عصري فياض - اليوم سيدفن حلم آخر.. (قصة خيالية مبنية على واقع معاش)

يعتمر قبعة الصوف ويضع كعازه بين قديمة ويحمل مذياعه الصغير قرب أذنه اليمنى ويتكأ على جدار الساحة الرئيسة في المخيم..ذلك هو السبعيني "أبو حسن" أحد البقية الباقية ممن لجأوا صغارا من أم الزينات قضاء حيفا، ومنذ نشأ وشب على الحياة القاسية،تعود متابعة الاخبار السياسية أملا في تحقيق العودة سلما أو حربا.. مررت من جانبه وطرحت عليه السلام بصوت مرتفع فسمعه يتراجع عاما بعد عام ... رأني وإبتسم إبتسامة شقت شعر وجهه الابيض الكثيف الخشن، قلت له :- كيف شايفها ؟؟
رد قائلا : عالفاضي ، كله كذب بكذب ، راحت علينا
شدني جوابه الغير معتاد والبعيد عن تفاؤله الدائم،فإنعطفت نحوه،فأقفل المذياع بعد أن ابعده عن رأسه.. فرحب وصافحني بيده الضعيفة المرتجفة
قلت له : وين تفاؤلك عمي أبو حسن؟
تنهد من جوفه تنهيدة حارقة وقال: آخ يا عمي آخ .. والله إمبينه مسكرة لا سما ولا ارض، والمشكلة انو احنا تروضنا عالكذب.. وصرنا نصدق... احنا اتخدرنا عالبهدلة والضياع والنسيان.. وما ظل أمل لا بنصر ولا برجعة ...راح نموت هون تحت علم الوكالة وندفن بالجميلة غربا....
قلت له وانا ابلع ريقي مواسيا : خلي ايمانك بالله كبير...شويت اسابيع بصطلحوا... شويت اسابيع بنتوحد... وبعدين شوي شوي بتنحل...
قال : من ما اطلعنا وهمي يقولوا هالاسبوعين... وبعدين حتى لو اتوحدوا جماعتنا، بالك النصر بيجي ثاني يوم... ابدا...إحنا بنكذب على حالنا والعرب بالدرك الاسفل من الخراب والهوان.. والعالم منافق ما بعرف الا القوة .. كون قوي بنتبهلك.. ظلك ضعيف بيدوسك.. والاهم قيادتنا مش قابله تفهم هذا الحكي... بدهم يجربوا فينا كمان سبعين سنه مجلس الهوى وقرارات الزفت....
قلت له : طيب احنا لوين رايحين؟
قال : لجهنم
ضحكت وقلت له :يعني ما عدت تتأمل ترجع على أم الزينات؟
طأطا رأسه قليلا ثم رفعه والدمعة في عينيه ...مين إلى يرجعني ساعة وأموت وأنا خدام كندرته... بس اشرب من عين البلد.. واسبل عيني....بس هيك اتمنى من ربي
رتبت على كتفه قلت له : راح تعود بإذن الله عمي ابو حسن رب العزة بيقول بكتابه المجيد " وإن تولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" وبيقول كمان "وليتبروا ما علوا تتبرا" وعد الله حتمي... راح نرجع....وتكون فرحتنا بالعودة بتساوي ألم ووجع السبعين سنه والمئة سنه ...يمكن نفقد شهدا من فرحة عودتنا اكثر ما فقدنا من شهدا الي استشهدوا بحياتنا
فقال :علواه... علواه يا عمي....كل اجيالي والي مثلي في المخيم ماتوا وانقرضوا بصمت.. بس اصرار الاجيال على العودة بالرغم انهم ما عاشوا بهذيك البلاد بواسينا وبرفع معنوياتنا.....
صافحته وابتسمت له ابتسامة حزينه ونهضت اكمل سيري
في الصباح الباكر خشخشت سماعة المسجد، وانطلق صوت مؤذنها يعني الحاج أبو حسن .. فأجهشت بالبكاء وقلت اليوم سندفن حلما آخر.

عصري فياض

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى