حوار مع الشاعرة والروائية التونسية وفاء بوعتور.. أجرى الحوار: محمد لطفي - بوابة نيوز

أجرى الحوار: محمد لطفي

* هل توقّعتِ الهجوم الذّي تجدينه كردّ فعل على دواوينك وأشعارك؟
> ثورة السّخط والرّفض والتّجريح التّي جُوبهت بها، وبوجه أدقّ شراستها وألسنتها وسرعتها ورُقعتها فاقت توقّعاتي لكننّي على أيّة حال لم أكن أنتظر أن تُرْفع لي القبّعات في مجتمعات تجاوزتها الأرائك الحجريّة فكلّ عمليّة تحديث إبداعي هي بلا منازع طعنة نجلاء في صدر السّائد والمألوف والعُرف وكشاعرة تقدّميّة تملك أداتها وكربّة " قصائدٍ – جَدَلٍ لا يخطر ببالي إلّا الزّهوّ والفخر بهذه اللّعنة الفنّيّة المقدّسة ولعلّني أستحضر في هذا السّياق إمضائي بمجموعتي الشّعريّة الأولى من " نهديّات السّيّدة واو " حيث رتّلتُ :

ثمّة وجع تصبح معه الكتابة مبتذلة،
وثمّة حُبّ أقدم من التّاريخ
وأملح من الدّم،
وثمّة دمعة أطول من كتاب الحياة،
وثمّة شقّ في آنية الرّوح
لا يجبره إلّا اللّه،
وثمّة شِعْرٌ- فَتْحٌ
معصورٌ من نهد واحد
لا يُشبه
إلّا السّيّدة واو.

تماما كما ألمعتُ إلى قرّائي بومضة شعريّة في ذات الأثر الأدبيّ أشدو فيها :

ثمّ أحيطكم بنهدين
أملُوديْن...
مُدمْلَجَيْن...
فيما يشبه
إطباق سبع سماوات
وباب محيق
في الشّعر
فصّلته...
على دين :
"السّيّدة واو"

أختتم قولي في هذا المقام بأنّ لكلّ مُنشَقَ عن القطعان غبارا وعُذَّلا وسيّافا ولكلّ فتنة دمها ولكلّ طليعيّ حَقَدةٌ ومُشكِّكون ومتآمرون وحُسّاد، وأشْعاري إناث فاتنات الرّوح والرّيح والدّيباج والأهواء والماء، وعلى خطْوِ الكبير نزار: "الأدب ليس ابن السّهولة، ولا هو ابن المصادفة. الأدب جزية وضريبة ومشي مستمرّ على سطح الكبريت السّاخن"، الأدب رفض ونضال وخلخلة نُظُمٍ وحفر في أخاديد الحرّيّة والمستحيل والزّمن وهو أيضا حرب وجد ووجود وإعادة ترتيب وتثوير وتأثيث ولئن تناقضت متلازمة الهوس التّنمّرّي عند العامّي وشبه المثقّف والمثقّف العربي المتعامل مع كلّ ما هو جديد ومختلف بسطحيّة وبدائيّة وهشاشة وعدائيّة مع بدييهيّات التّطوّر القيمي والأخلاقي ووقفت عصا في عجلة الازدهار المعرفي فإنّها تساهم بذات القدر وأكثر من حيث لا يُحتسب في تزكية ناره وتفجيره وتنكيهه.
لستُ الأولى ولا بآخر عنقودِ المُشاة على الإبَر والسّيف والخطر، وأحسبُ أنّ ما دفعه وسيظلّ يدفعه أحرار الأقلام من ضرائب باهضة الوجع يكفي لإحياء البحر الميّت وتعمير الفيافي والمنافي وبطون الجنان والجمال والشّرف والأزل.


* لماذا اخترت نهديك ليكون أداة مركزيّة لأعمالك الشّعريّة ؟
> عمليّة اختيار " النّهد" أعقد وأعمق وأوسع من بسط علّتها أو غائيّتها في سطور، يكفي أنّ النّهد منجم شموليّ الرّموز وأنّ خريطة النّهد السّيميائيّة أوسع من كلّ أطواق الأمكنة والعصور والنّضوب، فكيف لا أختار خطّة النّهد الإيحائيّ الاستمراريّ الفيّاض النّابع من قلق كينونيّ قديم خالص إزاء العالم، إذ هو النّهد المتاخم للحياة والمعرفة والإنسان في حيويّته وإجهاضاته وفواجعه وتجلّياته واستشرافاته ورهافة أنباضه وذاته كموضوع ومحور وجود؟ النّهدَ ككائن ميتافيزيقيّ وأسطوريّ وكون شعريّ خاصّ _مطلق تتخلّق منه وفيه آفاق الدّلالات، النّهد المعُادل لمحارة سحريّة مجازيّة زئبقيّة متحرّكة،متغيّرة،متجدّدة تشعّ وتوحي وتُلْغِزُ لتدفع القارئ في دروب الاكتشاف والإثارة والدّهشة ومنها يتكوّر ويتكثّف ويتفجّر ويتلوّن ويتعدّد ويسافر ويتصاعد المعنى حتّى يروغ من قبضة التّعريف و الماهيّات والدّوائر المغلقة والعناوين الباردة والتّشكّل النّهائيّ، النّهد المتجاوز للظّاهر والبدائيّ الماديّ إلى مفهوم القناع البيانيّ ، إنّه " النّهد الفنّيّ " أو " النّهد الثقاقيّ" أو "النّهد البلاغيّ" المُنتمي – الغريب ، المنفصل – المتوحّد مع الكونيّ الذّي بقدر ما يترجم ذاته يصغي إلى "الآخر" ويجيش بأحداثه وقضاياه وتطلّباته وتبصّراته وتطلّعاته ورغباته في يقظة و"لاوعي" حسّه الانسانيّ العميق المشترك، إنّه النّهدُ _ الرّمزُ المُتبرزخ بين الواقع واللّامعقول "بين الواقعيّة كأخصب سجلّ للخيال، وبين الخيال كأكبر مخترع للواقع " على قول كنفاني، نهد كأبطال القصّاصين توّاق لانتزاع المستحيل واجتراح المعجزات وفق لعبة أسلوبيّة شعريّة تجربيبّة ماكرة البحث والتّكنيك والغور والطّقوس والجمال والألوان والمرامي.
أعود للتّعريج برقًا على صيغة السّؤال المطروح أعلاه لأهمس لُؤْما ولَوْما ومداعبة لغويّة وتلطُّفا لمُحاوري الكريم : كأنّما لم أستسغ قولك" لماذا اخترت نهديك..؟"، حبّذا لو كنتَ تفضّلت عوضها مستفهما " لماذا اخترتِ النّهد..؟"، فإمّا أن تتخطّى مرتفع مجازاتي أو أنّك هالك لا محالة بين كومة نهدين".


* هناك اتّهام جاهز للشّاعرة وفاء بوعتّور بأنّها تبحث عن الإثارة وتستغلّ جسدها في التّرويج لأعمالها. فما رأيك؟
> أصحاب الاتّهامات الجاهزة هم عادة وعموما مُصابون بعِلَلٍ ذوقيّة وحَمَلة عقليّات اسمنتيّة لا تسمن أو تفقر أو تلغي من وزن، ألغاطهم المأفونة وثرثراتهم المجرثمة وشتائمهم السّوداء الكائدة أشبه ب"حمّامات نسويّة "أو " روّاد مقاهي شرقيّة تعيسة" أو " تحقيقات مخافر بوليس الآداب " أو فقاقيع صابون " دياري " عَفِين، يمقتون ويبغضون النّاجح والمتألّق ويصدّرون آراء ومواقف أخلاقويّة كاذبة ومسمومة، ولعلّني أجد تسلية وتحلية وتعزية خاصّة حيال استفزاز وتأديب هته المخلوقات الشّقيّة عن طريق الكيّ باللّغة، قد يتلذّذون برصدي في فوّهة سُبابهم وسخطهم لكنّهم أصغر من أن يستوعبوا أنّ نصل الحرّيّة المشرّع في حَرْفي يستحقّ حلاوة الكفاح والعذابات والتّضحيات، وأنّ إغناء خزائن الأدب العالمي مسؤوليّة والتزام وجهاد وأننّي الآن أضحيتُ أكثر إنسانيّة وجمالا ممّا صوّرت لهم حماقاتهم والظّنون إذ دفعتُ أثمان تمرّدي وجرأة قلمي وصوري ومواقفي من نار لحمي الحيّ وانتزعتُ مقابلها حرّيتي بالكامل، لأجل ذلك أنا " كائن لا تُحتمل خِفّته" ، ولعلّني استشرفتُ مصيري ومنزلتي ذات تنبُّؤٍ على لسان بطلي جمال مهران في روايتي البكر " شالوم " حين أسرّ للقضبان:

"انتبذتُ ركنا قصيّا من حجرة الإيقاف أتوحّد فيه نفسي، كنتُ مستلقيا على ظهري في ذروة الانخطاف أئن سعيدا بحرّيّتي وكنتُ أحلم يقظا.
إنّ السّعادة تشبه أنين الحرّيّة.
حلمتُ أنّ نبْتَ الطّين المتشّقق يقاوم، والماء يتدفّق في غير سواقيه...
هل اقتربتْ ساعة الانتحار؟"

نأتي الآن لمسألة البحث عن الإثارة واستغلال جسدي في التّرويج لأعمالي. متى كانت أجسادنا جرائم أخلاقيّة كي نُتَّهم باستغلالها أو نُبرّرها أو ننفيها؟ جسدي أنا الكاتبة العربيّة الملعونة وفاء بنت فتحي بن عبودة بوعتّور موقف إنسانيّى فنّيّ جماليّ حُرّ من العالم وهو بمعزل عن كلّ الخلفيّات الإيديولوجيّة والطّائفيّة والدّينيّة، أذكر أنّني أشهرا خلتْ نزّلتُ على جداري الافتراضيّ عن سبق التخطيط والغايات صورة أتقرفص فيها نصف عارية على عرش سريري موشّحة بتدوينة أضيء فيها :

هذا النّهد الكبشُ لي،
نهدي لا مُدنّس ولا مُقدّس
نهدي ميتا – أخلاقيّ
وإله من تراب لغوي كونيّ.

النّهد الكبش في اتّجاه تأويليّ محتمل هو إحالة للنّهد-القُربان ومنه الجسد- الأيقونة المنذور لتبليغ مفاهيم كبرى وغايات فنّيّة سامية، فاسمعوا وعوا :
جسدي أرقى ما كتبتُ وهو فكرة نبيلة حُرّة وحالة إبداعيّة صوفيّة وبعدٌ من شخصيّتي الشِّعريّة الجدليّة المتمسرحة في "السّيّدة واو " ومقوّم سيميائيّ هادف لا يتجزّأ عن فسيفساء وسيراميكا عملي الإبداعيّ، وهو أيضا مأمور وظيفي رمزي متغلغل في قلب السّياق الفنّي التّكتيكي لمشروعي الحَدَث "تحدّي ألف نهديّة ونهديّة"، فالحلول بمسرح الشِّعر بالنّسبة لي يعني أن يبذل المبدع ذُراه رهنَ تجربته ورسالته الفنّية وارهاصاتها وتهويماتها وضرباتها، وقد ارتأيتُ إلّا أن أسخّر صوري الفوتوعرافيّة " صرخة فنّيّة " وأنموذجا مجازيّا رمزيّا قتاليّا لخدمة الجوهر الفكريّ للنّصّ والاجتذاب الشّكلي ومراودة قلوب القرّاء، ولا يفوتكم أنّ الشّعر المستقطر من وقائع الجسد وانفعالاته ووقعه وتوقيعه حريق مُعلن في دمّ القرّاء، وأنا سيّدة المجازات والأدخنة والملاحم أو لستُ القائلة :

منذ أوّل شاعر
وأنا أعلّم نهدي
تشكيل النّار !

هل ترين أن المثقّف العربي أو المواطن العربي لديه نهم لكلّ ما هو جنسي ؟
أعتقد أنّ المواطن العربي يعاني ممّا هو أخطر وأطرف من مجرّد النّهم، إنّه مُصاب بنمل غريزيّ حارّ ينغلُ كالصّحراء لكلّ ما هو جنسيّ، وليس في ذلك أيّ عيب أو هنة أو جُرم محتمل بل هي ظاهرة جدّ طبيعيّة وإنسانيّة طالما ثمّة منافذ بيولوجيّة،حيويّة وجماليّة للتّصريف والإشباع بطريقة ما، الطّامّة كلّ الطّامة تقع حين يسْبغُ المثقّف العربيّ على أرباب الأعمال الفنّيّة الجريئة الشّيء الكبير من مكبوتاته المطمورة تحت جلد الدّين والأخلاق والموروث، ويضرب قاعدة "المواربة هي الفنّ" مرتكبا أقبح جرائم التّلقي، ألا وهي قتل الإيحاء والسّياقات. ولأنّ " لكلّ شيخ طريقته" على مذهب الصّوفيّين، فقد كانت الومضة الآتية حيلتي الفنّيّة المشفَّرة في تبليغ الفكرة الجاري معالجتها :

أطوف عارية
بلا ربّ !
رجُلٌ قطع
عنق المجاز
وأطاح...
بنهدي.

لأجل هذا وذاك فإنّ مؤسّسة الجنس الشّائعة بالذّهن الجمعي بحاجة إلى تطهير وإنقاذ وإعادة إعمار وتشكيل، ولن تستردّ المجتمعات العربية عافيتها وعقلها المختوم بشمع اللّاهوتيّات والأخلاقويّات والسّذاجات وتحرز نقلة وتحرّرا وتطوّرا انسانيًّا إلّا بتكنيس لوثات النّظرة السّوقيّة الدّونيّة وخفافيش الشّوهات المعشّشة في مغائر نفوسها فيما يتعلّق بمفهوم الجنس وإنهاء حالة الطّوارئ المسلّطة على " الثّالوث المحرّم" بما فيها استصدار عفو قيميّ جماليّ عن التّابو الأكبر" الجنس" " والمصالحة مع " الجسد _ الفكرة ". تُلِحّ عليّ في مقامي هذا مقولة جورج أورويل George Orwell "إنّ الرّوايات العظيمة لا يكتبها أناس خائفون". والجنس رواية عظيمة بل هو من أعظم وأعقد وأقدس الرّوايات، فكيف لا أنفثه سردا ونثرا ووردا بكلّ ما أوتيت من وسائط ومحامل وشطحات؟


* أثار غلاف ديوانك "نهديّات السيّدة واو" الكثير من ردود الأفعال..فهل كان هذا مقصودا؟
> لم أتقصّد أو أتكهّن ما عصف بالغلاف من هرطقات ، لكنّني بلا ريب أعددت ملامح ديواني بوعي فنّي قاسٍ فكان الشّرارة الفنّيّة الأولى التّي افترست غابات القرّاء، وأعتقد أنّ الهجوم والإدانة والتّجريح برهان إيجاب على حدوث المسّ السَّيْكوُ - فنّي للقارئ العربيّ فيما يتعلّق بالغلاف وأنّ ما رافق ولادة " النّهديّات" من الضّجيج هو ظاهرة جماليّة صحيّة مطلوبة أكثر منه أصداء لمواقف نقديّة حقيقيّة بنّاءة وهو شهادة على ردّة ورداءة وضمور السّاحة الثّقافيّة المعاصرة فأغلفة مؤلّفاتي افرازات جماليّة متّسقة مع محتوى أعمالي وهي تمرّد "ذو رؤيا" وعصيان لذيذ ومطرقة فنّيّة تفضح ببراعة لا تُغتفر رعاع الثّقفوت وتعرّي سوءات العقول المنافقة والرّاقصين على حبل الأخلاقويّة الكاذبة، وتفتح جرحا جميلا في الفنّ، أغلفة خارجة عن بيوت طاعات النّاشرين وديرهم، وقد كان في مصلحة الشِّعر والشّاعرة أنْ نجحتُ في تحويل المواجهة إلى أرباح مجد القلم وكفّة شهرة الكتاب . وأدعوكم من هذا المنبر الصّحفي الجليل كلّما عنّ لكم قطاف حرْف جديد لي أن تتذكّروا في لعِبكم وجِدّكم واستخفافكم واستهزائكم بحُرمة كاتب أو كتاب بوحَ الشّاعر والرّوائيّ الأمريكي والتْ ويتمان Walt Whitmanحين أضاء ذات تبصّر وإعلاء قائلا " : "أمّا وقدْ مرّ الشّاعر من هنا ، فانظروا وتطلّعوا في أثره ! لم يبق أثر لليأس أو لكراهيّة البشر أو المكر أو للعزلة المنكمشة، ولا أثر سبّة ناشئة عن انحطاط مولد أو لون...تلاشت خدعة جهنّم وتلاشت الحاجة إلى وجودها، وبعد اليوم لن يُحقر أحد لجهله أو لضعفه، أو لإثم اقترفه"

هل ترين أنّ المناخ العام للإبداع الآن مناخ سلفي بعكس الفترات السّابقة التّي كانت زاخرة بالكثير من الحرّيّات سواء كان في العهود القديمة أو الحديثة من القرون الماضية أو العقود الماضية؟
معاينة المناخ العام للإبداع موصولة عموما بالصّراعات والتّجاذبات والتّطوّرات الفكريّة والاجتماعيّة والسّياسيّة لمجتمع ما في حقبة تاريخيّة بعينها وما يستتبع عنها من تأثّر وتأثير وظروف سوسيونفسيةّ عامة وخاصّة وتداعيات ومتغيّرات وانعكاسات على النّتاجات الفنّيّة، وأعتقد أنّه لا يمكن الحديث عن مناخ فنّي سلفي راهن في تناقض مع فترة إبداعيّة قديمة متحررّة بإطلاق وتعويم دون تنزيله تقويميّا في سياقات جغرافيّة – تاريخيّة أنثروبولوجيّة دقيقة الأبعاد تشخّص نسبيّا لون المرحلة الثّقافيّة والحضاريّة لبلد ما ما أو شعب ما أو أمم ما، فطالما كانت معالجة الممارسات الإبداعيّة زمكانيّا مطّردة التّأرحج بين التّنويريّات والظّلاميّات. شِخاصٌ وشِخاصٌ من عصور ورُقع ومشارب علميّة وفنّيّة شتّى أوخِذُوا لخوضهم محظورات القضايا الإنسانيّة ووقعوا تحت مقصلة التّكفيريّات والأخلاقويّات وعَنَتِ الإيديولوجيّات والدّكتاتوريّات فلُوحقوا واتُّهموا بالتّجاوزات وحوسبوا وحوكِمُوا وعوقبوا وقوصصوا بشكل أو بآخر لعدم اتّفاق أو ائتلاف رؤاهم مع سلطة الدّين والمجتمع والدّولة، والتّراث الإنساني زاخر بالوقائع الدّالّة ونماذح العلماء والمفكّرين والأدباء والفنّانين على اختلاف ألسنتهم ودياناتهم وعصورهم الذين جنَحُوا بفنّهم وأفكارهم وأقلامهم وإنجازاتهم إلى المناطق المستكرهة الموصوفة بالمحرّمة والممنوعة فكّلّفها ما كلّفها ثمن انتهاك الخطوط الحمراء وتخطّي الرّقابات، نذكر على سبيل المثال لا الحصر مُصادرة ألف ليلة وليلة والعقد الفريد والأغاني من بعض النّظم العربيّة السّوداويّة وحرق كتب الغزالي وابن رشد والأصفهاني وإعدام الفلكيّ غاليليو من طرف محاكم التفتيش المسيحيّة وخالدته الأليمة المؤلمة "ورغم ذلك فهي تدور" " pourtant elle tourne" وسلخ جلد الفيلسوفة هيباتيا Hypatie وسحلها في الساحات العامة بتهمة الزّندقة والتّي استوحت منها الأديبة التّونسيّة أمينة زريق عنوان روايتها "هيباتيا الأخيرة" وتكفير الفارابي والرّازي وابن سينا وسفك دم الطّبري وابن حيّان وتقطيع أوصال ابن المقفّع وذبح الجعد ابن درهم والسّهرروردي وصلب الحلّاج وقتل الإخوانيين ليوسف وهبي فرج فودة لفكره التحرّري ورشق أبي خليل القبّاني بالبيض والطّماطم من الطّامةّ والعامّة لتشييده مسرحا في نهاية القرن التّاسع عشر بدمشق وعدم تسليمه إذ كان حلمه أوسع من مُعاديه وتطليق الدّكتور حامد أبو زيد من زوجته بإيعاز من الأزهر وتنفيذ أجهزة الدّولة لمحاولته قراءة النّصّ الدّيني وفق المناهج الغربيّة الحديثة ومنع كتاب"الخبز الحافي" " Le pain nu " للكاتب المغربي محمّد شكري لسنوات واعتقال نجيب سرورو وتعذيبه وإدخاله عنوة لمستشفى الأمراض العقليّة لمعارضته ومناوءته للنّظام والسّلطة وطرد فقيدة الإنسانيّة نوال السّعداوي من وزارة الصّحة المصريّة في السّبعينات بسبب كتابها الجريء "المرأة والجنس" وسجنها عام 1981 من قبل السّادات وقذف أناييز نين Anais Nin بالعهر والخروج عن القوانين المسيحيّة الأخلاقية لاشتغالها على تيمة الجنس وقصف إيميل زولا Emile Zola إعلاميّا لكشفه القيم الزّائفة للمجتمع البرجوازي الفرنسي في أثره الأدبيّ " نانا " "Nana "والحكم على الصّحفي والكاتب المصري أحمد ناجي في شبّاط 2016 بالسّجن لسنتين بتهمة "خدش الحياء العام" عن روايته "استخدام الحياة" "Using Life" التّي ذُكر فيها الجنس وتعاطي المخدّرات ومنعه من مغادرة البلاد لفترة ما قبل الافراج عنه بعد ستّة أشهر تحت وابل احتجاج وتضامن محلّي وعربي واسع من إعلاميّين وكتّاب ومثقّفين...واللّائحة تطول وتسرح...ولسائل أن يسأل : لماذا كلّ هذا القمع الوحشيّ والتّقييد الأحمق لحريّات الفكر والتّعبير؟ لماذا يُخشى القلم الحرّ الكاسر للتّابوهات؟! لأنّ النّصّ الجريء في خرقه للمحظور يفضح ويعرّي ويسدّد موقفا إنسانيّا نافذ السّنان والمدى والسّلطان وهو أيضا يستثير وينير ويثوّر العقل البشريّ ببذر وتربية قيم وبُنى ومضامين وطروحات تعبيريّة جماليّة عليا تطهيريّة وترميميّة وتحسينيّة بديلة عن تخلّف الواقع وشوهاته وفظاعاته ومنظومته القيميّة المتآيلة ومن هذه المنصّة الإعلاميّة أنوّه وأذكّر وأحذّر صادحة :لا للاءات مثلّث الدّين والجنس والسّياسة ! الدّستور الأوحد الذّي يجب أن يسوس الخطاب الإنسانيّ وأركّز على الفنّيّ تحديدا هو المعايير القيمِيّة الجماليّة بنويّا، أسلوبيّا، تجسيديّا، سياقيّا، وظائفيّا، نسقّيّا...إلخ. فالأدب يا سادتي حرّيّة أو لا يكون، الأدب الحقيقيّ يولد في إرادة الإنسان والمخالفة والمشادّة وركوب الزّوابع والصّراع على الورق وعلى اسفلت الواقع والحياة، فالفنّان مُناضل حرّ، له نصيبه من المبادرة التّاريخيّة ودوره في التّدمير والتّغيير وإيقاظ الوعي والتّمهيد لخلق عالم بديل، وكما صدح الأديب جبرا إبراهيم جبرا ذات دردشة فنّيّة في كتاب " شخصيّات ومواقف" مع مُحدّثه العراقيّ ماجد السّامرّائي "...أمّا إذا لم تستطع أن تكون رأسا من رؤوس الرّماح التّي تفعل في تغيير العالم، فأنت في الواقع، فنّان فاشل.." لأجل كلّ هذا وذاك لن أسلّم...وسأظلّ أحلم بعالم يموت فيه النّاس من فرط أربع : الحُبّ،الفنّ،الجمال،الحرّيّة.


* هل ترين أنّ النّقّاد الأدبيّين أعطوا الدّيوان حقّه أم أنّهم خشوا الاقتراب منه؟
> الانتقادات الشّائعة التّي وُجّهت لشعري في الأوساط الثّقافيّة العربيّة ، باعتقادي، أخلاقويّة بالأساس وقروسطيّة الرّيح لا تمتّ للفنّ بوجه أو وجاهة ينطبق عليها بيت المتنبّي "ومن يكُ ذا فم مُرِّ مريضِ يجد مُرًّا به العذبَ الزّلالاَ " وهي أقرب في مجملها لزركشات من الانطباعيّات الغبيّة المتسرّعة والآراء العاطفيّة السّاذجة، فمن يهاجمون بشكل فوري وعصبي ومتعصّب وركوبيّ على الحدث ليسوا إلاّ أشباها وقطّاع نصوص ومغلوطين و هم كما ما لقّبهم الفيلسوف والرّوائي والمؤلّف والمسرحيّ جون بول سارتر Jean Paul Sartre "مثقّفون زائفون"، ونجد من بينهم أيضا أولئك الذين يستترون تحت غطاء الحياديّة والموضوعيّة النّقديّة الفكريّة الأكاديميّة ليينصّبوا أنفسهم أوصياء على المبدعين وأدرعا لما يُسمّى بالمنظومة الأخلاقيّة العامّة وما أكثرهم وما أقذرهم وما أدعرهم وما أشبههم ب " كلاب الحراسة " المُنكَّل بهم على شفرة قلم الفيلسوف والمترجم والأديب الفرنسي بول إيف نيزان Paul yves Niza. بل إنّني أكاد أجزم أنّ تعاطي الأغلبيّة النّقديّة السّاحقة مع الدّيوان لم يتجاوز مناطحة الغلاف أو تحسّس قارئ ذكوريّ قصّاب لشريحة ضأن مرغوبة ولا ممكنة، انزعجوا ونُكِحوا لأنّهم لم يعثروا على الفحش الذي وعدتهم به تصوّراتهم وتوقّعاتهم وانتظاراتهم البرنوغرافيّة الفجّة لما تمنّوا أن توحي لهم به كلمة نهد من إسفافات وميوعة وابتذال، ولأنّ الشّاعرة الرّاهبة لم تتعر لهم في النصّ الإيروسيّ عبر المباشرتيّة والسّطحيّة والفجاجة التي كانوا يأملون، ولأنّ شعر السّيّدة واو تطهير وتعميد مكتمل الطّقوس ولأنّ صوري الفوتوغرافيّة الموظّفة في أغلفة دواويني و شرفة بيتي الافتراضيّ الأزرق شوّقتهم ولم تُنلهم، ولأنّهم ويا لوعة الضّاد مُسطّحو العقول. ولأنّ لغتي ويا سعدكم بي أطمعتهم ولم تطعمهم لتحصّنها بقلاع عاتيات من فرائد المجاز، وأنا المناوشةُ في إحدى ومضاتي حيث قُلت :

شكّةٌ طارئةٌ من عطشٍ غريب
هرعَتْ به...
إلى جوزة نهدي
المزحُومة...
بلبن الشِّعر الحُرّ
...
تمزَّزُا يا رُضَعي !
إنّه العالمُ يشُرُّ
في جوانبكم
بالحلاوة...
والدّسامة...
والمجاز _ السِّحر !

كُثُر ممّن توهّموا أنهم عالجوا نقديّا تجربتي يعانون من الأصوليّة أو السّلفيّة النّقديّة الموسومة بالجمود والتحجّر والتّخلّف وقد تسبّبوا من حيث تعمّدوا في تجميد الحقوق النّقديّة للأثر خلف سماجة وسخف وزيف الأحكام السّطحيّة المسبقة فقصّروا عن إيفاء دين الحبر والنّهد المُراق، وكأنّما ردّدت عنّي رؤياي في إحدى ومضاتي حين أشرقتُ :

حلمتُ بأنّهم
سفكوا نهدي
وأمّنوا بدمه
قِبلةً جديدةً للأدب

" الوقوف عند الألفاظ لا يعني الشّيء الكثير، كلّه مماحكات. النّقد هو على الأسس لا على الألفاظ"، هكذا صرّح أدونيس في أحدى البوابّات إلإلكترونيّة، فهل من ناقد ناقش الأسس الفنّيّة لديواني؟ لا أحد ! أين نحن من القارئ النّموذجيّ الذي تحدّث عنه أمبرتو إيكو، يبدو أنّنا في زمن النّموذجيّة فقط في الأخلاقويّات، أفيقوا يا معشر الثّقافة، وحده شَرْعُ الجمال والحرافة والجودة والطلاوة الفنّيّة هو من يمنح العمل الإبداعيّ الاستحقاق والأحقّيّة في أولويّة النّقد والدّراسة والتّحليل. لا بوليس على الأدب ولا حياء في الفنّ ولا ثوابت في الكتابة وها أنذي أزعم فيما أزعم أنّ نهديّات السّيّدة واو هي سبق أدبيّ خطوت فيه من رحم لفظة يتيمة نحو ترسيخ وجود شعريّ مائزٍ طابَعًا وتفرّدا وريادة وأنّني فنّنتُ دلالات النّهد حتّى أضحى رمزًا كونيّا إنسانيّا متعدّدا فردانيَّا منقطع النّظير ممتداّ كأحلام النّاس والأزل والعشق الأخير وهو ما عبّرت عن قبس منه في ما يلي :

نهدي هفهاف
طَلِقٌ...
طَلْقٌ...
مُطْلقٌ...
لايتقطّع...
مثل حرير غيبٍ
حتّى أنّي حِكتُ
من أصواته المُثلى
ملاءةً كونيّةً
للشّعر .

فإلى متى تُقابل" نهديّاتي" بما يشبه الخرس النّقدي، خرس التّواطؤ والجبن والجهل والتّجاهل والإضمار والتّقاعس والكفر بالجمال والتوجّس من الجِدّة والجديد على الحساسيّة الأدبيّة العربيّة، مغامرتي الشّعريّة ليست للتبرير، تجربتي تستدعي وتسترعي التّفحّص والتّحليل والتبصّر في خصوصيّتها وبراعتها الفنّيّة واللّغويّة الدّالّة عليها بأمانة تاريخيّة وفي نزوع نقديّ فعليّ موضوعيّ شفّاف ناجع خالص للفنّ والإنسان وحده. ولتضيفوا إلى سلّة اتّهامي بالغرور الآتي : "نهديّات السّيّدة واو" هي منخل فنّي ميتا - حداثي لاختبار وغربلة النُّقاد " كما سبق ولوّحت جزئيّا في الومضة اللّاحقة :

النّهد الطّافي
على غُمر الميتا _ حداثة :
شِعر السّيّدة واو

لماذا تركت مجال الرّواية إلى الشّعر على الرّغم من أنّنا نعيش عصر الرّواية كما يقول بعض النّقاد؟
بدايتي ككاتبة كانت مع الرّواية و توقّعت أن أبرز في السّاحة الثّقافيّة العربيّة كروائيّة ولم أحلم البتّة أن أصير يوما شاعرة، ربّما لأنّني أهاب القريض وأهله وأتهيّبه والأقرب أنّ الرّواية استلبتني بالكامل وهي من هي اسفنجة كلّ فنون الحياة التّي رأيتُ فيها تحقّقي وتحقيقي لنزوعاتي وصبواتي ومشاريعي الأدبيّة حتّى أنّ مطالعاتي هي بامتياز وبنسبة 90 بالمائة روائيّة (غربيّة مترجمة أكثر منها عربيّة) ولكن على حواشي إنجاز مخطوطاتي الرّوائيّة (شالوم، روتاريا وآية صوفيا) كانت تنفلت منّي كما الدّهشة تدوينات فايسبوكيّة شعريّة عارضة أشبه بلمحات نثريّة بليغة مكثّفة موجزة وانزياحيّة تعاظمت في نموّ (عفويّ في بداياته ثمّ نضيج القصد والوجهة والملامح والرّهانات ) امتدّ بي إلى ما أنا عليه الآن فكان أوّل مواليدي الأدبيّة المنشورة توأمُ كتُبٍ متزامن الخروج من فرن المطبعة مشكّل من رواية " شالوم " ومجموعة شعريّة أولى بعنوان " نهديّات السّيدة واو" بتاريخ يناير 2021 بعيدها بأشهر من نفس السّنة كان الإيذان بوشوك إصدار شطحتي الشّعريّة الثّانية من " نهديّات السّيّدة واو " وما لفّها من رماح وشتائم وترّهات.
أختتم مداخلتي هذه بالرصاصة النّيتشويّة الشّهيرة : " لا أسأل من يحتقرون الجسد أنّ يبدّلوا رأيهم، بل أن يتخلّوا عن أجسادهم " .
" أنا أقول الحقيقة... والحقيقة متوحّشة وخطيرة " كما علّمتني سيّدتي نوال السّعداوي .
قبلاتي.



بوابة نيوز

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى