كرم الصباغ - روح.. قصة

ما إن أبصرت تلك الحديقة المسيجة بسور حديدي و أشجار عالية، حتى انجذبت إلي بابها الصدئ المفتوح على مصراعيه؛ فعبرته في لمح البصر، و لم تمر سوى لحظات، حتى اكتشفت أن المكان مقبض بدرجة مريعة؛ فالصمت مطبق، و الضوء خافت، و الأرض خشنة، و الأعشاب مصفرة، و الزهور ذابلة، و البتلات متيبسة، باهتة الألوان. و الأشجار تشخص عارية بعد أن تساقطت أوراقها، و تصلبت أغصانها المثقلة بالشوك. و ذرات الغبار تتطاير بكثافة، و تلتصق بكتلة سوداء، معلقة في الفضاء، أظلت الحديقة بأسرها، و حجبت عنها ضوء الشمس، رغم أن الوقت نهار. لا شيء يدعو للبهجة، و لا زوار في الداخل عدا زائر واحد، يجلس دون حركة على مقعد رخامي مكدس بالتراب، بين يديه كتاب، يحدق إلى صفحة من صفحاته بإمعان. هو منصرف عن كل ما يدور حوله، و لا يأبه بالطيور الرمادية، التي حطت على الأفرع الشائكة، رغم أن أصواتها، بددت الصمت تماما، و ملأت المكان بنشاز منكر كريه.
أدنو من مقعده بحذر، و أقف أمامه مباشرة، لكنه لا يراني، و لا يشعر بوجودي من الأساس.
(٢)
قلت: و كيف يرى من كان أشف من البلور و الماء ؟! و كيف يلحظ من كان أسرع من البرق، و أخف من النسيم؟! لست لغزا محيرا، و لا أحجية؛ أنا فقط روح مسالمة، فارقت جسد صاحبها منذ زمن بعيد.
لك أن تطمئن، و لا تنزعج؛ لست ماكينة مسعورة، صناعتها الشر و الإيذاء. ما لي أرى وجهك مربدا واجما؟! هلا حدثتك عن أفعال، تشعرني بشيء من الرضا؛ فلربما تلاشى عبوسك المقبض، و هش وجهك قليلا.
فمنذ عامين تقريبا، حلقت فوق صحراء شاسعة، و رأيت حقل شعير، انقطع عنه المطر، و أضناه الظمأ؛ قد ذبلت عيدانه، و شارفت على الهلاك. كان الموت يحاصر المكان، و ينشب أظفاره في الرمال الجافة، و كان أصحاب الحقل يرفعون أبصارهم إلى السماء، ثم يطرقون بأسى. رأيتهم يتطلعون إلى ميرتهم الهالكة بحسرة بالغة؛ فما كان مني إلا أن تحولت إلى غيمة، راحت تهطل بغزارة، حتى ارتوت العيدان، و امتلأت خزانات المطر؛ الأمر الذي أبهج أصحاب الحقل، و دعاهم إلى إطلاق الأعيرة النارية في الهواء، بينما أطلقت نساؤهم الزغاريد، و تقافز أطفالهم فوق الرمال المبتلة من فرط الفرح.
(٣)
ما زالت امرأة النجع العجوز تعتقد أن ثمة ملاكا يهبط من السماء كل ليلة؛ ليتم غزولها الناقصة، بعد أن عجزت يداها عن العمل، و لولا خشيتي من تحول بهجتها إلى خوف و فزع، لأخبرتها الحقيقة كاملة. لقد غادرت الحقل بعد مجيء الليل، و توجهت إلى نجع قريب؛ فرأيت دارا مبنية بالطوب اللبن، ينبعث من شباكها الضيق نور شحيح، كانت العجوز تجلس وحيدة في الداخل، و تدفن رأسها بين ركبتيها. كان أمامها مباشرة مغزل خشبي مكسور، و غزول ناقصة، ملأتها العيوب. رأيتها ترفع يديها الواهنتين بعنت. راحت العجوز تتوجع من فرط الألم، و بعد ساعتين من العذاب، حدق إليها النوم الغلاب، فتوجع لوجعها، و ضمها إلى أحضانه كما يضم الأب طفلته، فغابت عن الوعي؛ فقلت: إنها فرصتي. و لم أتردد لحظة في أن أتحول إلى مغزل خشبي، و يدين عفيتين، أكملتا غزل الأصواف بسرعة و إتقان. و منذ تلك الليلة إلى يومنا لم أنقطع عن زيارة دارها بمجرد أن تنام؛ كي ينعم قلبها كل صباح بمزيد من الحب للنوم و الملائكة، و مزيد من المسرات.
(٤)
منذ قرابة شهر تنازلت عن كوني روحا تجيد التحليق، و تحولت إلى ساقين صناعيتين، فوجئ بهما إلى جواره جندي قعيد، بترت ساقاه في حرب، دافع فيها عن أرضه منذ سنوات. كان الجندي، لا يغادر كرسيه المتحرك، و كانت يداه المرتعشتان تتحسسان عشرات الأوسمة، التي زينت صدره. كان يزفر من فرط الحسرة و السأم؛ إذ عانى من عزلة تامة، و آلام مبرحة، بعد أن نساه الناس، و ما عاد أي منهم يطرق بابه بليل أو نهار. شد الجندي أربطة ساقيه الجديدتين، و لم يقدم على زيارة أي من الأحياء، بل اتجه إلى المقابر بعينين دامعتين، و من ساعتها، و هو يرابط بجوار قبر زوجته، التي ماتت في ليلة مطيرة؛ إثر أزمة قلبية مفاجئة. كانت تحتاج ساعتها إلى دواء، مجرد أقراص، عجز عن جلبها؛ إذ حالت قدماه المبتورتان بينه و بين ذلك. ليلتها دفع كرسيه المتحرك، و فتح الباب، و راح يستغيث بالجيران، لكن أحدا لم يجبه؛ إذ أصم قصف الريح، و نقرات المطر، و الرعد آذانهم جميعا. ذهب الجندي بلهفة إلى قبر زوجته، و لك أن تصدق أنه منذ ذلك الحين، إلى وقتنا هذا لم يفرغ من سرد حكايات الحرب، التي لا تنضب، ما إن ينتهي من سرد حكاية، حتى يدفعه الفراغ إلى رواية حكاية أخرى، بينما لا تزال زوجته في قبرها تصغي إليه ، و تأنس به، لكنها- بطبيعة الحال- لا تنطق ببنت شفه، و تلوذ بصمتها العميق، مثلما تفعل أنت.
(٥)
منذ عدة أيام، و بينما أنا أطوف أنحاء الأرض، اقتربت من منطقة، شطرتها الأسلاك الشائكة إلى نصفين، عرفت بعد ذلك أنها منطقة حدودية، و عرفت أن أولئك الشعث الغبر ذوي الأسمال البالية، ما هم إلا لاجئون أجبرتهم الحرب على ترك ديارهم، و النزوح بعيدا، حتى قادتهم أقدامهم المنهكة إلى تلك المنطقة الوعرة؛ فاعترض طريقهم حراس متجهمون، مدججون بالأسلحة. كانت ندف الثلج تتساقط دونما توقف فوق رءوس الفريقين، لا تفرق بين حارس، و لاجئ، و كان الأطفال يتضورون جوعا، و كانوا يرفعون أصواتهم بالبكاء، و كانت الأمهات يقفن عاجزات، في حين طأطأ الرجال رءوسهم، و بدوا كتماثيل جامدة، يكبلها العجز؛ فما كان مني إلا أن تحولت إلى أرغفة خبز ساخنة، التهمها الأطفال بنهم، و تحولت في ذات الوقت إلى أكسية ثقيلة، غطت أجسادهم المرتعدة.
(٦)
أرأيت؟! لقد صرت روحا مرنة بارعة في التشكل؛ فامتلكت ذلك السجل الأبيض، و ما كان ذلك ليحدث، لولا تحرري من قمقم صاحبي الضيق.
هل تسمعني جيدا، أم أنك أصم لا تسمع؟! أمازلت تحدق إلى تلك الصفحة البيضاء الفارغة بعينين مشبعتين بالملح؟! أما زال جسدك المحنط صامدا يأبى التحلل؛ أملا في عودتي إليه مرة أخرى؟! قد آن لي أن أغادر حديقتك الساكنة، و أن أذوب في الرحاب الشاسعة، و قد آن لك أن تذروك الرياح كحفنة تراب بائسة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى