طيبة فاهم ابراهيم - أنا وبلقيس والمصارعتان..

الناس أجناس، واصناف والوان، وسجايا وخصال، منهم من تحبه منذ اول لقاء، ومنهم من تنفر منه قبل ان يتم اللقاء، وما بين ذلك وذاك، تتأرجح العلاقات بين محبة عميقة وصداقة وعلاقة زميلات وكذلك علاقة نفور وعدم ارتياح.
كانت بلقيس مصارعة من طراز فريد، تمتلك قوة بدنية هائلة ، وهي ذات جسد طويل نوعا ما، لا تصارع امرأة الا وصرعتها دون مقدمات.
لا اعرف لم احببتها منذ التقينا، وبت ارتاح لها من صميم قلبي، وهو امر لم افعله في حياتي ابدا، إذ كانت شقيقتي الكبرى وهي معلمتي الراقية تنصحني بالقول : لا تقولي صديقة الا بعد عام من التجارب.
بلقيس خرجت عن كل هذه القواعد الصارمة التي التزمت بها طوال عمري، اذ سرعان ما توطدت العلاقه وكانها علاقة اعوام طوال، نترك فيها قاعة التدريب متأبطات ذراع بعض حين تسنح الفرصة، لنتكلم عن طموحاتنا واحوالنا ودراستنا، وعن سبب عشقي لدراسة القانون، بينما كانت تحدثني عن امها وابيها المصارع، وكيف غرس فيها حب اللعبة منذ صغرها.
كانت طريقة بلقيس في اللعب تجلب لها الكثير من التنبيهات والانذارات من قبل المدربين، فهي ورغم طببتها ونبلها، كانت بجسدها القوي تتلاعب بخصمتها حتى توصلها حد الانهيار تعبا ، ثم حين تبدا بالتثبيت، لا تتممه وترفع الخصمة وتطبق عليها حركة اخرى، وهو ما يعد تعذيبا لمصارعة منتهية تماما تنتظر صرعة الرحمة كأمنية .
كنت انتقدها لطريقة لعبها، اذ يكفي ان نصرعهن ونتركهن وينتهي الامر، فكانت اجابتها انها تريد التنفيس عن قوتها الجسدية، وهي التي تختار تثبيت الخصمة الخاسرة متى تشاء لا سواها.
من الغريب ان بلقيس كانت ترفض ملاقاتي، وتتجنب الصراع معي، في حين كنا نتصارع جميعا نحن اللاعبات في التدريب، وكانت سعيدة لان وزنها يزيد على وزني، وهو ما يضمن عدم لقائنا في نزال على البساط.
بررت لي صديقتي انها لاتحب ملاقاة من تحب، فلسفة كانت هي مؤمنة بها، فالمصارعة عندها استفزاز وملاقاة وقهر الخصمات، وهو ما لاينطبق على المصارعات اللواتي تحبهن بحال.
خلاف بلقيس، كانت الشقيقتان ايناس ونادية، تشعر انهن يبغضن كل شيء، اللاعبات القويات والمدربات والكون وجمال الحياة، وكل من يرتبطن بعلاقة وثيقة، رغم انهن متمكنات من اللعب وبشكل تام ومذهل.
لم تكن لديهن روح رياضية، فهن يبقين شامتات بمن يخسرن أمامهن، يتضاحكن كلما مرت خاسرة من جنبهن، مع كلمات استفزاز مبطنة قاسية.
بقيت نظراتهن الحاقدة نحونا تحاول استفزازنا، وهو ما اثار حفيظة بلقيس التي حاولت ان تدخل معهن في شجار فمنعتها من ذلك.
وحين اقتربت البطولة احتدت بيننا النظرات، وتضاعف طيشهن وتصرفاتهن الصبيانية، وكلما افلتت اعصاب بلقيس احاول منعها وانا اقول لها: ساصارع ايناس وتصارعين ندى، كل تصارع مثيلتها في الوزن، والحلبة هي فصل الخطاب.
كان يوم النزال حافلا، حين ابتدا بالنزال بين بلقيس وايناس، حيث حولت بلقيس غريمتها الى متفرجة ليس الا، وطبقت عليها جميع حركات المصارعة الحرة من الالف الى الياء، حتى انهارت ايناس تماما، وحين امتنعت بلقيس كعادتها عن التثبيت كي تطبق مزيدا من الحركات، اعلنت ايناس استسلامها التام، وبقيت مرتمية على الارض، ثم نهضت وهي لا تعلم من اين دخلت وكيف ستخرج؟؟
وجاء دوري مع ندى التي بدت في حال لا يوصف من الارتباك ، وقد رات بأم عينها هزيمة شقيقتها وقدوتها، ولم تك افضل حظا من شقيقتها، اذ سرعان ما امسكت بقدميها وقلبتها وبدأت اطبق المسكة تلو المسكة واكسب من النقاط مالم اتمكن من احصائه، حتى انهى الحكم النزال بفوزي المطلق لعدم التكافؤ..
في الحجرة الخاصة باللاعبات ، اجتمعنا نحن الاربعة..
اقتربت من ايناس وقلت لها : لا تتعذرن بشيء لو سمحت ، لم تكنّ مريضات او غير مدربات او غير مستعدات، انتن من اقوى مصارعات البلد، وابكيتن بطلات بارعات، لكن المعيب انكن مريضات بالكبر وقد تجاوزتن كثيرا فصبرنا، ثم سحقناكن تماما واخذتن نصيبكن من المسكات المهلكة، ووضعناكن تحت رحمتنا تماما ، وننتظر منكن اشارة لنتصارع على اي بساط ونقضي عليكن كذلك، الدرس اليوم كان قاسيا وقد نلتن الاستحقاق تماما.
فقالت لهن بلقيس ضاحكة : المشكلة ليست في النزال، بل فيمن تحملهن بعد النزال وهن فاقدات للوعي.
عندئذ قالت ايناس وهي مطأطئة الرأس : كلا.. نحن مستسلمات ولا نطيق قوتكن ومهارتكن، ولا داعي لنجرب الجحيم من جديد، هنا او في اي مكان آخر، لا معنى لنخوض حربا نعلم انها خاسرة سلفا.
تركناهن في حال يرثى له، وركبت معي بلقيس في جولة ببغداد، وكانت تضرب كفا بكف وهي تقول : كنت سأفقدها الوعي.
فطبعت على خدها قبلة تهنئة وقلت لها : لن نكون مثلهن ولنكتف بالفوز، فدرس اليوم لن ينسينه ابدا، مثل محبتك التي لا تبرح قلبي ابدا..

تعليقات

نحن من نختار اصدقاءنا عن محبة وقناعة ورضا وايمان بالتكامل والانسجام. لكن لا نختار اعداءنا باي شكل من الأشكال، لأنهم هم من يخلقون العداوة ويبعثون على النفور بسادبتهم وكراهيتم التي يدسونها في العلاقات الانسانية.. والرياضة بما تحمله من رموز سلمية ورسائل سامية تجعل ممارسيها اكثر وداعة وهدوءا ورباطة جاش وصبر حتى في المواقف الصعبة والعاصفة، وهي سلوكات نستشفها من خلال هذه السرود البديعة.. والانتقام والشماتة من الخصم سلوك غير وارد . لكن الثار للنفس والانتقام يتمان بأساليب اشد مرونة ولباقة.. لأن "الانتقام وجبة تؤكل باردة" كما يقول الفرنسيون
كل التقدير
 
أعلى