عظيم الجسم, طويل, شديد بياض الوجه باحمرار, حاد الملامح , قاسي النظرة, جهير الصوت حتى أنه عندما يهمس إليك بسرِ, تجد خلق الله على مسافة غير قليلة قد سمعوا بالحكاية, فصعب أن تحدّثه في شأن خاص.
على رغم هذا كان رقيق القلب, رؤوف بالقطط, لا يعرف التلوّن في الكلام, صريح في حديثه حد الوقاحة, فعفّ الناس عن طلب رأيه لغلظة طبعه.
لكن لم تكن تنحل عقدة لسانه في أخريات أيامه إلاّ في وجودي معه, يراني من بعيد يهشّ إليّ, تنفرج أساريره, يزيح جانبًا زجاجات الأدوية وعلب البرشام الفارغ معظمها, ثم يبسط لي جزءًا من فرشته جواره, حينما يستوثق من حضوري و صفاء ذهني بعد انتهائي من تناول فنجان قهوة يًعدّها بيديه, ينطلق لآفاق بعيدة, يحكي ذكريات عاشها. يحكي بصوت خفيض بعدما شذّب الزمن من رعونة حنجرته.
هو من جيل وُلد قبل ثورة "يوليو" بكثير, عاصر المَلَكية, شهد كافة التقلّبات السياسية والمجتمعية في " مصر", لا ينسى كل مرة أن يكرر على سمعي أنه انقطع عن العالم, اكتفى بمقعد المشاهد المتأمل, كما هجر القراءة من بعيد, ثم يعرج على ذكر غزوات وفتوحات, لكنها ليست من تلك التي قرأنا عنها في كتب التاريخ, بل هي بطولات قاصرة على "أبو هلال".
يمتّ إليّ بصلة قرابة من بعيد, آنس إليه ولا أجد حرجًا في المرور عليه كل فترة, على رغم تحذير أمي من عدم الذهاب إليه, تنبيهها المتكرر على أذني: " رجل شايب وعايب, أهلكته النساء, يأبى أن يموت في هدوء, يصر أن يفضح نفسه وأهله من قبل".
لم آخذ بنصيحتها أبدً, لسببين , أولّهما أن الشيخ كان في حاله, لم يؤذ أحدًا على حد علمي كما أن الهجوم عليه كان كسيل منهمر, كلما طلبت تفسيرًا لذلك, لا أجد غير إعراض, الثاني أنني كنت أحب الإصغاء إلى حكاياته بشغف.
لطالما ألهب "الرجل", خيالي بقصصه. في آخر لقاء بيننا" إذ لم اره بعدها لمشاغل الحياة حتى سمعت برحيله عن الدنيا" قال لي: كانت" أم جمعة" قطعة من الزبد البلدي, أو الفلاحي كما يقول أهل " العاصمة", ليست بالسمينة المترهلة, ولا النحيفة السقماء, تقع في المسافة بين الطول و القصر, شديدة البياض, عامرة الصدر كأنما لم تتزوج من قبل وتُنجب, نحيلة القد حتى أنني كنت أحتوي وسطها الضيق بيد واحدة, ثم علت وجهه ابتسامة رضاء عن أفعال قديمة عزف عن ذكرها, أكمل :عرفتها أرملة شابة في أواخر عقدها الثاني, فالتقطتها كصائغ يعرف قيمة الجواهر التي تقع تحت قدميه.
قادتها قدماها صدفة لشارعنا, طرقت الباب قبيل المغرب بقليل, تحمل على رأسها " حلة" كبيرة من " الألومنيوم" مغطاة بشال أبيض, ممتلئة بالزبد, فاختلط عليّ الأمر ما بين زبدة تترجرج من شباك ثوبها الواسع, أخرى تهتز طربًا فوق رأسها: حين التقت عينانا, قالت برجاء: ساعدني, أنزل معي " الحلة", حينما وضعت رحلها على الأرض, رفعت رأسها إليّ, فانسكب نهداها كأنما يتمرّدان على ضيق العيش ويبغيا البراح, فسارَعَتْ لإخفائهما بيديها, حٌمرة خجل مصطنعة تعتري وجهها, فأمسكت يديها, جذبتها ناحيتي, ثم أغلقت الباب وقد سال الزبد أنهارًا من حرارة الجو بالخارج.
لمّا رأى دهشتي و استنكاري من حديثه الماجن " كنت دون الخامسة عشر وقتها", أردف: عقدت عليها قبل آذان عشاء نفس اليوم, كنت وقتها أقترب من الستين من العمر, المأذون صديق قديم, هاتفته فجاء يلهث ككل مرة حاملًا دفتره تحت إبطه, وعن يمينه وشماله شاهدين عدول. فأنا والكلام لا يزال يتدفق من فمه: لم أقع في الحرام من قبل, لم أشهر سيفي إلاّ على رؤوس الأشهاد ومباركة الناس.
سكت عن الكلام دقيقة, أجزم أن دمعة تحدّرت خلالها على خده, ثم قال: لم تخرج " المرحومة", من بيتي إلاّ إلى القبر بعد ذلك بسنوات, ثم تنهّد بحرقة حتى ظننت أن لهيب أنفاسه سيحرق الغرفة بما فيها, فنبّهته بلطف أن يخفف من زفيره.
قلت أضاحكه: المكان يعج بأشياء قابلة للاشتعال. فابتسم هنيهة, ثم أستأنف حديثه: اعلم يا ولدي, أن هناك صنف من النساء.. ثم صمت فبدا لي أن ذاكرته لم تعد تسعفه, أو أنه أحجم عن ذكر ما لا ينبغي التصريح به, فرددت عليه عقله بقولي: عُد إلى سيرة " أم جمعة". لم تخبرني عنها من قبل, على رغم حكاياتك التي لم تنقطع معي عن نساء عشن في حياتك حتى وقت قريب!, على حد علمي أنك أضعت مالك كله في معاركك الناعمة هذه!
مسح "أبو هلال", براحته على صلعته, قال: كأنما هبطت تلك المرأة من كوكب بعيد, لقد قرأت قديمًا, أن النساء هبطن من كوكب " الزهرة", وأظنها من هناك بل أقسم على ذلك, فلم أجد مثلها حتى الآن, قد بكيتها حين ماتت كما لم أبك على أحد مات من قبل.
-فسألته بحيرة: هل أحببتها حقًا ؟
فأجابني: ما اقتربت من امرأة إلاّ وأنا عاشق لها, أجدني بين يديها كمعتمر يطوف ويسعى, فإن فرغ من شعيرته, حمل أغراضه وعاد لموطنه, لا يبقى من ذكرى حجته إلاّ بعض رسومات يزيّن بها صدر بيته, وشم باسمها يدقه على ذراعه.
-فسألته: لكن, كيف ماتت؟
قال بجفاء: الموت سيان سببه, هو هلاك للمرء, بخاصة إن فرغت طاقته. نظر إلّي قليلًا وهمس: يا بني غزوة واحدة قد ترجح الدنيا بما فيها من مال وإرث, ثم سحب ببطء فرشته من تحت قدمي, فأدركت أنه يجيبني على سؤالي السخيف عن ضياع ماله على كثرته كما سمعت من كثيرين, أنه ينذرني بالرحيل كأن عبارتي العارضة قد مسّت وترًا بداخله أو نكأت جرحًا أوشك أن يندمل, فنهضت واستأذنت بعدما ابديت اعتذارًا واجبًا, فتبعني بعينيه ,قال: يأتي الموت حين تسأم الروح, بعدها يشيخ الجسد سريعًا.
ظل " أبو هلال", على حاله هذا سنوات, يجتر ذكرياته المرة قبل الحلوة, لا يأمن لأحد, كنت أزوره كلما أعوزني الخيال لسماع حكاياته, أو سأمًا من الدراسة. كل مرة يقصّ عليّ ما يوقد النار بأعماقي وأستشعر طيف" أم جمعة", تتبختر بين جنبات المكان بانحناءاتها الحادة, مرتفعاتها العالية وهضابها القاسية. سنوات تمر ودائرة معارفة تتقلص حتى لم يعد فيها غيري.
فلمّا رأي أن الدنيا نهضت من أمامه و أعطته ظهرها, بان له أن البحر أمواجه عالية, خلع نعليه أمام بابه, ثم دخل و أغلقه عليه و اعتزل الناس, غير أنه بقي على حاله هذا فوق عشرين عامًا, لا يكلمنا إلاّ من وراء حجاب .حتى سأم كل شيء, فنهض, دخل غرفة نومه واستلقى على سريره ثم مات.
على رغم هذا كان رقيق القلب, رؤوف بالقطط, لا يعرف التلوّن في الكلام, صريح في حديثه حد الوقاحة, فعفّ الناس عن طلب رأيه لغلظة طبعه.
لكن لم تكن تنحل عقدة لسانه في أخريات أيامه إلاّ في وجودي معه, يراني من بعيد يهشّ إليّ, تنفرج أساريره, يزيح جانبًا زجاجات الأدوية وعلب البرشام الفارغ معظمها, ثم يبسط لي جزءًا من فرشته جواره, حينما يستوثق من حضوري و صفاء ذهني بعد انتهائي من تناول فنجان قهوة يًعدّها بيديه, ينطلق لآفاق بعيدة, يحكي ذكريات عاشها. يحكي بصوت خفيض بعدما شذّب الزمن من رعونة حنجرته.
هو من جيل وُلد قبل ثورة "يوليو" بكثير, عاصر المَلَكية, شهد كافة التقلّبات السياسية والمجتمعية في " مصر", لا ينسى كل مرة أن يكرر على سمعي أنه انقطع عن العالم, اكتفى بمقعد المشاهد المتأمل, كما هجر القراءة من بعيد, ثم يعرج على ذكر غزوات وفتوحات, لكنها ليست من تلك التي قرأنا عنها في كتب التاريخ, بل هي بطولات قاصرة على "أبو هلال".
يمتّ إليّ بصلة قرابة من بعيد, آنس إليه ولا أجد حرجًا في المرور عليه كل فترة, على رغم تحذير أمي من عدم الذهاب إليه, تنبيهها المتكرر على أذني: " رجل شايب وعايب, أهلكته النساء, يأبى أن يموت في هدوء, يصر أن يفضح نفسه وأهله من قبل".
لم آخذ بنصيحتها أبدً, لسببين , أولّهما أن الشيخ كان في حاله, لم يؤذ أحدًا على حد علمي كما أن الهجوم عليه كان كسيل منهمر, كلما طلبت تفسيرًا لذلك, لا أجد غير إعراض, الثاني أنني كنت أحب الإصغاء إلى حكاياته بشغف.
لطالما ألهب "الرجل", خيالي بقصصه. في آخر لقاء بيننا" إذ لم اره بعدها لمشاغل الحياة حتى سمعت برحيله عن الدنيا" قال لي: كانت" أم جمعة" قطعة من الزبد البلدي, أو الفلاحي كما يقول أهل " العاصمة", ليست بالسمينة المترهلة, ولا النحيفة السقماء, تقع في المسافة بين الطول و القصر, شديدة البياض, عامرة الصدر كأنما لم تتزوج من قبل وتُنجب, نحيلة القد حتى أنني كنت أحتوي وسطها الضيق بيد واحدة, ثم علت وجهه ابتسامة رضاء عن أفعال قديمة عزف عن ذكرها, أكمل :عرفتها أرملة شابة في أواخر عقدها الثاني, فالتقطتها كصائغ يعرف قيمة الجواهر التي تقع تحت قدميه.
قادتها قدماها صدفة لشارعنا, طرقت الباب قبيل المغرب بقليل, تحمل على رأسها " حلة" كبيرة من " الألومنيوم" مغطاة بشال أبيض, ممتلئة بالزبد, فاختلط عليّ الأمر ما بين زبدة تترجرج من شباك ثوبها الواسع, أخرى تهتز طربًا فوق رأسها: حين التقت عينانا, قالت برجاء: ساعدني, أنزل معي " الحلة", حينما وضعت رحلها على الأرض, رفعت رأسها إليّ, فانسكب نهداها كأنما يتمرّدان على ضيق العيش ويبغيا البراح, فسارَعَتْ لإخفائهما بيديها, حٌمرة خجل مصطنعة تعتري وجهها, فأمسكت يديها, جذبتها ناحيتي, ثم أغلقت الباب وقد سال الزبد أنهارًا من حرارة الجو بالخارج.
لمّا رأى دهشتي و استنكاري من حديثه الماجن " كنت دون الخامسة عشر وقتها", أردف: عقدت عليها قبل آذان عشاء نفس اليوم, كنت وقتها أقترب من الستين من العمر, المأذون صديق قديم, هاتفته فجاء يلهث ككل مرة حاملًا دفتره تحت إبطه, وعن يمينه وشماله شاهدين عدول. فأنا والكلام لا يزال يتدفق من فمه: لم أقع في الحرام من قبل, لم أشهر سيفي إلاّ على رؤوس الأشهاد ومباركة الناس.
سكت عن الكلام دقيقة, أجزم أن دمعة تحدّرت خلالها على خده, ثم قال: لم تخرج " المرحومة", من بيتي إلاّ إلى القبر بعد ذلك بسنوات, ثم تنهّد بحرقة حتى ظننت أن لهيب أنفاسه سيحرق الغرفة بما فيها, فنبّهته بلطف أن يخفف من زفيره.
قلت أضاحكه: المكان يعج بأشياء قابلة للاشتعال. فابتسم هنيهة, ثم أستأنف حديثه: اعلم يا ولدي, أن هناك صنف من النساء.. ثم صمت فبدا لي أن ذاكرته لم تعد تسعفه, أو أنه أحجم عن ذكر ما لا ينبغي التصريح به, فرددت عليه عقله بقولي: عُد إلى سيرة " أم جمعة". لم تخبرني عنها من قبل, على رغم حكاياتك التي لم تنقطع معي عن نساء عشن في حياتك حتى وقت قريب!, على حد علمي أنك أضعت مالك كله في معاركك الناعمة هذه!
مسح "أبو هلال", براحته على صلعته, قال: كأنما هبطت تلك المرأة من كوكب بعيد, لقد قرأت قديمًا, أن النساء هبطن من كوكب " الزهرة", وأظنها من هناك بل أقسم على ذلك, فلم أجد مثلها حتى الآن, قد بكيتها حين ماتت كما لم أبك على أحد مات من قبل.
-فسألته بحيرة: هل أحببتها حقًا ؟
فأجابني: ما اقتربت من امرأة إلاّ وأنا عاشق لها, أجدني بين يديها كمعتمر يطوف ويسعى, فإن فرغ من شعيرته, حمل أغراضه وعاد لموطنه, لا يبقى من ذكرى حجته إلاّ بعض رسومات يزيّن بها صدر بيته, وشم باسمها يدقه على ذراعه.
-فسألته: لكن, كيف ماتت؟
قال بجفاء: الموت سيان سببه, هو هلاك للمرء, بخاصة إن فرغت طاقته. نظر إلّي قليلًا وهمس: يا بني غزوة واحدة قد ترجح الدنيا بما فيها من مال وإرث, ثم سحب ببطء فرشته من تحت قدمي, فأدركت أنه يجيبني على سؤالي السخيف عن ضياع ماله على كثرته كما سمعت من كثيرين, أنه ينذرني بالرحيل كأن عبارتي العارضة قد مسّت وترًا بداخله أو نكأت جرحًا أوشك أن يندمل, فنهضت واستأذنت بعدما ابديت اعتذارًا واجبًا, فتبعني بعينيه ,قال: يأتي الموت حين تسأم الروح, بعدها يشيخ الجسد سريعًا.
ظل " أبو هلال", على حاله هذا سنوات, يجتر ذكرياته المرة قبل الحلوة, لا يأمن لأحد, كنت أزوره كلما أعوزني الخيال لسماع حكاياته, أو سأمًا من الدراسة. كل مرة يقصّ عليّ ما يوقد النار بأعماقي وأستشعر طيف" أم جمعة", تتبختر بين جنبات المكان بانحناءاتها الحادة, مرتفعاتها العالية وهضابها القاسية. سنوات تمر ودائرة معارفة تتقلص حتى لم يعد فيها غيري.
فلمّا رأي أن الدنيا نهضت من أمامه و أعطته ظهرها, بان له أن البحر أمواجه عالية, خلع نعليه أمام بابه, ثم دخل و أغلقه عليه و اعتزل الناس, غير أنه بقي على حاله هذا فوق عشرين عامًا, لا يكلمنا إلاّ من وراء حجاب .حتى سأم كل شيء, فنهض, دخل غرفة نومه واستلقى على سريره ثم مات.