبدا من ممارسة لعبته القبيحة.
***
مرمرة تلك الفراشة الرقيقة التي تشهد وفاة أبيها سهيل :
(مرمرة، أوصيك بالأرض لك ولأخوتك من بعدي، لا تفرطن في ذرة من ترابها... الأرض... الأرض... وأراح جسده في فراشه صالبا عينيه على شباك غرفته يطالعه قمر سارح في سماء واديه، وتمتم يناجي فضاءه : كم أحبكن يا بناتي)
ص ٢١٣

والأب رغم خضوعه لزوجته، واستسلامه لها إلا أنه في النهاية لم يتنازل لها عن ذرة واحدة من تراب الأرض، إلى الحد الذي يثير غضبها.
(وتدمع عين ويظل دفن سهيل هو مغزى لكل ما كان حين يظهر وجه هريدية ولهجتها الأمرة بصلف وعتي:
فلتأخذه العشائر لتتم مراسم دفنه بعيدا عن هنا)
ص ٢١٤
وتنهي الكاتبة روايتها بتلك العبارة البليغة:
(ويسقط الأسد الجريح وتمضي العربة عنه ،وتبقى الغزلان حول عين الماء يزداد التحامهن حول عين الحياة)
ص ٢١٤
إنه ذلك الأب الذي يوصي ابنته مرمرة بأن جسده لن يرتاح في ثراه إلا حين يعبرن النهر إلى بلادهن في كنعان
(بنات كنعان جميعهن عائدات)
ص ٢١٣
وتتركنا الكاتبة بعد أن تسدل ستار النهاية لروايتها الجادة، ونحن نتساءل عن ذلك الأب الذي مضت عنه العربة وعن أولئك الغزلان المتزاحمات حول عين الحياة!!
ويبقى السؤال الأهم :
ترى هل يوما ما ستتحقق نبؤءة الأب سهيل، وتعود جميع بنات كنعان؟!
تحية إلى بشري أبو شرار تلك الكاتبة الواعية لقضية وطنها، و المالكة لأدواتها في فن كتابة الرواية من سرد، ووصف وحوار درامي مضفر بعدد لا ينتهي من الرموز والدلالات والمستويات المتعددة للنص... بشري وفقت أيضا في اختيار العنوان
(شهب من وادي رام)
لما له من دلالات عدة تربط الماضي بالحاضر، وتؤكد على حالة الاحتراق التي يعاني منها جميع أبطال الرواية، بل جميع إخوانها في فلسطين، والشرفاء من أبناء هذا الوطن!!
الوطن الكبير!!
الأمة العربية غير المتحدة، ولكنها ورغما عن كل شئ كبيرة وستظل إلى الأبد كبيرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى