د. محمد الهادي الطاهري - شرح نص للدكتور شبلي الشميّل ( الواجب في الحقيقة أن تُقال لا أن تُعلَم)

  • النص:
نشرت جريدة الأخبار، منذ مدّة انتقادا جاء فيه تعريض بآرائي وأنها آراء غريبة، فكتبتُ ردّا على ذلك عملا بقولي "الحقيقة أن تُقال لا أن تُعلَم". فإذا كان الخروج عن مألوف الناس ولو إلى الصواب يُعُّد غرابة فآرائي غريبة عن الرأي الغالب بين طوائف الإنس، وأما طوائف الجن فليس لي علم بها وبآرائها، ولكن معنى الغرابة هنا يتناول البُعد عن الصحة أيضا. فآرائي الدينية والاجتماعية والعلمية ليست غريبة عن العلم اليوم، وهي ليست من الآراء الفلسفية التي يتسع مجال التخريج فيها لكل مفكٍّر غير مقيَّد بقيد علميّ، بل هي نتيجة لازمة لأبحاث علمية خارجة من معمل الطبيعي وداخلة في بوتقة الكيماوي وواقعة تحت مشراط المشرح، ولا سبيل للخروج عنها إلا بالوقوع في الغريب. لا يجوز أن تُرمى بالغرابة إلا إذا جاز أن تكون الأحكام الاجتهادية أصدق من الدليل الاختباري والنظر المجرد أصدق من الحسّ. فالناس لا يستغربون التسليم بالعالم غير المنظور، ولو لم يكن عليه أقل دليل علميّ لانطباقه على الرغائب ونحن معهم لو كل ما يتمنى المرء يدركه، ولتمنينا وجودا أفضل خالصا من كل ما يُريب، ولكن العلم الذي نعنيه شيء آخر غير المتمنيات، وهم يشهدون تغيّر نظامات الاجتماع في العصور، ولكن يستغربون المطالبة بهذا التغيير في كل عصر وهو أمر من الغرابة بمكان. فإذا قلنا أن العالم ليس فيه فوق ولا تحت ولا وراء ولا أمام. فليس فيه مادةٌ غريبة أو قوة غريبة تدخل إليه أو تخرج منه، وأن لا فرق في المبدأ ولا في المعاد بين جميع الكائنات من أعلى الإنسان إلى أدنى الجماد، فجميعها في تكوينها من عناصر طبيعية واحدة وتتمشى في أفعالها على نواميس طبيعية واحدة مشتركة بينها جميعا، فأين الغرابة في هذا القول؟ وهل في العلم اليوم ما ينقض ذلك؟ أوليس كل علم يعلِّم غير ذلك أشبه بالتخرص منه اليوم بالعلم؟

آراء الدكتور شبلي الشميّل، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012. ص- ص: 6 – 10


  • تمهيد:
ولد شبلي الشميّل سنة 1850 وتوفيّ سنة 1917. وهو كاتب لبناني الأصل تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم توجّه إلى باريس لدراسة الطب، ثم استقر في مصر. أصدر مجلة (الشفاء) سنة 1886م، وكان أوّل من أدخل نظريات شارل داروين إلى العالم العربي من خلال كتاباته في مجلّة المقتطف[1]، ثم في كتابه (فلسفة النشوء والارتقاء). كما أصدر هو وسلامة موسى صحيفة المستقبل الأسبوعية سنة 1914. نشر أفكاره العلمية المستوحاة أساسا من علوم الطبّ والحياة ووظّفها للكشف عمّا في الأفكار الدينية حول الحياة والكون من بعد عن الحقيقة العلميّة، ودافع عن العلمانية واعتبرها نظاما سياسيّا يستلزم الفصل بين الدين والحياة السياسية لأنّ الدين في اعتقاده كان عاملا من عوامل الفرقة بخلاف العلمانية التي تعتبر في رأيه نظاما لضمان الوحدة الاجتماعية. وقد لقيت أفكاره الدينية والاجتماعية انتقادا كبيرا في الجرائد والمجلات العربيّة المشهورة وقتها، وهو ما دفعه إلى الردّ على خصومه المعترضين على أفكاره في سلسلة مقالات جمعها بعد ذلك في كتيّب بعنوان (آراء الدكتور شبلي الشميّل).

مكوّنات النصّ:

يتألّف هذا النصّ، وفق معيار الإجمال والتفصيل، من مقطعين اثنين. أمّا المقطع الأوّل فينتهي عند قوله "الحقيقة أن تُقال لا أن تُعلَم"، وفيه إشارة مجملة إلى ردّ حرّره الكاتب على من انتقد آراءه المنشورة في مجلّة المقتطف، وهي، على ما يبدو من مضامين الأثر الذي أخذ منه هذا النص، آراء في الدين والمجتمع. أمّا المقطع الثاني فيتمثّل في بقيّة النص وفيه يشرع الكاتب في عرض ردّه على خصومه الذين اتهموا آراءه بالغرابة.

الشرح التفصيلي:

المقطع الأوّل: يتضمّن هذا المقطع على ما فيه من إجمال فكرتين رئيسيّتين تلخّصان السياق الثقافي العام الذي ظهر فيه كتاب "آراء الدكتور شبلي الشميّل". أمّا الفكرة الأولى فهي التي جعلناها عنوانا للنصّ، وأمّا الثانية فهي المعلومة التي ذكرها الكاتب عن جريدة الأخبار وما نشرته عنه.

وردت في المقطع الأوّل جملة اخترناها عنوانا لهذا النصّ لما فيها من اختزال كثيف يجعلها أقرب إلى الشعار منها إلى مجرّد جملة خبريّة. فقوله "الحقيقة أن تُقال لا أن تُعلَم" إعلان صريح عن مبدأٍ يؤمن به الكاتب ويسعى إلى تطبيقه في حياته وهو ضرورة إفشاء الحقيقة والصدع بها وعدم الاكتفاء بمعرفتها. إنّ هذا الشعار الذي يرفعه الكاتب ويصدّر به ردّه على خصومه يلخّص في اعتقادنا موقف شبلي الشميّل من الثقافة العربية الإسلامية عموما ومن الشعار الذي رفعه الإمام الغزالي منذ قرون وهو "إلجام العوامّ عن علم الكلام". شعاران متضادّان، أحدهما يدعو إلى حجب الحقيقة عن الناس وهو شعار الغزالي وغيره من علماء الدين القدامى الذين قصروا الحقيقة على العارفين وأقصوا عموم الناس من الخوض في الأسرار. والثاني شعار يدعو إلى إفشاء الحقيقة والصدع بها لعموم الناس وهو شعار الكاتب. وبين الشعارين أيضا تضادّ ثان، فالأوّل متعلّق بالحقائق والأسرار الدينية أمّا الثاني فيتعلّق بالحقائق والأسرار العلميّة. ومن هذا التضادّ المركّب نلمح المسافة الفاصلة بين العقل الدينيّ والعقل العلميّ في علاقتهما بالحقيقة. وحين يختار العقل العلميّ إذاعة الحقيقة وإشاعتها بين الناس على ما فيها من الغريب يكون قد اختار أن يكون للمعرفة العلمية فعل في أذهان الناس وفي سلوكهم وفي علاقة بعضهم ببعض وهو ما يمنح المعرفة العلمية بعدا عمليّا ويجعلها قادرة على الرقيّ بالإنسان.

إنّ هذا الاختيار الذي ذهب إليه الكاتب يبدو واضحا في إشارته الصريحة إلى أثر آرائه العلمية حول الدين والمجتمع في النّاس، والدليل على ذلك أنّ الجرائد باتت منصّات للنقاش في مواضيع علميّة وفكريّة. فجريدة المقتطف تنشر من ناحيتها أفكار شبلي الشميّل فيقرؤها النّاس، وجريدة الأخبار تنشر من الناحية الأخرى أفكار المعترضين عليه وتنتقد آراءه. والحاصل من ذلك حركة فكريّة وجدل ثقافي بين تيّارين اثنين، تيّار يناصر المعرفة العلمية ويعمل على نشرها وتيّار يهاجم هذه المعرفة العلميّة ويتّهمها بالغرابة. ورغم تباين الأفكار وتباعد المواقف فالمستفيد قطعا هو المجتمع لما سيخلّفه هذا النقاش الحادّ من آثار إيجابية في عقول الناس أقلّها أن يطّلعوا على ما يدور بين المثقّفين من سجالات فكريّة وأن يستفيدوا ممّا كان في الماضي محجوبا عنهم لا يغادر صفحات الكتب أو مجالس العلماء.

لنا أن نستخلص من هاتين الفكرتين أطروحة النصّ وهي المضمّنة في قوله " تعريض بآرائي وأنها آراء غريبة". والمهمّ في هذه العبارة أنّها تختزل موقف المعترضين على الكاتب وتلخّصه في نعت آرائه بالغرابة مطلقا دون تفصيل لمعنى هذه الغرابة ووجوهها، ودون تخصيص رأي بعينه من آراء شبلي الشميّل. وبهذا تكون أطروحة النص مبنيّة على فكرة الغرابة عموما، وهو ما سيدفع الكاتب في المقطع الثاني إلى مناقشة هذه الفكرة وسبل التعامل معها.

اقترنت بنصّ الأطروحة المضمّنة في سياق الحديث عمّا نشرته جريدة الأخبار جملة خبريّة يعلمنا الكاتب فيها بالردّ على أصحاب هذه الأطروحة. ويظهر ذلك في قوله "فكتبتُ ردّا على ذلك". ومن هذا الخبر الثاني تكون أطروحة النصّ أطروحة مدحوضة وهو ما يعني أنّ النصّ مخصّص لدحض أقوال من اعترض على آرائه ونعتها بالغرابة.

المقطع الثاني: إذا اعتبرنا المقطع الأوّل، على ما فيه من إجمال، مقطعا يتضمّن في الوقت نفسه تصريحا بأطروحة الخصم وهي اعتبار آراء الكاتب في الدين والمجتمع آراء غريبة، وإعلاما بالردّ على هذه الأطروحة، يكون المقطع الثاني باعتباره تفصيلا لمجملات المقطع الأوّل كشفا عنّ الردّ الذي نشره الكاتب لدحض أطروحة الخصوم. وهو من هذه الزاوية مقطع يتضمّن ما يسمّى في النص الحجاجي سيرورة الحجاج. فكيف دحض الكاتب هذه الأطروحة؟


عقد الكاتب ردّه على فكرة الغرابة في ذاتها، فأعاد بناءها من منظور مختلف يتّسع لأكثر من معنى. وفي هذا الإطار، قدّم للغرابة معنيين اثنين وهما الخروج عن المألوف والابتعاد عن الصّحّة. أمّا الغرابة باعتبارها خروجا عن المألوف فأمر يقبله الكاتب ويرضاه نعتا لأفكاره، بل هو يفتخر بأن توصف أفكاره بالغرابة لأنّ ذلك يعني أنّها أفكار جديدة ولا عهد للناس بها. خطوة أولى لامتصاص المعنى السلبيّ المودع في لفظ الغرابة واستبداله بمعنى إيجابيّ يسحب البساط من خصم كان يعتقد أن لفظ الغرابة الذي أطلقه على أفكار الكاتب سيربكه ويزعزع ثقته في نفسه. ولكنّ الكاتب عكس الهجوم عليه بتبنّي هذا النعت والاعتزاز به. وقد اختار الكاتب أن يفتتح دحض الأطروحة بهذا الأسلوب في الردّ التزاما بخطّة في الحجاج مبنيّة على التدرّج في تفكيك معنى الغرابة من الإجمال إلى التفصيل. فغرابة الأفكار إجمالا ليست نقيصة ولا هي عيب، بل هي أقرب إلى الحسنة منها إلى السيّئة. أمّا الغرابة تفصيلا فتحتمل أن تكون حسنة كما تحتمل أن تكون سيّئة خصوصا إذا كان المقصود بها ابتعادا عن الصحّة. هنا، يستبدل الكاتب في الردّ على الخصم أسلوب الإثبات(فآرائي غريبة ) بأسلوب النفي (ليست غريبة عن العلم، ليست من الآراء الفلسفية) . وبالانتقال من الإثبات إلى النفي تنتقل نبرة الخطاب من الرخاوة بما فيها من معاني القدرة على استيعاب الهجوم المسلّط عليه، إلى الشدّة بما فيها من معاني القوّة في بناء هجوم معاكس. لقد صوّر آراءه الدينية والاجتماعية أوّلا في صورة الآراء الغريبة الخارجة عن المألوف وقلب المعنى المذموم إلى معنى محمود، ثم مضى ليصحّح هذا المعنى الملتبس ويعيد بناءه على أسس علميّة دقيقة بعد أن كان معنى مجملا. ولكن، ما هي هذه الأسس العلميّة؟ وبأي معيار يقيس الكاتب الغرابة؟

ينفي الكاتب أن تكون آراؤه غريبة عن العلم، وينفي في الوقت نفسه أن تكون آراء فلسفيّة. نفيان يعقب الواحد منهما الآخر لرسم المسافة الفاصلة بين التفكير العلميّ والتفكير الفلسفي. أمّا التفلسف فهو كما يقول مجال لتخريج الأفكار دون قيد. وهذا وصف لا يشمل الفلسفة بإطلاق والأرجح أنّ الكاتب يعني مذهبا في الفلسفة مخصوصا وهو الفلسفة الميتافيزيقية المنشغلة بالتفكير في ما وراء الطبيعة. وأمّا التفكير العلمي فصيغة في التفكير مبنيّة على قواعد لخّصها الكاتب في سلسلة ألفاظ تعبّر عن تأثّره البليغ بالفلسفة الوضعية العلميّة (معمل الطبيعي، بوتقة الكيمياوي، مشراط المشرح). وبهذا تكون الفلسفة تهويما في عوالم خياليّة وتأمّلات ذاتية لا صلة لها بالواقع المحسوس، أمّا التفكير العلمي فنظر في الطبيعة وتجريب وتشريح وتحليل. ينفي الكاتب أن تكون أفكاره فلسفية وينسبها إلى العلم، وهي إذن بعيدة عن الأحكام الاجتهادية، وعن كلّ تأويل أو فهم على أساس غير علميّ. وبهذا تتّضح المسافة بين العلم والفلسفة وتتّضح معها المسافة بين الكاتب وخصومه. مسافة تضمن له النأي بنفسه عن أن تكون في مرمى الخصوم فلا يستطيعون إليه سبيلا، بل هي المسافة الفكريّة التي سمحت له بالفصل بين عقلين متضادّين يعملان بطريقتين متمايزتين، تتجلّيان في التقابل الذي يجريه الكاتب بين الدليل الاختباري والحسّ من ناحية، والحكم الاجتهادي والنظر المجرّد من ناحية أخرى. وليس القصد من هذا التقابل مجرّد الفصل بين الميتافيزيقا والعلم بل هو تقابل يعبّر عن تفاضل ويقدّم العلم على الميتافيزيقا، فهو الأصدق والأقرب إلى الحقيقة.

تأتي، بعد هذه الحركة الذهنيّة المتمثّلة في تدقيق معنى الغرابة بوجهيه المجمل والمفصّل وفي تمييز التفلسف من العلم، حركة نفسيّة يشتبك فيها الفخر بالعلم والهزء بالجهل. ويظهر ذلك بوضوح في تلك المقارنة الطويلة بين هويّتين مختلفين، هويّة أولى يعبّر عنها ضمير الغائب الجمع المذكّر العائد على الناس(هم) تقابلها هويّة أخرى يعبّر عنها ضمير المتكلّم الجمع (نحن). كان الكاتب في بداية النص يتحدّث عن نفسه بضمير المتكلّم المفرد واقترن ذلك بتلقّي صفة الغرابة من الخصوم وتعديلها وتدقيق معناها. وحين بات يتكلّم بصيغة الجمع انقلب الأمر فردّ الغرابة على خصومه. هويّتان متناقضتان تتبادلان الاتهام بالغرابة ولكل منهما تأويل لمعنى الغريب. فالخصوم يرون في أفكار الكاتب غرابة لأنها في تقديرهم خرجت عن المألوف، والكاتب يرى في أفكارهم غرابة أخرى فهم يؤمنون بوجود عالم غيبيّ مأهول بالجنّ والملائكة والآلهة والجنة والجحيم دون دليل على ذلك، وهم يرون الحياة تتبدّل وتتغيّر ولكنّهم يرفضون كلّ دعوة إلى التغيير والتجديد.

ورغم ما بين هاتين الهويّتين من تصادم وتباعد، نلمس في النص نزعة إلى التقريب بينهما تظهر بالخصوص في تلك النقطة المشتركة بينهما وهي الأمل في إدراك ما يحلم به الناس ويتمنون وجوده وهو العالم الأمثل النقيّ من كلّ شرّ. حلم يجعله الكاتب مشتركا بينه وبين خصومه لمدّ جسور التواصل بينهما كي لا تنشأ الفرقة ولا يكون الشقاق، وتجنّبا للاقتتال والحرب بين الطرفين. وعلى هذا النحو، يكون الحجاج حوارا وتواصلا وأخذا وردّا بما في ذلك كلّه من علامات التنازل والتفاعل والتقارب.

انتهى النصّ بجملة شرطية تجاوزت الحدّ في الطول، وكان جواب الشرط فيها سلسلة من الاستفهامات كلّها بمعنى الخبر نفيا أو إثباتا لا بمعنى الاستخبار، فقوله "أين الغرابة في هذا القول؟" يفيد النفي أي لا غرابة، وكذلك قوله "وهل في العلم اليوم ما ينقض ذلك؟" بمعنى ليس وهو نفي أيضا. أما الاستفهام الأخير المقترن بالنفي فقد أفاد الإثبات. لقد كان بإمكان الكاتب أن يعبّر عن نفي ما نفاه وإثبات ما أثبته بأسلوب الخبر ولكنّه استبدل الخبر بالإنشاء لتلطيف نبرة الخبر ونزع ما يعلق به من مشاعر الغلظة والقسوة وكسوته بكساء الرقة والمرونة، وهذا كلّه داخل في سياق التقريب لا التبعيد وفي إطار الوصل لا الفصل. مرّة أخرى يكون الحجاج مدّا لجسور التواصل بين المختلفين وإن تباعدوا في الأفكار والآراء.

التقييم:

يمكن اعتبار هذا النصّ أقرب إلى الخطابة منه إلى الجدل لغلبة النزعة البيانيّة عليه وانعدام الحجج بمختلف مرجعياتها النصيّة والواقعيّة والعقليّة. فقد عوّل الكاتب في الردّ على خصومه على الكثير من الأساليب اللغويّة ولم يذكر دليلا واحدا على ما في أطروحة الخصم من مفاسد، وراهن في المقابل على تصويب معنى الغرابة وضبط مقاييسه.

نفسّر هذه النزعة إلى الخطابة والبيان بدل الجدل والبرهان بالموقع الذي يحتلّه النصّ في الأثر كلّه، فهو بمنزلة الافتتاحيّة أو المقدّمة التي صدّر بها الكاتب رسالته في الردّ على خصومه. ومن المعلوم أنّ الافتتاحيات أو المقدّمات مخصّصة في الغالب لبيان الاتجاه الفكريّ العامّ الذي سيسلكه الكاتب في تحرير رسالته.


خصّص الكاتب هذا البيان الافتتاحي للتعريف بالمعنى المراد من لفظ الغرابة ومقاييسه، فميّز بين استعمالين اثنين لهذا اللفظ وهما الاستعمال العام (الغرابة خروج عن المألوف) والاستعمال الخاص (الغرابة ابتعاد عن الصحّة). واستنتج من هذين الاستعمالين أنّ آراءه الدينية والاجتماعية غريبة إذا كان المراد خروجا عن المألوف، وليست غريبة إذا كان المراد ابتعادا عن الصحّة.

أدّى تدقيق معنى الغرابة بالكاتب إلى نزع هذه الصفة عن آرائه وإلصاقها بآراء الخصوم في سياق خطّة حجاجية مبنيّة على ثنائيات الإجمال والتفصيل والإثبات والنفي والهجوم وردّ الهجوم، هدفها الرئيسيّ تمييز المنظور الدينيّ التقليديّ من المنظور العلميّ الحديث والحثّ على الانشغال بالعالم الذي نعيش فيه بدل الانشغال بعوالم غيبيّة لا يمكن إدراك حقيقتها.

يعكس النصّ جانبا ممّا اتسمت به الحياة الفكريّة في العالم العربي في أواخر القرن التاسع عشر حيث كان الصراع محتدما بين تيّار محافظ متمسّك بالرؤية الدينية للعالم وتيّار تجديديّ يدعو إلى استبدال هذه الرؤية التقليدية برؤية علميّة. وقد تجاوز هذا الصراع حدود المجالس الفكريّة وبات على صلة مباشرة بعموم الناس عبر صفحات الجرائد ووسائل الإعلام المتاحة في ذلك العصر.


حرص الكاتب، رغم العلاقة الفكريّة المتوتّرة بينه وبين خصومه، على مدّ جسور التواصل بين الفريقين. وفي هذا دليل على أنّ الاختلاف في الرأي لا يعني بالضرورة أن يكون المختلفون أعداء لبعضهم البعض. بل إن اختلافهم علامة على سعيهم جميعا إلى تحقيق حلم واحد وهو أن يعيش الإنسان في عالم أفضل خالص من كلّ ما يريب.






[HR][/HR]
[1] مجلة علمية ظهرت سنة 1876 بلبنان ثم انتقلت بعد تسع سنوات إلى مصر، كان يديرها يعقوب صرّوف بالاشتراك مع الكاتب الصحفي اللبناني فارس نمر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى