سمر الكلاس - قراءة في كتاب حادثة دُنشواي للأديب المستشار بهاء المري

في خضمِّ معركةِ مصرَ معَ الكيانِ المستعمرِ، وتحتَ سماءِ دُنشواي، حادثةٌ كانتِ البطولةُ فيها رصاصةً طائشةً التهمتْ فيها الأجسادَ والأرواحَ والأحلامَ، لتبدأَ احتفالاتُ الموتِ.
“دُنشواي، أصلُ الحكايةِ والجلادِ” هيَ أحداثٌ واقعيةٌ كتبها الأديبُ الروائيُّ والشاعرُ الجميلُ “بهاء المري” فكانتْ بانوراما تاريخيةً، لزمانٍ ومكانٍ شهدتْ تلكَ الأحداثَ وشخصياتِها المختلفةَ لواقعةِ دُنشواي المصريةِ، وصفَ فيها الملامحَ العامةَ لسحرِ الطبيعةِ الجيوغرافيةِ العريقةِ لها. وقد سعى الأديبُ الروائيُّ ليوقّعَ رسالةَ حبٍّ لتلكَ القريةِ الأبيّةِ، تطرّقَ فيها إلى تفاقمِ مشاكلِ الشخصياتِ الاجتماعيةِ والعاطفيةِ باختلافِ طوائفِهم معَ الكيانِ المستعمرِ. والتي جسّدتِ المحاكمةُ فيها اللبنةَ الأساسيةَ لهذا العملِ الرائعِ، وأنهى عقدةَ الروايةِ بكلماتٍ تخبرُنا أننا بحاجةٍ إلى الحوارِ قبلَ التفكيرِ، وهذا ما يجعلُهم في النهايةِ يدركون أنَّ الوقتَ المناسبَ لإصلاحِ ما اقترفتْهُ أيديهم هو سطوعُ الشمسِ.
امتداداً لحادثةِ دُنشواي المصريةِ التابعةِ لمحافظةِ المنوفية غرب الدلتا، “التي اتخذتْ شعارَها من أبراجِ الحمامِ، ومن السنبلتين حقولَها” هكذا وصفَها الكاتبُ في كتابِهِ، والتي عرفناها إبّانَ عامِ 1906 ألف وتسعمئةٍ وستة ، في الثامن عشر من شهرِ حزيرانَ التي أُزهقتْ فيها أرواحٌ بشريةٌ بريئةٌ عديدةٌ، نتيجةَ صراعِ القوّةِ والضعفِ. إنهُ صراعٌ بينَ الاحتلالِ البريطانيِّ مع آهالي دُنشواي الضعفاءِ، ليحاكَم بعضُهم ويُعدمَ على الملأِ، ويُجلدَ ويُسجنَ آخرون. هذهِ الأحداثُ أدتْ إلى فقدانِ ثقةِ الأهالي بالمسؤولين واضطراباتٍ فكريةٍ لتَغييبِ صوتِ المتهمين فيها.

حادثةُ دُنشواي مسّتِ الإنسانيةَ في العالمِ أجمعَ. إنها محفورةٌ في ذاكرةِ كلِّ مواطنٍ مصريٍّ أو عربيٍّ شريفٍ.
السيناريوهاتُ التي كُتبتْ عنها كثيرةٌ، لكنّي كنتُ أرى أنَّ المادةَ الإخباريةَ فيها قابلةٌ للتأويلِ، بينما هنا أمامي كتابٌ توثيقيٌّ صادرٌ عن دارِ الأهرامِ بعنوانِ “دُنشواي أصلُ الحكايةِ والجلادِ” للأديبِ “بهاء المري” الصادرُ في عام 2021 ألفين وواحدٍ وعشرين ، منَ القطعِ المتوسطِ، يقعُ في مائتين وثلاثٍ وثلاثين صفحة. والذي يحرصُ فيهِ الكاتبُ بمهارةٍ على توثيقِ الحادثةِ بأسلوبِهِ السهلِ الممتنعِ، وسردٍ رقميٍّ حقيقيٍّ، ومعادلاتٍ واقعةٍ لا خلافَ عليها، ولغةٍ تُدعمُ برؤيةٍ فكريةٍ وثقافيةٍ مختلفةٍ مؤرّخةٍ بمصطلحاتٍ ذاتِ دلالاتٍ مهمّةٍ بهدفِ توسيعِ دائرةِ الاستفادةِ في عمليةِ التوثيقِ هذهِ. وهنا سأضعُ القلمَ وأقولُ لكلِّ مقامٍ مقالٌ.
لم يكنْ عبثاً اختيارُ الكاتبِ لهذا العنوانِ حيثُ استخدمَ كلمةَ أصلِ ليبينَ لنا الاختلافاتِ الناتجةَ عن تأويلِ الأحداثِ، وأمّا عن الجلادِ ذلكَ ليظهرَ مدى براعةِ الهلباوي في مهنةِ المحاماةِ وتأويلِ الأحداثِ وفقَ ما يتماشى معَ المستعمرِ.
في هذا الكتابِ نجدُ أنّ الكاتبَ قد عكسَ مشاهدَ ووقائعَ حكائيّةٍ زمكانيّةٍ جسّدَ فيها قضايا دُنشواي الإنسانيةِ والقديمةِ المعاصرةِ، وغاصَ بنا إلى أعماقِ النفسِ البشريةِ برؤيةٍ شاملةٍ من حيثُ ترتيبِ وتركيبِ الأحداثِ وتفاعلِها، وتناميها والتي صاغَها بلغةٍ فائقةٍ عذبةٍ ،بأسلوبٍ سرديٍّ جميلٍ يلامسُ أرواحَنا، بل روحَ كلِّ وطنيٍّ شريفٍ.
لقد تطرقَ المستشارُ الأديبُ بروايتِهِ الجميلةِ إلى أن الأزمةَ تصنعُ الرجالَ.وذلكَ لتعاونِ بعضِ الشرفاءِ معَ أهالي دُنشواي وسماعِ أقوالِ الشهودِ من بينهم (أم محمد) التي أصيبتْ برصاصةِ المستعمرِ الغادرِ، كما ذكرَ شهامةَ أهالي دُنشواي بتعاونِهم الاقتصاديِّ معَ من ردَّ اعتبارَهم وأخرجَ البقيةَ الباقيةَ من سجنِ المستعمرِ.
كانَ ذلكَ تعبيراً عن وجودِ الإنسانِ فيه مهما اختلفَ سلوكُ وطباعُ وفكرُ مَنْ حولَهُ. لقد جعلنا ندركُ أنّهُ بالحبِّ وحدِهِ نتمرّدُ على الخوفِ والموتِ في هذا الزمنِ الصعبِ.
كما أنهُ راقصَ الأحداثَ السياسيةَ والاجتماعيةَ على حلبةِ الشعرِ، فاستشهدَ ببعضِ الشعراءِ الذين لبتْ سطورُهم نداءَ الروحِ الإنسانيةِ في دُنشواي.
ومن الجديرِ بالذكرِ أنَّ المهاراتِ المهمةَ التي اتبعَها الكاتبُ في توثيقِ الاقتباساتِ النصيّةِ في فهمِ النصِّ التاريخيِّ للحادثةِ هيَ معرفةُ السّياقِ التاريخيِّ العامِ لها بحيثُ تمَّ تأطيرُ الأحداثِ، وتفنيدُ كلَّ ما يحتملُ من تأويلٍ ببلاغةٍ مُدهشةٍ لنفهمَ طبيعةَ ما يجري مستفيداً من وجهةِ نظرِ المهنةِ، باعتبارهِ مستشاراً قضائياً. فقامَ بكتابةِ الوقائعِ والإبلاغِ عنها بطريقةٍ تتميزُ بسردِ بلاغيٍّ وضعَ فيهِ وجهاتِ نظرِ الجميعِ بقوالبٍ مختلفةِ الآراءِ، ثُمّ جَدوَلَ الأفكارَ المتعدّدةَ بغرضِ تعزيزِ أهميةِ الأحداثِ التاريخيةِ الناتجةِ عن هذه الحادثةِ فيما بعد.
وبما أنّ الكاتبَ قد نوّه عن بعضِ النّصوصِ التي كتبتْ عن هذه الحادثةِ بمعلوماتٍ تاريخيةٍ تحتملُ التكذيبَ أوالتصديقَ، لهذا رصدَ الأديبُ الواقعةَ في كتابهِ بكلِّ النصوصِ ووضعَها بمستوياتٍ خمسةٍ، جمعَ فيها الحرفيّةَ، والتحليليّةَ، والتفسيريّةَ، والناقدةَ، والإبداعيّةَ بشكلٍ يناسبُ قراءةَ وفهمَ القارئ.
لا تغيبُ عنّا مهارتُهُ في التحليلِ اللغويِّ ورؤيةِ النصِّ في التفريقِ بينَ الأصليِّ والثانويِّ، وبينَ الخبرِ والرأي كاشفاً التناقضَ الحاصلَ في حلِّ المشكلاتِ المعوّقةِ للاستعمارِ والبلادِ على حدٍّ سواء. ويعتبرُ التناقضَ هنا نقطةَ ضعفٍ، وورقةً للضغطِ على وجودِ الكيانِ المستعمرِ. بالإضافةِ إلى مهارتِهِ في اكتشافِ التزييفِ وما ليسَ من النصِ الأصليِّ واستشفافِ المستقبلِ. وذلكَ من خلالِ تبويبِ التفاصيلِ التي تساعدُ على فهمِ برمجةِ الأفكارِ الخاصةِ بالحدثِ.
بدأ الكاتبُ كتابَهُ بإهداءٍ إلى قريةِ دُنشواي وجميعِ قاطنيها الذين كانوا وقوداً لمعركةِ صمودٍ حتى جلاءِ الاحتلالِ، ثُمّ استهلّ كتابَهُ بملخّصٍ عن قريةِ دُنشواي وتوصيفها بمهارتِهِ المعتادةِ، ثُمّ دخلَ في صلبِ الموضوعِ، وكشفَ أسرارَ المستعمرِ وأرشفَها لحظةَ دخولِ البلادِ إلى حينِ حادثةِ دُنشواي التي لا تزالُ عالقةً في الأذهانِ لفرطِ قسوةِ المستعمرِ وأعوانِهِ المؤازرةِ. ووصفَ الحادثةَ المروّعةَ للإنسانيةِ بدمجِ أهميةِ الحمامِ والبشرِ على حدٍّ سواء في دُنشواي، فلا فرقَ بينَ المستعمرِ قاتلِ الحمامِ، وقاطعِ الأرزاقِ وقاتلِ البشرِ والإنسانيةِ والخائنِ!
قامَ الروائيُّ بتجهيزِ وقائعِ كتابِهِ راصداً كلَّ المعلوماتِ التي تخصُّ شخوصَهُ وموثّقاً أحداثَ دُنشواي الزمكانيّةَ قبلَ البدءِ في كتابةِ الروايةِ. واستخدمَ كلَّ هذهِ المعلوماتِ كأساسٍ لتقديمِ عملٍ موثقٍ وناجحٍ.
ثمّ لخّصَ الحادثةَ في عمليةِ صيدِ بعضِ ضباطِ الإنجليز لحمام دُنشواي فأحرقوا جرنَ القمحِ وأصابوا المرأةَ التي تسكنُ البيتَ، تصرخُ مستنجدةً، فتصدى لهم أهالي دُنشواي، مما أدى إلى غضبِ المستعمرِ وتقديمِ المشتبهِ بهم إلى المحاكمةِ، وكانتْ محكمةً بلا قانون، حيثُ تمَّ الحكمُ بسطوةِ القوةِ على الضعفِ بإعدامِ البعضِ وجلدِ آخرين، وبالضغطِ عليهم تمَّ الإعفاءُ على البعضِ. وكان الحكمُ قاسياً وظالماً. كرهَ المصريون كلَّ من ساهمَ في الدفاعِ عنِ المستعمرِ ولقّب الهلباوي بالجلادِ، للترافعِ ضدَ المتهمين من أبناءِ جلدتِهِ.
إنكَ إن قرأتَ هذه الأحداثَ بشموليةِ أبعادِها وأشبعتَ عينكَ وفكرَكَ بسردهِ الماتعِ الشائقِ، ستجدُ أنّه أعطانا درساً وعبرةً في نهايةِ الهلباوي وأطماعِهِ وخيانتِهِ بعدَ أن خسرَ كلَّ أموالِهِ. لتكونَ آخرَ شهقةٍ ليبلّغَهُ الشقاءُ نهايتَهُ المحتومةَ. وهذه هي نهايةُ كلِّ حياةٍ سادَ فيها الظلمُ والضياعُ واحتلَ الشرُّ فيها، وتلبسّهُ الشيطانُ للعبِ دورِه. هكذا وضعَ الأديبُ بهاء بَصْمَتَهُ في خاتمةِ الكتابِ.

سفيربرس
سمر الكلاس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى