ياسر محمد صالح - زيف المنصات..

ذاع صيتي ، و نشرت صوري و حديثي في كثير من القنوات الفضائية، نسجت لي حكايات تمددت كالنار في الهشيم ، ترنم بها الركبان علي طول البوادي ، فقد تحولت من قروي قح الي بطل قومي، سمعتي الباهرة انتشرت في تلك المجتمعات البسيطة التي تذدهر فيها الخرافة لتصنع واقع يصعب محوه بسهولة ... اصدقائي معارفي ، عاتبوا اهلي لاخفاءهم شخصيتي الحقيقة ، أثنوا علي صبري لسنوات طويلة متدثرا بعباءة التواضع و الزهد،،، عرجت كثير من الروايات بانني محق في التخفي حتي احافظ علي نواميس الهداية التي تسلسلت عبر ارحامي المتناثرين في كل البقاع المباركة.. بدأت تلك الأسطورة و انا احتسي شاي تحت شجرة هجيليج عملاقة في أحدي أسواق شنكباي ، و قد مزق العوز اخر معاقل صبري... تلقيت اتصالا من الفاخوري ،،ممثل منطقتنا خلف وادي السريف، يطلب مني تمثيلهم في ملتقي ثقافي، لارتباطه بأعمال تجارية في استيراد الجنزبيل النيجيري اللازع المذاق .. برغم ان الدعوة لمنطقتنا لم تعلن في الصحف و الإذاعة أو عبر الاتصال العادي .. الا ان طبيعة ممثلنا المتهورة تندفع دون هوادة في سباق لتسجيل حضوره في زوايا الفضول السياسي ، له مبدأ اقتناص أي تجمع حكومي أو شعبي و المشاركة فيه و نيل فرصة الحديث و التعقيب ،، هذة القناعات جملت مظهره العام في المناسبات الاجتماعية المتناثرة و جعتله فريد زمانه ، اخبرني باسم مكان الدعوة فقط ، شكرني لقبولي التكليف وهو يدرك رغبتي القديمة برؤية مباني الحكومة من الداخل ،، .. دخلت قاعة بهية المنظر ،، مرتبة بأناقة لم اعهدها من قبل ، تلك كانت المرة الأولي التي تطئ فيها قدماي بهو بهذا الجمال ، لزعني نسيم المكيفات الباردة ،، و انا منتشي بتذوق اطياب منوعة من الطعام يتدرج من الفطائر المطهمة و المقرمشات الي حلويات باهظة الثمن ، كنت اتجرع مشروب بارد ،، أحسست به يروي ظمئي الحزين لدعة الدنيا التي ضاعت من شوارع بيوتنا المتناثرة كالبثور في فضاء ريفي موحش ، كنت مستغرق في تداعيات أحاول جاهدا أن اصيغ احتجاجاتي المنطقيه للفوارق التي جعلتني انتمي الي بيئة تنتزع رغباتنا الإنسانية البسيطة دون هوادة ، لتمنح الي مركز متسلط أتقن فن استنزاف حليب ابقارنا و رمي براثين عفونته علي مرمي حجر من ترع زرعنا الخصيب.. ظللنا في تعنيف مستمر لاخضاعنا للاستسلام لمئات السنين دون امل للانعتاق ،، نبهتني موسيقي ذات ايقاع بدوي ، لطالما شنفت مسامعي كثيرا ، في ترحالنا الشتوي بين منعرجات جبال و وهاد مقفرة تكسوها عزلة أبدية لم تطءها شعلة الحداثة يوما ما .
حينما تقاطر جمع غفير من المدعوين، كنت قد غرقت في اكتمال تقمص شخصيتي الجديدة الملهمة ، كأنما رصعت بنياشين لخوض غمار تجربة ، لمواجهة تحدي اخر ، يختلف عن جميع مغامراتي التعيسة...
،، بدأت الأحداث الدراماتيكية، أن تصادف تطابق مظهري/ و مبتدر النقاش بروفيسور نوراني فى" ندوة البعد الجمالي من منظور فلسفي "".. كنا نتوشح معا الجلباب البدوي و العصي الخيزرانية ،، و الشال الحجازي المبرقع بدوائر حمراء و خيوط تتدلي كشوارب الفلاحين ، ففي اللحظة التي اختفي دكتور نوراني عن أنظار المنصة المنشغلة بوضع اللمسات الأخيرة لبداية العرض ، وهو ينحني للبحث في شنطته الرمادية عن رزنامة اوراقه ، في تلك اللحظة الشاردة من سجل التوقع، تمت الإشارة إلى أن أتقدم للمنصة ،، لا ادري كيف تملكني سكون و ثقة غير اعتيادية لقهر ترددي اللئيم./ تذكرت مقولة جاري اغتنم فرصة خروج أحدهم حتي لو في طابور الرغيف ..تقدمت مهرولا ، يلازمني شعور ملئ بالفخر و الرعونة .. لم اكن أعي تمام حالتي آنذاك ، بانني قد تدحرجت من أعلي هرم المازق الي أتون الفراغ و التلاشي .. بدأت اسمع فحيح صوتي بانفاسه المتهدجة و حبيبات العرق تنز من أماكن محرجة بجسدي المضطرب ... هنيهات قصيرة من الصمت كدهر بعمر الحساب جالت بذاكرتي ، لبذر حيز من الثبات .
بدأت حديثي ، بحوار دار بين بائع الحليب و امرأة بدينة.. حوار ساذج بلغة غارقة في وحل من السطحية ، قراته قبل أكثر من عشرون عاما في كتاب وجدته عند فريشة جامع النافحابي ، منذاك الوقت و انا أحفظ مقاطع الحوار طويل ، كنت استشهد به عند اصحابي في كنابي المزارع و المقاهي و أضيف إليه شعر تتداخل فيه اراء مشوشة و مساجلات قديمة اختزنت بها ذاكرتي عند أمسيات زاهرة بحكايات حبوبتي سوست .. كانت طريقة سردي الايحائية و تقطيب وجهي بتمثيل متقن و التلويح بمنكبي العريض بعلو قامتي ،، " التي طالما خدعت الكثيرين و اضفت وقار علمي زائف ،، بدأت أتقن فن سحر الأمكنة و تلاشت مخاوفي ليصعد حماس مخيف يعتلي منصة المشهد التراجيدي ،، انفلت عقال بعيري في سهول واسعة من احاديث بعضها خيالي و أغلبها حكاوي تسرد بانفعالات تشابه تعبئة الجنود لخوض معارك مصيرية ،، بدأت اخلط بين قناعاتي الفطيرة لفهمي الساذج للأحداث و ترديد مقولات مستنسخة من عوالم مبهمة اتخذتها مصدرا لالهامي الزائف.
بدات الاصوات تضج، ضاحكة ' متناثرة ، رويدا عمت القاعة موجة من التصفيق و الصياح اعجابا، ظل عقلي يشتعل للخروج من هذا المازق ، فقد شارف الحوار العابث علي الإنتهاء ، تذكرت تاريخ طويل من المحن التي تورطت فيها ، لم يسعفني خيالي للانسحاب معززا بستر ضئيل يخفي هزيمة تلوح في أفق مخاوفي ، يا لهذة الفضيحة ، أيعقل أن يتندر بي أهالي الشلهوبة ، و اصبح مزحة لجلسات النساء ،،، اخير أفلحت و بصوت جهوري يخرج كزئير ، لا ينتمي إلي مفرداتي و لا يشبه قدراتي اللغوية العابثة
قلت لهم : " هذة فترة إعلانية، اقابلكم عند نشرة العاشرة ، تركت المايكروفون و نزلت رافعا يديي كزعيم منتصر، وسط هياج صاخب من التصفيق و الإعجاب ، لم تشهد له القاعة منذ تأسيسها.
استقبلني وزير الثقافة والإعلام بابتسامة عريضة،، ليفسح لي مجال و معه مجموعة من أصحاب الشان، كانت الكاميرات تجهر عيوني المزعورة في ذهول ، و حديث الوزير الخافت في اذني " وهو يتدفق إشادة ببعدي التحليلي لاخراج الوطن من حالة الركود الانثرو عصياني الى سيولة الاندماج، كنت اومي براسي المتارجح بثقل الورطة الجديدة والتفاتة عفوية ترصد دكتور نوراني وقد تدلت شفتاه من هول الصدمة.

القضارف - سبتمبر 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى