د. علي خليفة - المسرح الشعري وقضايا الواقع.. "دراسة في نماذج من مسرحيات شعرية مصرية"

(1)
لا شك أن المسرح قد بدأ شعرًا عند الإغريق، سواء في ذلك المسرح التراجيدي أم المسرح الكوميدي، ولا غرابة إذًا في أن يسمي أرسطو كتابه الذي يتناول فيه فنون الشعر المختلفة - وفيه يتناول المسرحية على أنها شعر تمثيلي -
"فن الشعر"، وتتابعت الكتب التي سُميت بفن الشعر بعد ذلك، ودرست فيها المسرح على أنه من الشعر التمثيلي، مثل: كتاب "فن الشعر" لهوراس اللاتيني، وكتاب "فن الشعر" لبوالو الفرنسي.
ولا نرى محاولات لكتابة المسرحية نثرًا إلا في عصر النهضة، وفي الكلاسيكية الحديثة في فرنسا في القرن السابع عشر، لا سيما عند موليير الذي كتب بعض مسرحياته نثرًا متمردًا في هذا على تقاليد المسرح؛ في أنه لا بد من كتابة المسرحية شعرًا، ولا شك أن موليير كان على وعي وهو يكتب بعض مسرحياته الكوميدية نثرًا في أنه رأى أن لغة النثر هي الأنسب في التعبير عن مشاكل الناس الواقعية
في عصره وفي العصور القادمة، ولا أستبعد أيضًا أن يكون موليير قد نظر ببصيرته العميقة للمستقبل، وأدرك أن النثر سيكون هو الطريقة التي تكتب بها المسرحيات في المستقبل مع تعبير المسرحيات عن واقع الناس ومشاكلهم اليومية خاصة
في الكوميديا.
وكان تحول إبسن في العصر الحديث عن كتابة المسرحية الشعرية التي تتناول موضوعات تراثية وحوادث أسطورية وتاريخية لكتابة المسرحية النثرية المعبرة عن قضايا الانسان في العصر الحديث - هو الثورة الحقيقية التي أعلنت عن انسحاب الشعر من المسرح، وحلول النثر مكانه فيه، فهو الأنسب للتعبير عن الإنسان المعاصر بقضاياه العادية اليومية.
ومع ذلك فهناك نقاد وشعراء كبار -مثل ت س إليوت - رأوْا أن المسرحية الشعرية لم تمت في العصر الحديث، وأنها باقية ليس فقط في تناولها لقضايا تاريخية
- كمسرحية "جريمة قتل في الكاتدرائية" لإليوت - ولكنها تستطيع أيضًا أن تعبر عن مشاكل الإنسان الواقعية، ويكون للشعر أثر كبير في إعطاء عمق للأحداث والشخصيات فيها - كمسرحية "حفلة كوكتيل" لإليوت- وكان صلاح عبد الصبور في عالمنا العربي من أشد المناصرين للمسرحية الشعرية، وكان يردد دائمًا
أن المسرح بدأ شعرًا، وسيعود شعرًا، وكان يرى أن مسرحيات إبسن الشعرية
لا تقل قيمة عن مسرحياته النثرية إن لم تزد عليها، وبناء على ذلك كتب صلاح
عبد الصبور خمس مسرحيات شعرية اعتمد في ثلاث منها على التراث – هي: مسرحية "مأساة الحلاج"، ومسرحية "بعد أن يموت الملك"، ومسرحية "الأميرة تنتظر" - وكتب مسرحية ذات أجواء واقعية، ولكنها مغلفة بالعبث، وهي مسرحية "مسافر ليل"، فكان هذا الشكل العبثي فيها مسوغًا لها لقبول اللغة الشاعرية
على ألسنة الشخصيات بها، وكتب مسرحية عبرت عن واقع قريب، هي مسرحية "ليلى والمجنون".
(2)
وفي هذه الدراسة القصيرة سأدرس بعض المسرحيات الشعرية التي كتبها شعراء مصريون في مراحل مختلفة من العصر الحديث، وأنظر للقضايا التي تناولوها فيها، وكيفية تناولهم لها، وكيف كانت لغة الشعر التي صاغوا بها هذه المسرحيات معبرة أو غير جيدة التعبير عن هذه القضايا الواقعية التي تم تناولها فيها.
والمسرحيات الخمس التي سأدرسها هنا هي: مسرحية "الست هدى"
لأحمد شوقي، ومسرحية "أوراق الخريف" لعزيز أباظة، ومسرحية "مأساة جميلة" لعبد الرحمن الشرقاوي، ومسرحية "ليلى والمجنون" لصلاح عبد الصبور، ومسرحية "بيكاسو وأحاديث الظلال" لرشا حسني.
(3)
ومسرحية "الست هدى" من أوائل المسرحيات الشعرية العربية - ذات الشعر العمودي - التي عالجت قضايا واقعية، ونرى شوقي فيها عالج بعض قضايا المرأة بجرأة شديدة تحسب له، فقد كانت المرأة في الثلث الأول من القرن الماضي - وهي الفترة التي عبرت عنها هذه المسرحية- مهيضة الحقوق في المجتمع، ولم تكن تشارك في الحياة العامة، كما أنها كانت لا تُخَيَّرُ فيمن تتزوجه، وقد عبر شوقي على لسان بعض الفتيات من صواحب الست هدى وبنات صاحبات لها عن أنهن لا يرجع إليهن لأخذ رأيهن في الرجال الذين يتقدمون للزواج بهن، ووضح من هذه المسرحية اعتراض شوقي على هذا الحال الذي يخالف الإسلام وأبسط حقوق المرأة.
كما كانت جرأة كبيرة في هذه المسرحية من شوقي في أن تكون الشخصية الرئيسة فيها والتي سميت المسرحية باسمها - وهي الست هدى - نمطًا كوميديًّا للمرأة المزواجة، وهذا النمط الكوميدي يعد نادرًا جدًّا في العصر الذي كتب فيه شوقي هذه المسرحية.
والست هدى في هذه المسرحية مشكلتها ليست في أنها قد كثر عدد من تزوجت بهم وماتوا عنها، أو طُلِّقَتْ منهم بسبب أنها لم تر فيهم الرجل المناسب لها، ولكن مشكلتها في طبيعتها، فهي تحب استبدال الرجال الذين تتزوج بهم، وتستمتع بتتابعهم عليها، ولا يجب أن نفهم من بعض حديثها لصاحبتها زينب في الفصل الأول من هذه المسرحية أنها سيئة الحظ في أنها تزوجت من عدة رجال كانوا كلهم سيئين في أخلاقهم، وغلب عليهم الطمع في مالها وممتلكاتها، فهي تتستر بهذه العبارات، ولكن حقيقتها أنها تستمتع بتغيير الرجال الذين تعاقبوا عليها، وهي كما ذكرت نمط كوميدي رسمه شوقي بحرفية كبيرة، وكانت جرأة منه في أن يتناوله
في مسرحية ذات أجواء معاصرة في تلك الفترة المبكرة من العصر الحديث في مصر.
والحقيقة أن أحمد شوقي رغم كتابته هذه المسرحية بالشعر العمودي إلا أنه كان يعتمد على قصر حوارات الشخصيات فيها، وأحيانًا كان يُقَطِّعُ البيت الشعري فيها في حوار أكثر من شخصية حتى بدا الأمر، وكأن ما نراه في هذا التقطيع شبيهًا بالشعر الحر.
ويضاف لهذا أن لغة الشخصيات في هذه المسرحية كانت قريبة مع فصاحتها من لغة الناس في حوارهم في ذلك العصر، وقلما نرى كلمات غريبة في هذه المسرحية، بخلاف مسرحيات شوقي الشعرية ذات الموضوعات التاريخية،
فقد كثرت فيها الألفاظ الغريبة، كما نرى هذا في مسرحية "مجنون ليلى"، ومسرحية "مصرع كليوبترا".
(4)
ومسرحية "أوراق الخريف" لعزيز أباظة تنفرد من بين مسرحياته الشعرية الأخرى بأجوائها الواقعية، وعبر فيها عزيز أباظة عن قضية عاطفية، وأرى أنه نجح في هذا في أن يجعل لغة الشخصيات الشاعرية فيها تبدو مقبولة، خاصة لغة العاشقين فيها مهيب ووداد، ويضاف لهذا أن مهيب كان ذا حس شاعري في هذه المسرحية، ووصفه بعض المحيطين به بأنه شاعر، وكل هذا سَوَّغَ حديثه بالشاعرية العالية، وتَقَبُّل المتلقين لهذه المسرحية للغة الشاعرية العالية هذه بها.
والقضية التي يعرضها عزيز أباظة في هذه المسرحية عن عاشقين فرق عم المحبوبة بينهما في الماضي، وتلاقيا بعد ذلك بعدة سنوات، وكانت المعشوقة وداد قد تزوجت وأنجبت، وصارت ابنتها تستعد للزواج، وحاول هذان العاشقان وصل حبال ودهما التي انقطعت في الماضي، وتصادما بالتقاليد والأعراف، وخضعا من جديد لتلك التقاليد التي حالت في الجمع بينهما.
(5)
وقد كتب عبد الرحمن الشرقاوي مسرحية "مأساة جميلة" بالشعر الحر- وهي تعد من أوائل المسرحيات التي كُتِبَتْ بالشعر الحر - وتناول فيها الشرقاوي حدثًا سياسيًّا عربيًّا كبيرًا، هو التعبير عن جانب من كفاح الشعب الجزائري الشقيق ضد الاستعمار الفرنسي لينال استقلاله، وقد كتب الشرقاوي هذه المسرحية سنة 1961، ونالت الجزائر استقلالها بعد ذلك بعام؛ أي سنة 1962؛ أي إن الشرقاوي قد كتب هذه المسرحية خلال توهج اشتعال هذه الثورة؛ ولهذا بدا فيها بشكل واضح الجانب الحماسي، من خلال النبرة الخطابية فيها للدعوة للنضال ومقاومة المستعمر، وتأييد البطلة جميلة بو حيرد ورفاقها المناضلين في نضالهم ضد ذلك المستعمر الفرنسي.
والحقيقة أن هذه المسرحية رغم ضعف البناء الفني فيها وغلبة الخطابة والمباشرة عليها فإنها عبرت بشكل جيد عن تلك الثورة، وكانت لغة الشخصيات الشاعرية فيها قصائد تعبر عن الصمود أمام هذا المستعمر، ودعوة لمواصلة الكفاح لطرده من الجزائر، وهذا ما تحقق بعد عام واحد من كتابة هذه المسرحية.
(6)
ومسرحية "ليلى والمجنون" كتبها صلاح عبد الصبور بالشعر الحر، وعرض فيها حال مصر قبيل23ثورة يوليو، وتحديدًا خلال حريق القاهرة، ومن الواضح أن الأوضاع المتأزمة التي عرضها عبد الصبور في هذه المسرحية كانت تنبئ بثورة قادمة، وقد حدث هذا بالفعل في ثورة 23 يوليو.
وبطل هذه المسرحية هو سعيد الذي يشعر أن الفساد الذي حوله أكبر من أن يستطيع مواجهته بشعره؛ ولهذا نراه يعبر عن انهزامه في هذه المسرحية، ويقول:
إنه ينتظر القادم بعده الذي يحمل مع القلم سيفًا، أما هو فلا يمكنه عمل شيء سوى التعبير عن انهزامه والترقب والانتظار.
وإلى جانب هذه القضية السياسية التي صورها صلاح عبد الصبور في هذه المسرحية فإنه أطلعنا فيهاعلى طبيعة سعيد الشاعر المحاصر بتذكارات الماضي البائس التي تشعره بالقهر، وهو لهذا يبدو عاجزًا عن حب ليلى التي تحبه،
ولكنها تشعر باليأس منه في لحظات غضب وتسرع فتتركه، وتسلم جسدها لحسام
- الذي كان يعمل جاسوسًا على رفاقه في الجريدة التي يعملون بها معه، ومنهم سعيد وليلى - وتندم ليلى بعد ذلك على فعلتها هذه، وتحاول أن تعود لسعيد، ويحاول هو أيضًا أن يتمسك بها، ولكنه يظل محاصرًا بتذكارات الماضي، وشعوره بالعجز، وانتظاره للقادم بعده الذي يحمل السيف مع القلم؛ لأنه هو المناسب للقضايا التي في ذلك العصر، أما من يحمل الكلمة وحدها مثله فهو - في رأيه - غير مناسب له.
وأعتقد أن لغة الشعر العالية التي تكلمت بها كل الشخصيات في هذه المسرحية كانت غريبة عليها وهي تعبر عن قضايا واقعية، ورأينا حسان صديق سعيد يستنكر منه لغته الشاعرية التي يتكلم بها، ثم رأينا حسان نفسه يتكلم بهذه اللغة الشاعرية العالية، كما أن مونولوجات سعيد الشاعرية الطويلة في هذه المسرحية بَطَّأَتْ من سرعة الإيقاع فيها.
(7)
وقد كتبت الشاعرة رشا حسني مسرحيتها الشعرية "بيكاسو وأحاديث الظلال" منذ سنوات قليلة، ومزجت في كتابتها بين الشعر الحر والشعر العمودي، وكذلك مزجت فيها بين فنون مختلفة؛ كالرسم والموسيقى والمونتاج السينمائي
- الذي رأيناه في سرعة المشاهد بها، وتتابعها فيها - وكذلك مزجت رشا حسني
في هذه المسرحية بين تعبيرها عن بعض القضايا المحلية وبعض القضايا الإنسانية التي يشترك فيها كل الناس في كل عصر.
ونرى في هذه المسرحية الفنان العالمي بيكاسو يرسم لوحات عديدة، ويتجسد له الأشخاص الذين رسمهم في كل لوحة ينظر إليها، ويتحدث مع الشخصيات التي فيها، ويبدو تجاوبه الإنساني العالي معهم؛ ولهذا كانت جائزته
في نهاية هذه المسرحية على إبداعه الفني وعطائه الإنساني بأن تظهر له جارته بائعة الزهور الباهرة الجمال - والتي كان قد رسمها في إحدى لوحاته - وتُعَرِّفَهُ أنها حقيقة وليست خيالًا، وأنها تعشقه كإنسان، وتحب فنه وعطاءه الإنساني، وأنها
لا تريد سواه، فيفرح بذلك، ويشعر أن هذا خير جزاء له في تلك الحياة.
وكما نرى فهذه المسرحية يغلفها جو رومانسي كان مبررًا لقبول اللغة الشاعرية على ألسنة بعض الشخصيات فيها، خاصة بيكاسو.
وقد عبرت هذه المسرحية أيضًا عن بعض القضايا، ومن القضايا المحلية فيها تعبيرها عن الشباب الذين يغرقون في البحار خلال إبحارهم في بعض السفن والمراكب لبلاد أخرى سعيًا وراء الأمل في حياة أفضل ورزق أوسع، ويتحدث بيكاسو مع شاب غرق خلال سفره على أحد المراكب من أجل هذا السبب، ويأسى له ولأمه.
ومن القضايا الإنسانية التي تم تناولها في هذه المسرحية آثار الحروب المدمرة على بعض الأفراد والشعوب، خاصة تلك الحروب التي تشعلها بعض الدول بغرض استعمار بلاد أخرى ونهب خيراتها.
وقد وُفِّقَتْ رشا حسني في هذه المسرحية في رسم أجوائها التي تمتزج الرومانسية بالواقعية فيها، ولكن يؤخذ عليها أن هذه المسرحية كانت في حاجة لتكثيف أشد حتى لا يكون فيها حوادث تثقلها، وتبدو غريبة عليها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى