تأسيس الحركة السودانية للتحرر الوطني (1946-1947). عبد الخالق محجوب.. من كتاب لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني.

ومن بين أوساط المثقفين وفي معاهد التعليم كانت الأمور تتحرك. فالثقافة الغربية شحيحة لم تكن تروي ظمأ الكثيرين وهي فوق ذلك تمثل الثقافة التي نمت الاستعمار في النهاية. فبينما تتحدث الثقافة الغربية عن الحرية والديمقراطية وقيمة الانسان كان أبناء تلك الثقافة من الاستعماريين يخنقون الحرية في السودان ويصادرون الديمقراطية ويحقرون الانسان. ان المدرسة التي كانت تقدس ثقافة الغرب لم تستطع أن تواجه الهزات العنيفة التي اجتاحت السودان خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها نشأ جيل متعطش الى قيم فكرية جديدة. كذلك كان حال المدرسة التي تتمسك بكل ما هو عربي قديم، لم تكن أحسن حالاً من الأخرى وفشلت في مواجهة المشاكل التي كانت الحياة تقذف بها أمام الشعب السوداني في تلك الفترة.
وفي هذا الجو كانت الأوضاع الدولية تواجه تحولات حاسمة. فالاتحاد السوفييتي ابتدأ يظهر على حقيقته وسط الشعوب التي صارت تلتفت الى الاشتراكية وتتساءل عن كنهها وأسباب قوتها. وبدأت تصل الى السودان مؤلفات اشتراكية باللغة الإنجليزية عن الحياة في بلاد الاشتراكية وعن قيم الماركسية اللينينية. وقد أحدثت هذه المؤلفات هزة وسط المثقفين السودانيين فتلقفها نفر منهم وأصبحوا يقلبون الفكر في كنه الاشتراكية وكيف استطاعت أن تضمن الى الأبد استقلال الشعوب التي سارت تحت لواءها.
ومن الناحية السياسية كان للنظرية الماركسية أثر ساحر فيما يواجه البلاد من مشاكل. فبواسطتها عرف نفر من المثقفين الوطنيين ماهية الاستعمار وطرق التخلص منه. وقد تداول كتاب ستالين -المسألة الوطنية ومسألة المستعمرات -عشرات المثقفين الذين وجدوا فيه ردوداً لما يفتعل أنفسهم في تلك الأيام.
وهكذا تألفت أول حلقة ونواة للماركسية اللينينية في السودان تحت اسم الحركة السودانية للتحرر الوطني. ان نمو هذه النواة لم يأت قسراً أو عن طريق الاستيراد كما يدعي أعداء الشيوعية في السودان، بل كان تطوراً منطقياً للفكر السوداني وحاجة ماسة فرضتها الظروف التي واجهتها البلاد. فبالاستعانة بالنظرية الماركسية اللينينية استطاعت الحركة السودانية للتحرر الوطني في تكوينها أول عام 1946 أن تضع أساساً سليماً لمستقبل البلاد، فوضعت شعار النضال ضد الاستعمار بوصفه قضية البلاد وأوضحت ان المشكلة ليست هي بين دعوة لوحدة وادي النيل تحت التاج المصري ودعوة للانفصال من مصر بل هي مشكلة التخلص من الاستعمار الأجنبي نفسه. والى جانب هذا أشارت الى أن حق الشعب السوداني في تقرير مصيره حق مقدس تدافع عنه ضد اعتداءات المستعمرين وضد رغبات الاقطاعيين والرأسماليين المصريين في التوسع وهضم حقوق شعب السودان. ولأول مرة في تاريخ بلادنا وضعت منظمة سياسية العلاقات المصرية السودانية على أسس صحيحة قائمة على الكفاح الشعبي المشترك ضد العدو المشترك من الاستعماريين وبهذا أسهمت الحركة السودانية بالنصيب الأول في تحرير شعار - حق تقرير المصير - من الشكل المضلل الذي كان الاستعماريون وأذنابهم يحاولون تشويه هذا الشعار به، وأسهمت في النضال ضد التعصب الذي كان الاستعماريون وأذنابهم يبذرونه وسط جماهير الشعب ضد شعب مصر المناضل، وأسهمت في الوقوف بحزم ضد نوايا الرجعية المصرية. إن هذا البرنامج السياسي الذي اتخذته الحركة السودانية للتحرر الوطني في نشاطه عام 1946 كانت له آثار بعيدة المدى في سير حركة التحرر الوطني في البلاد. ولم يكن ذلك البرنامج إلهاما بل كان الثمرة الأولى لتطبيق الماركسية اللينينية على ظروف السودان.
إن نشأة الحركة السودانية للتحرر الوطني في ذلك الوقت واقتحامها للمشاكل التي تواجه الشعب السوداني وتقديمها الحلول السليمة لتلك المشاكل ثم نمو دورها في الحياة السودانية فيما بعد يؤكد أن الماركسية اللينينية كانت حاجة ماسة تهيأت لها ظروف البلاد وأنه لم يكن هناك من حل للمشاكل السياسية والفكرية سواها.
تكونت الحركة السودانية للتحرر الوطني في مطلع عام 1946 من حلقة صغيرة من المثقفين وبعض الطلبة وعنصر قليل من العمال. وفي ذلك العام واجه السودان ظروفاً لم يعهدها من قبل، فقد انفجرت الحركات التحررية في الشرق وتجاوب شعب السودان معها إذ خرجت أول مظاهرة قام بها الطلبة في مارس من عام 1946 وكانت تلك أول مظاهرة بعد حوادث عام 1924 وبدأت الجماهير تشرع في النضال ضد المستعمرين وارتفعت شعارات سقوط الاستعمار في معظم مدن البلاد. وقد كان لميلاد الحركة السودانية للتحرر الوطني كجزء من التحركات الوطنية أثره في مستقبلها، إذ أنها شرعت فوراً في النضال العملي ضد المستعمرين وأصبح هذا صفة من صفاتها الثابتة حتى اليوم. إن النضال والعمل الجماهيري صفات اكتسبتها الحركة السودانية منذ نشأتها - بل هي وليد لذلك النضال وقد أصبحت هذه الحقيقة سراً من أسرار منعتها ونمو جانبها.
ما هي المنجزات الرئيسية لتلك الحلقة في نشأتها؟
* استطاعت بالتعاون الصادق مع الحركة الشيوعية المصرية أن تقدم عموميات الماركسية اللينينية باللغة العربية.
* استطاعت أن تجذب الى صف الماركسية عدداً من المثقفين الوطنيين الذين لعبوا دوراً هاماً وسط أحزاب الطبقة المتوسطة فيما بعد وخاصة إبان المعركة الوطنية الكبرى عام 1948.
* استطاعت أن ترتبط مباشرة بالحركة الوطنية التحررية منذ نشأتها وأصبح هذا ثابتاً للشيوعيين السودانيين.
كان من الممكن أن يؤدي تكوين النواة الأولى للحزب الشيوعي والسودان في تلك الفترة جنباً الى جنب مع نمو أحزاب الطبقة الوسطى ونهوض الحركة الوطنية الى نتائج أبعد مدى وأوسع شمولاً. ولكن الحلقة القائدة كان يسيطر عليها مثقفون من الطبقات المتيسرة سلكوا طريقاً انتهازياً في بناء الحزب - وفي الميدان الفكري والسياسي- .
ولقد وضعت تلك الحلقة الحزب كجناح يساري في نطاق الأحزاب الوطنية - وحصرت نشاطه هناك ولم تنظر الى التحولات الطبقية التي تجري في البلاد، وإن الحزب الشيوعي هو في أصله حزب للطبقات الكادحة السودانية. لهذا لم تعتمد اللجنة المركزية القائمة حينذاك الى تنظيم الطبقة العاملة وارتباط الحزب الوثيق بها، وتكوين قادة عماليين هم قلب الحزب ودعامته. وطالما ظل الحزب أسيراً للرأسمالية الوطنية فإنه قد تعثر وضعف نموه في تلك الفترة.
ظل وجه الحزب خافياً على الجماهير في تلك الفترة فلم تكن تعرفه بل تعرف بعض الشخصيات "المتطرفة" التي تعمل في التنظيمات الحزبية البرجوازية. ولهذا ورغم وجود تنظيم منفصل للحزب الشيوعي السوداني فقد ظل معتمداً على الأحزاب الأخرى، ولم يظهر كقوة مستقلة تعمل لتنظيم الجماهير وإرشادها الى السبيل القويم في مناهضة المستعمرين والسير بالبلاد في طريق التطور والمستقبل.
حدث هذا بالرغم من انفجار الحركة الجماهيرية في مظاهرات مناوئة للاستعمار لم تشهد لها البلاد مثيلاً وتقاعس الأحزاب الأخرى عن تلبية ما تفرضه تلك الحركة من تنظيم وجرأة.
انعكس هذا الوضع الانتهازي في سياسة الحزب أيضا. فطالما ظلت اللجنة المركزية تنظر لموقف الأحزاب الأخرى وتعتبره وحدة دون النظر لحاجة الجماهير فإنها تتبع سياسة انتهازية حتماً. وقد ظهر هذا الموقف في مسايرتهم لشعار - وحدة وادي النيل تحت التاج المصري - وعدم جرأتهم في إبراز برنامج الحزب والوثيقة المشتركة التي وضعت مع الشيوعيين المصريين والتي تنادي - بالجلاء عن مصر والسودان وحق الشعب السوداني في تقرير مصيره. وقد ذهب أعضاء من اللجنة المركزية أبعد من ذلك فخطبوا وكتبوا مؤيدين - التاج المصري - حتى أطلق على بعضهم اسم - الشيوعيين الملكيين - .
وسادت حياة الحزب الداخلية تحت تلك اللجنة المركزية اتجاهات انتهازية خطيرة عاقت نموه في تلك الفترة فاللجنة المركزية لم تكن تعير التكوين الاشتراكي للأعضاء اهتماما بل كان الحزب كأنه حلقة لقراءة بعض النصوص الماركسية الجامدة، لم تكن هنالك دراسات منتظمة لأوضاع البلاد والحوادث من زاوية الاشتراكية العلمية ولم تكن هنالك أية محاولات جدية لتطبيق الماركسية على ظروف البلاد، ثم أن الحزب لم تتوطد فيه لائحة بل ظلت العلاقات تسودها الاتجاهات الشخصية أكثر من الروابط التنظيمية.
ولكن مهما تكن الأوضاع فإن قوة الماركسية الجذابة تفرض نفسها والنضال الذي يخوضه شعب السودان لا يمكن إلا أن يترك أثره حتى وإن سيطرت على الحزب اتجاهات انتهازية في قيادته. فقد بدأت بعض العناصر العمالية تلج صفوف الحزب وقادت أول معارك ضد الانتهازية في نادي العمال بالخرطوم. صحيح أن تلك المعارك لم تجد الاهتمام من اللجنة المركزية ولكنها لفتت أنظار عدد من أعضاء الحزب الى العيوب الكامنة في تلك اللجنة، كذلك بدأ كادر من الحزب ينمو خلال تجاربه واطلاعه على الماركسية اللينينية ونال قسم من هؤلاء معرفة اشتراكية لاحتكاكهم بالحركة الشيوعية المصرية. وبدأ النقد للاتجاهات الانتهازية يبرز وبدأت متطلبات النضال تكشف عجز اللجنة المركزية وخطأ اتجاهاتها.
وقد وصل الصراع الداخلي في الحزب أقصى درجاته في صيف 1947 فطردت العناصر الانتهازية من اللجنة المركزية وتشكلت لأول مرة لجنة مركزية من العناصر الثورية بدأت في انتهاج سياسة ثورية بين الجماهير وفي بناء الحزب.
إن الصراع الداخلي الناشئ في تلك الفترة لم يكن معزولاً عما يجري بين الطبقات الاجتماعية. فالطبقة الوسطى كانت تسعى للسيطرة التامة على الحركة الجماهيرية التي انفجرت في الجزء الأول من عام 1947. وكان الصراع في الحزب هو صراع ضد ذلك الاتجاه الذي كانت تمثله الحلقة القائدة في اللجنة المركزية من الذين حاولوا اعتقال نمو الحزب وعملوا لوضعه في نطاق الرأسمالية الوطنية. إن مدرسة الصراع الداخلي التي فرضت نفسها على الحزب في نشأته أكدت تلك الحقيقة التي أصبحت فيما بعد تراثاً هاماً من تراث الحزب الشيوعي السوداني - وكل المعارك الداخلية التي خاضها الحزب فيما بعد ضد الانتهازية لم تكن أمراً معزولاً بل كانت باستمرار جزءاً من صراعات الطبقات.
وتحت اللجنة المركزية الجديدة تحرر الحزب من نفوذ القيود القديمة التقليدية وسلك طريقه المستقل في تنظيم الجماهير وفي دعايته ووطد أكثر مبدأ الماركسية اللينينية في تنظيم نفسه وفي تكوين أعضائه. ارتبط الحزب مباشرة بالطبقة العاملة وأسس فروعه الثابتة في عطبرة وفي الخرطوم بحري. وتحت اللجنة المركزية الجديدة تحرر الحزب من نفوذ القيود القديمة وسلك طريقه المستقل في تنظيم الجماهير وفي دعايته ووطد أكثر مبدأ الماركسية اللينينية في تنظيم نفسه وفي تكوين أعضائه. ارتبط الحزب مباشرة بالطبقة العاملة وأسس فروعه الثابتة في عطبرة وفي الخرطوم بحري. وتحت قيادة الحزب بنت الطبقة منظماتها النقابية وهبت الحركة العمالية في نضالها المشهور. وقد ظلت هذه العلاقة التي لا تنفصم معملاً رئيسيا من معالم ثورية الحزب الشيوعي السوداني وسر بقائه وتطوره في كل المراحل التي اجتازها.
وتحت تلك اللجنة المركزية وضع الحزب دستوره الذي يشتمل على النضال ضد الاستعمار وحق الشعب السوداني في تقرير مصيره وأصبحت له الجرأة في نقد وجهة نظر الأحزاب الوطنية الأخرى. وقد لقي ما ينادي به الحزب تأييداً أصبح يتزايد على مدى السنين حتى انتصر انتصاراً ساحقاً في إعلان استقلال السودان أول عام 1956.
وتحت اللجنة المركزية الجديدة أسس الحزب أول اشكال اتصاله الثابت بالجماهير فأصدر أول منشورات مطبوعة في السودان يحرض فيها الشعب على النضال ضد المستعمرين ويرسل النداءات من أجل تنظيم الطبقة العاملة وفي كل المشاكل التي تواجه البلاد.
إن تدريب أعضاء الحزب في هذا الشكل من أشكال الاتصال المستقل بالجماهير فتح الباب أمام العناصر الجريئة وسط الشعب لتلج أبواب الحزب بينما ابتدأت بعض العناصر الضعيفة في الهروب من صفوفه.
كذلك تم تحت تلك اللجنة وضع لائحة للحزب تحدد العلاقة بين الأفراد والهيئات محل العلاقات الشخصية التي كانت سائدة في فترة سيطرة العناصر الانتهازية على الحزب والتي لم تكن تسعى لبناء حزب شيوعي جاد. وبدأ الحزب لأول مرة في إصدار مجلة داخلية لتطبيق النظرية الماركسية على واقع بلادنا ولتكوين قادة ملمين بالمبادئ اللينينية - وهكذا صدر العدد الأول من مجلة "الكادر" - التي ظلت مهما تغير اسمها عنصراً رئيسياً في التكوين الثوري لأعضاء الحزب وفي تطبيق الماركسية على متطلبات الأحوال في بلادنا.
باختصار يمكننا القول : ان اللجنة المركزية الجديدة وضعت الأساس لقيام الحزب ولتطوره وان الصراع الداخلي الذي نشب حاداً في صيف عام 1947 ووصل ذروته بطرد العناصر الانتهازية المسيطرة على الحزب آنذاك - كان نقطة تحول في تاريخ حزبنا.
ماهي الدروس الرئيسية لتلك الفترة؟
أولا: إن الحزب ينمو وتتوطد فيه الأفكار الثورية بالصراع الحاد ضد الاتجاهات والعناصر الانتهازية مهما كان وضعها.
ثانيا: إن الصراع الداخلي ليس معزولاً بل هو جزء من الصراع الطبقي وبهذا يجب أن يقرر ويسير مرتبطاً بنضال الحزب بين الجماهير.
ثالثاً: إن سر نمو الحزب ومنعته هو ارتباطه بالنضال الجماهيري وبطبقته العاملة.
رابعا: إن فقط بالنضال بين الجماهير العاملة وضد العناصر الانتهازية يبرز وجه الحزب أمام هذه الجماهير ويعزل كل الوكلاء والمخربين هذا ما يثبته تاريخ الطبقة العاملة السودانية منذ المعارك الأولى ضد الانتهازيين في نادي العمال بالخرطوم عام 1947 حتى يومنا هذا.
لقد وضعت في صيف 1947 وخلال النضال ضد الاتجاهات الانتهازية الأسس الثابتة لبناء تنظيم ثوري يضطلع بمهامه التاريخية. كان من أبرز هذه الأسس الارتباط الوثيق بالطبقة العاملة السودانية ذلك الارتباط الذي أصبح معلماً هاماً من معالم الحزب الشيوعي السوداني. لقد ثبتت دون زعزعة الصفة العمالية للحزب وظلت تلك الارتباطات الوثيقة بالطبقة العاملة الضمان الدائم لنقاء الحزب وتطوره. وقد برهن سير الحوادث فيما بعد أن حركة الطبقة العاملة السودانية التي نشأت تحت رعاية الحزب الشيوعي السوداني وقيادته لا يمكن أن تنفصم عن الحزب الشيوعي السوداني. وقد فطنت الدوائر الرجعية الاستعمارية - والمحلية الى هذا السر من أسرار قوة الحركة العمالية السودانية فكان وما زال محور نشاطهم هو المحاولة لعزل الطبقة العاملة عن حزبها الشيوعي السوداني. وفي هذا استوى كافة الانتهازيين منذ عام 1947 حتى الانتهازية الراهنة بزعامة على محمد بشير وسلام.
في هذه الفترة نما قادة بين جماهير الطبقة العاملة وقد أدى وجود هؤلاء الى تقدم ملحوظ في حياة الحزب الداخلية فارتقى الى مراكز قيادية. وكانت هذه القاعدة الخاصة بترقي الكادر العمالي الى أجهزة الحزب الشيوعي القيادية - وما زالت - مبدأ هاماً في تطور الحزب ونقائه من شوائب الانتهازية.
استطاع الحزب أيضا حل مشاكل هامة على رأسها مشكلة التحالف مع الرأسمالية الوطنية في النضال ضد الاستعمار الأجنبي.
لقد هزم التيار الثوري في الحزب اتجاهات الانتهازية التي سادت في اللجنة المركزية من قبل والتي كانت تحاول اعتقال نشاط الحزب وحصره داخل أحزاب الطبقة الوسطى. أقر الحزب مبدأ التحالف مع الرأسمالية الوطنية مع الاحتفاظ بالاستقلال التام للحزب في تنظيم الجماهير وقيادة نضالها وفي الكفاح ضد الاتجاهات المترددة والرجعية من جانب الرأسمالية الوطنية عام 1947 وبروز نشاط أعضائه ومواقفهم الثابتة ضد اتجاهات التردد بين أحزاب الطبقة الوسطى، وكانت الجبهة الوطنية بمدينة الخرطوم بحري وضواحيها خير مثال لما يمكن أن يؤدي إليه النشاط الثوري للحزب الشيوعي.
رغم أن الحزب الشيوعي السوداني - الحركة السودانية للتحرر الوطني - كان حديث العهد الا أنه استطاع عندما سلك طريقاً ثورياً وتخلص من الاتجاهات الانتهازية أن يوسع من الحركة الجماهيرية ويلهب روح النضال ضد الاستعمار. فالحزب الشيوعي وضع تقاليد ثورية وسط الحركة الجماهيرية من مظاهرات واجتماعات مفتوحة - الليالي السياسية - وكافح بصلابة ضد الاتجاهات السلبية التي كانت الأحزاب القديمة تحاول طبع الحركة الجماهيرية بها.
أمام نمو حركة الجماهير عمد المستعمرون الى محاولة بلبلتها وقسمها ان أمكن فبدأوا يحضرون بالاتفاق مع البلاط الملكي بمصر لقيام مؤسسة تشريعية زائفة تلقي ماء بارداً على النيران. لقد فطن الحزب الشيوعي السوداني الى تلك المؤامرة الخطرة فأصدر أول بيان في صيف عام 1948 يوضح فيه طبيعة المؤسسة الجديدة ويدعوا الجماهير للكفاح ضدها وقد كافح الحزب الشيوعي بالفعل في إصرار ضد تردد الرأسمالية الوطنية التي راودتها الأحلام وحاولت بالفعل أن تؤيد تلك المؤسسة وظهر هذا بوضوح في جريدة الاشقاء التي خرجت بافتتاحية في صيف 1948 تقول : - لندخلها ونعدلها من الداخل - وقد الحزب على ذلك بإخراج أول مظاهرة تعلن سقوط الجمعية التشريعية من نادي الاتحاديين في صيف 1948 متعاوناً مع الأقسام الأكثر ثورية من الرأسمالية الوطنية. وكانت تلك المظاهرة النداء الذي سرعان ما سري بين الجماهير فبدأت حركة النضال ضد الجمعية التشريعية وأصبحت تتسع حتى أجمعت الرأسمالية الوطنية على مقاطعتها.
لقد استطاع الحزب الشيوعي السوداني بإصراره وشجاعة أعضائه واخلاصهم أن ينهض حركة إيجابية ضد الجمعية التشريعية فلم يعد الأمر مجرد مقاطعة سلبية بل خرجت المظاهرات في كل المديريات الرئيسية وعقدت مئات من الليالي السياسية واتسعت الاثارة ضد المستعمرين وكانت المقالات النارية التي يكتبها الشيوعيون في الصحف تلهب الكتاب وتجعل من أغلبية الصحف أدوات للنضال الوطني.
إن تزايد نضال الطبقة العاملة السودانية خلال عام 1948 واتساع حركة الإضرابات التي بلغت مدى بعيداً دعمت من الحركة الجماهيرية، جعل عام 1948 تحول في الحركة السودانية ووضع الأساس لاستقلال البلاد فيما بعد. وفي كل هذه المعارك قاد أعضاء الحزب الشيوعي السوداني الجماهير بجرأة لم تعهد من قبل في الحركة الوطنية الحديثة بالسودان ولا يستطيع المؤرخ المنصف إلا ان يقرر أن حركة مقاطعة الجمعية التشريعية والنضال الذي نشب خلال تلك المقاطعة تم بمبادرة من أعضاء الحزب الشيوعي الذين برزوا في - جبهة الكفاح - التي أقيمت باقتراح من الحزب الشيوعي.
كان من الممكن أن تحدث قفزة في قوة الحزب ووضعه بما خاض من معارك وما بذل أعضاؤه من تضحيات وبما نالوه من تأثير أدبي بين الجماهير ولكن مرة أخرى وقع الحزب بين تأثير اتجاهات انتهازية أضعفت من قوة نموه، فقد تسلل الى قيادة الحزب الانتهازي اليميني عوض عبد الرازق فقاد الحزب في طريق خاطئ، تحت قيادة عوض عبد الرازق أطل الاتجاه الانتهازي الذي هزم عام 1947 مرة أخرى، وهو في مضمونه لا يخرج عن الوقوع تحت تأثير الرأسمالية الوطنية وتقييد نشاط الحزب المستقل بحدودها. أهمل هذا الاتجاه واب الحزب المستقل في بناء مؤسسات جماهيره ودفع الأعضاء المناضلين للعمل في حدود الأحزاب الوطنية الأخرى وتحت اسمها ولهذا رغم ان تنظيم الحزب كان منفصلاً الا انه ظل يعمل في تلك الحدود وظلت تضحيات أعضائه لا تبذل تحت علم الحزب ومؤسسات الجماهير بل تحت علم الرأسمالية الوطنية، وبهذا فإن نشاط الحزب حتى وسط جبهة الكفاح لم يتعد ما أرادته له الانتهازية منذ نشأتها - جماعة من المتطرفين - كما يقولون. فرغم ما بذل الحزب من نشاط بين الجماهير والطبقة العاملة فإن صلاته العضوية بهذه الجماهير الثورية ظلت ضعيفة وعلى العكس فاضت صفوف الحزب بعدد من المثقفين رفقاء الطريق فقد وضع واجب بناء التنظيم المستقل للحزب في الخلف ولم ترسم سياسة ثورية للاستفادة من حركة الجماهير الثورية في سبيل دعم حزبنا - وهو الضمان الوحيد لتطور الحركة الجماهيرية ولمستقبلها. وتحت القيادة الانتهازية لعوض عبد الرازق شاعت العلاقات العائلية في التنظيم وضرب باللائحة عرض الحائط وساد الجود في دراسة النظرية الماركسية - وباختصار تدهورت حياة الحزب الداخلية وانخفض المستوى الماركسي اللينيني فيه.
لقد ظهر خطر الاتجاه الانتهازي في مطلع عام 1949 فالمد الجماهيري ينحسر، وعناصر المثقفين الذين ملأوا صفوف الحزب يخرجون منه بالعشرات ومن بقي يصيبه اليأس، والحزب الشيوعي لم يتخذ العدة والخطط للعمل بعد قيام الجمعية التشريعية. وابتدأ قادة الحزب يحسون بهذا الوضع المتدهور فعقدوا أول اجتماع تداولي لهم في مطلع 1949 ونوقش الوضع بأسره وأدينت سياسة عوض عبد الرازق الانتهازية. لقد استطاع الاجتماع التداولي ذلك أن يتغلب على عديد من المشاكل التي واجهت الحزب آنذاك وأن يزيل الكثير من العراقيل التي وضعها الاتجاه الانتهازي أمام تطوره وأمام نمو حركة الطبقة العاملة.
أحدث ذلك الاجتماع استقراراً في تنظيم الحزب الشيوعي وذلك بتطهير صفوف الحزب من رفقاء الطريق ووضع أساساً ثابتة لتنظيم الحزب في أماكن العمل ولبناء رابطتي الطلبة والنساء الشيوعيات. وبهذا امتدت جذور الحزب أبعد بين الطبقة العاملة والجماهير مما أدى الى تنوع أشكال الاتصال بالجماهير. وقد جاءت نتائج ذلك سريعة في نمو تنظيمات الطبقة العاملة وجماهير الطلبة - تلك التنظيمات التي لعبت دوراً فعالاً في حياة شعبنا.
لقد طرحت في الاجتماعات التداولية لقادة الحزب قضية الجبهة الوطنية وبرز لأول مرة دور جماهير المزارعين وانه بدون يبني الحزب التحالف الوثيق بين الجماهير الثورية - الطبقة العاملة وصغار الملاك - فإنه لا يمكن بناء اتحاد وطني ينهض بالنضال ضد المستعمرين وبذلك تحرر الحزب بشكل حاسم من المفهوم الانتهازي للجبهة الوطنية باعتبارها مجرد تخالف بين الحزب الشيوعي وأحزاب الطبقة الوسطى. وقد فتح هذا الفهم باباً لتطور الحزب والحركة الجماهيرية إذ بدأ الحزب لأول مرة يتجه لبناء مؤسسات له بين جماهير المزارعين - وقد كان هذا الواجب لا يلاقي الا الإهمال عندما وقع الحزب تحت تأثير الاتجاهات الانتهازية لعوض عبد الرازق. لقد جرت تحولات كبيرة في وضع الحزب وعلت وسطه راية الماركسية وطرق أبوباً جديدة في تنظيم الجماهير واشكال الاتصال بها وبنى صحافته فخرجت جريدة اللواء الأحمر وفي الداخل أجريت تعديلات في اللائحة تتلاءم مع تطور الحزب وطبقت مبادئها وجرى كفاح ضد الانحلال التنظيمي والعلاقات الفردية ليصل محلها الضبط التنظيمي والعلاقات المبدئية - وكذلك عملت اللجنة المركزية لدعم الديمقراطية في الحزب فأجريت اجتماعات للقادة وعقد أول مؤتمر للحزب عام 1950.
وهكذا أثبتت سير الحوادث ان الحزب الشيوعي السوداني يتقوى وترتفع وسطه راية الماركسية بنضاله المبدئي الحازم ضد الانتهازية بكافة أشكالها وبارتباطه الوثيق بحركة الطبقة العاملة.



1660677545782.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى