سمير بية - الوقت كان هنا.. .قصة

استرسل الوقت في ضحكاته السّاخرة وفي إشارات ابتدعها لتستوعب كلّ نرجسيّته، فانزعجت السّاعات وتسرّب الاشمئزاز إلى بنيّاتها الدّقائق بعد أن تصاعدت رائحة الخمر من فم الوقت المترنّح. فخافت الدّقائق على أجنّتها الثواني، وانزوت في ركن بعيد عن الضّجيج والأضواء، وطلبت تعويض الكوكا كولا بالمياه المعدنيّة الباردة.

– أنا الوقت فمن يقدر على إيقافي؟ كلّ من يحاول مجاراتي يفوز بالخبل. أنا السيّد الرّديء مرّة والسيّد الجميل لدى بعضهم، والسيّد الغريب في نظر الآخرين. لكنّني في كلّ الحالات سيّدٌ. هذا يريد أن يمضيَني مع حبيبته، وذاك يسمّيني وقت الفراغ فيبحث كيف يملؤني وهذا شابّ عاطلٌ عن الحياة يطلب نرجيلة فاتنة ليقتلني، لكنّني كنت أموت لساعة أو إثنتيْن ثمّ أعود كما كنت أو أقوى. كلّهم يركبون مكّوكي رغما عنهم و يدّعون أنّهم يتفوّقون عليّ.

خرج الوقت من الخمّارة فلفح الهواء البارد المشبع بالأمنيات وجهه، وارتعش جسده ارتعاشات خفيفة أعطت سائق التّاكسي فكرة عن مدى انتشائه. انطلقت السيّارة تاركة الرّيح ساهرة على الرّصيف وفي عيْنيْ قصّاص مبتدئ.

– هل تسمح لي بالقيادة أيّها السّائق؟

– لكنّك لم تعرّفني بنفسك.

– خذ مكاني وستعرف من أنا.

نزل السّائق فانطلقت السيارة أسرع من ذي قبل. فجعل يجري ويصيح، لكنّ الوقت لم يتوقّف بعد أن شاهد في المرآة كلّ النّاس يركضون وراءه. فترك المقود ونام، فرأى الصّور تأتيه تدخل دماغه بلا خجل أو وجل. أبصر شابا يبحث عن رجولته المترفة على صفحات مجلّة خليعة وفتاة جميلة أجرت عمليّة استنساخ لمشاعرها ثم أهدت معجبيها نسخة منها. وسمع أنّ تجربة الاستنساخ ستختبر في إحدى المصالح الإدارية. وبعد أخذ دون ردّ أو ردّ دون آذان تصغي تأكّد لدى كلّ النّاس أنّ التّجربة ناجحة، فقد أصبح المواطنون أكثر تهذيبا وأحسن تدريبا، فكلّهم اتّفقوا على العودة غدا بعد أن استنسخ الموظّفون عبارة “عد غدا” وألصقوها على أفواههم، بل على كلّ نقطة من أجسادهم حتّى بات الغد سجين مكاتبهم. شاهد شابا يتّخذ لنفسه موقعا إلكترونيا ويبدأ بصنع صورة مثاليّة لشخصه الذي لا مثيل له. و فجأة انقطع التيّار الكهربائيّ فغاصت المدينة في ظلمة خانقة، حميمة، تفوح منها رائحة التّعب وتفرّ منها غربان الهموم. وأحسّ الوقت باهتزاز سيّارته ورأى النّاس يسقطون صرعى تدوسهم العجلات.

وكان كلّما صدم أحدهم ازدادت سرعة السيّارة فتطايرت الجثث من حوله فتلوّنت الظّلمة بالحمرة القانية وتحوّلت الطّرقات إلى نساء يرسلن شعورهنّ لمواراة الأشلاء ويسكبن دموعهنّ لغسل الأجساد.

في الصّباح كان الوقت يجلس أمام التّلفاز يشاهد نشرة الصّباح وينصت إلى قارئة الأنباء وهي تقدّم إحصاء لعدد القتلى الذين صدمتهم سيّارة تاكسي مجنونة كانت منطلقة دون سائق. وشاهد الصّحافيين يسألون سائق التّاكسي الذي كان يصيح بكلام غير منطقيّ: “هنا..لقد كان.. لا أعرف لم أر وجهه..كلّمني.. بجانبي.. كان بجانبي قال لي خذ مكاني وستعرف من أنا كان ثملا كيف لم يشاهده أحد؟ صدّقوني كان هنا يضحك منتشيا، كلّنا كنّا نجري وراءه، أقصد وراء سيّارتي، هل تؤمنون بالأشباح؟”

بعد يومين من التّحقيق والبحث عثرت الشّرطة على سيّارة التّاكسي أمام أحد المنازل خارج المدينة. فأحاط أعوانها بالمكان شاهرين مسدّساتهم، ثمّ أطلق قائدهم نداءات تحذير قبل أن يقتحموا المنزل، فوجدوا التّلفاز مشتغلا وسيجارة أُشعلت حديثا يتصاعد دخانها من المنفضة، فتّشوا أرجاء المسكن شبرا شبرا دون أن يعثروا على أحد. لقد كان هنا لكن كيف خرج فنحن باغتناه؟ هل تحوّل إلى كائن لامرئي؟ هكذا قال المفتّش، بينما كان الوقت ينطلق بالسيّارة مبتعدا عن المكان.

سمير بية/تونس



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى