د. سيد شعبان - حارة عسل!

أصحو مع آذان الفجر على صوت المعلم 'قدرة الفول' لاتتعجبوا فذلك لقبه الذي يسره في الناس أن ينادى به؛ لاتتخيلوا جسده الذي يتراقص منه الكرش وعيناه اللتان يعلوهما حاجبان كأنهما قوس قزح؛ حتى صار علامة مميزة لحارتنا؛ على أية حال للمعلم قدرة صوت أجش حين يعلو صياحه مناديا صبيانه يوزع عليهم الفول وأرغفة الخبز؛ يمتلك المعلم قدرة سبعة أفران؛ أكبرها تقوم على إدارته زوجه نواعم؛ تشبه قرص عسل النحل؛ من يوم ما اشتهرت حارتنا بهذا اللقب أخذ يكيل حبات في الصباح تزيد عما يبتاعه منه الزبائن في الحارات الأخرى!
يتسلل الأغراب حاملين صحونهم طمعا في الزيادة؛ يسر المعلم هذا؛ يعدها مغازلة لنواعم مطلع الشمس!
تقع حارتنا قرب باب سعادة؛ من بعيد تلوح مأذنة سيدنا المرحومي؛ فيها دكانة بعدان مزين الصحة يختن الصبيان؛ زوجه شملولة تسد بظر البنات برماد الفرن!
حين تخطو الست نواعم في دروب الحارة يتراقص قلب المعلم قدرة؛ تحرك يديها وقد شمرت عن ساعديها فتعكس أساور الذهب أشعة الشمس التى ترسم ومضات من الزهو والشعور بالرضا!
لايقطع تلك المداعبات غير حركة وجلبة حسونة الحداد؛ يضرب بالمطرقة على سندانه في غيظ وحنق؛ إنه يتصبح كل يوم بوجه زوجه هنومة؛ تعرفون أن وجهها المجدر وشعرها الأكرث وصوتها الأجش؛ قد يبرران له بعض حنقه؛ غير أن الست هنومة تمتلك نفسا طيبة ولسانا أشهى من العسل؛ تكون فرجة لامثيل لها في بقية الحارات؛ تشوي المعلمة نواعم بلسانها الذي يكاد يقارب ثعابين بهلول الحاوي؛ يضعها في جرابه ومن ثم يخرجها عند احتدام الشجار بين نواعم وهنومة؛ أنصرف لبعض شأني؛ يتوالى صوت المذياع بأغنيتي المفضلة:ياحلو صبح ياحلو طل!
أقف مشدوها أمام نواعم!
تكاد الحارة تسطو بي؛ تظن الست أنني أغازلها؛ كيف لموظف في هيئة الأوقاف أن يعاكس امرأة؛ هذا عيب! سيما
أن تكون بالأخص زوج المعلم قدرة الفول؛ الذي يحلف بالله ثلاثا ألا أذوق من عربته لقمة؛ أسرع في ترضيته؛ أهمس في أذن المعلمة هوانم أنني أشاكس زوج حسونة الحداد؛ ساعتها تنفرج أساريرها في دلال؛ بل تطالبني أن أعلي من صوت المذياع حتى يبلغ آخر حارة عسل؛ أشعر بالزهو فقد رضيت عني؛ أغمز لها بطرف عيني؛ من بعيد يرمقني المعلم حسونة؛ في غيظ يطرق على السندان؛ الحاوي بهلول يخرج ثعابينه؛ فتعدو النسوة مسرعات وقد كشفت كل واحدة منهن عن ساقيها؛ يتمايل باعة السوق طربا!
يخطو المعلم قدرة فتشعر بأن زمن السلاطين قد عاد؛ هذا يثني على أرغفته وتلك تدعو الله أن يطيل في عمره؛ وثالثة ترجوه أن يشغل ابنها عنده؛ يحدج ناظريه في وجهي؛ لقد وشت بي هنومة ذات الوجه المجدر والشعر الأكرث؛ يمينا بالله لأرقصن في قلب الحارة وأعجن عجين الفلاحة!
لا أحد ينقذني من بين أسنانه!
تضرب المعلمة نواعم بكفها البض على صدرها الذي تكاد تفر منها رمانتا الميزان؛ عيب ياسي المعلم قدرة الفول؛ الأفندي موظف عمومي؛ الحكومة نابها أزرق!
ألتقط أنفاسي؛ يخرج من جوف المعلم قدرة زفير يكاد يلفح وجهي؛ أخطو مبتعدا؛ فالسلامة مطلبي؛ يتبعني صوت حسونة: أرزاق!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى