كرم الصباغ - نشيد الطير

في ساحة الجرن الفسيح نثروا سنابل الشعير على بساط الخيش، و انهمكوا في توزيع العيدان المثقلة بالحبوب على المساحات الفارغة؛ كي تأخذ نصيبها من شمس الربيع الساطعة. يقبل على ظهر حماره بوجه بهي، و جلباب بني رث، و عمامة بيضاء. يشبه لون شاربه و لحيته القصيرة المنمقة، لون سحابة ناصعة، و يضفي عليه شيبه وقارا فوق الوقار.
يدنو من أبنائه المكللين بالعرق؛ فينتصب ثلاثتهم كالرماح. يبادرهم بالسلام، و يشير إليهم؛ فيعودون إلى أغنية الشمس و الشعير. يداعب الأرض بخطوات وئيدة، تناسب عمر عجوز، يتكئ منذ سنوات على عصا. تحت شجرة (الجزورين) المتاخمة للنخلة العتيقة يجلس، و يكتفي بمراقبة أبنائه بعينيه الطيبتين. لقد اكتسى الحقل و الجرن برداء من الأنس بمجرد وصول عمي (عبد الودود) إلى المكان؛ فقد كان طيبا يعشق الخضرة، و الضياء؛ فأحبته الزروع، و الشمس، و السماء.
(٢)
صغارا كنا، نسعى إليه ضحى، نصافحه ضاحكين؛ فيجبر خواطرنا بعسل محياه الرطيب. نشخص بأبصارنا إلى الجريد المتراقص في الرحاب الأزرق المنير؛ فيأذن لنا بقذف نخلته السامقة بالأحجار. يتساقط البلح الشهي فوق رءوسنا؛ فنستقبل الثمار بلهفة و ابتهاج، كما تستقبل العصافير زخات المطر.
يمد يديه إلى جرابه، و يخرج أرغفة العيش (الرحالي)، و قطع الجبن (القريش)، و حزم البصل الأخضر. يتقاسم معنا الزاد. يطلب إلينا جمع الحطب، يشعل النار، ويدس براده الفضي في ركية الجمر، و يوزع علينا أكواب الشاي، الواحد تلو الآخر، يخاطب كل منا باسمه؛ فهو يحفظ أسماءنا، و أعمارنا، و لم تخنه الذاكرة قط.
نحبه من أعماق قلوبنا. يصغي إلى أحاديثنا، و لا تفارق الابتسامة وجهه. نمل الكلام و الثرثرة، و نشتهي كلامه؛ فيفيض علينا بسحر حكاياته. في حضرته تسبح أرواحنا في فلك الصفاء، و على يديه نتهجى حروف الحب الرائق.
يصبر بأناة حكيم، و إذا ما شبعنا من اللهو، يشير إلينا؛ فنصطف أمامه، و نتهيأ لبدء درسه اليومي. يبدأ في الترتيل، يسحرنا صوته العذب؛ فتدمع أعيننا، و نردد خلفه بحماس. تغمر السكينة المكان، و تدنو الطيور من رأسه، تصغي إليه، و ترتد إلى الفضاء أكثر خفة، يتمايل جريد النخلة دون أن تمسه الريح، و ترتخي أغصان ( الجزورين)؛ لتستقبل النور الصاعد من ثغره، و تنتبه الأعشاب من حولنا، و تنصت إليه بخشوع.
مع آذان الظهر يطلب إلينا الوضوء من الجدول المنساب على يمين الحقل. يؤمنا في الصلاة، ثم يودعنا، و يركب حماره، و يهم بالعودة إلى داره؛ ليخلد إلى قيلولته الهادئة. نشيعه بأعين دامعة، و نتلهف إلى ميلاد يوم جديد؛ كي نلاقه.
(٣)
تدخل امرأة عمي ( عبد الودود) الغرفة؛ لتوقظه لصلاة العصر؛ فترى رجالا في ثياب بيضاء، و عمائم خضراء. تسمعهم يمدون الصوت بكلمة : هو، و تشم عطرا فواحا و بخورا، يملأن أرجاء الغرفة. تدقق البصر المشدوه؛ فتبصر كرسيا يغشاه النور، يجلس عليه الزوج الحاني بأبهة أمير. تعتريها الرجفة، و تفلت يدها كوب الشاي. يختلط الأمر عليها؛ فلا تجزم من أول وهلة بصدق المشهد؛ ترى العجوز قد ارتد إلى نضير شبابه. تفكر في استدعاء الأبناء، تهم بالخروج؛ فيباغتها الموكب، و يشتعل الطرق، و التسبيح. يغادر الزوج كرسيه، ينضم إلى أصحابه، يتمايل كمداح محموم. تتقدم الزوجة، و تمد يديها؛ لتصل إليه؛ فتعود يداها فارغتين، لا تصيبان سوى نفحات العطر، و شيئا من دخان، و بخور.
ترى نافذة الغرفة تتسع شيئا، فشيئا، حتى يصير عرضها عرض جدار. كل شيء يدعو إلى الدهشة، و الزوجة تودع بعينين دامعتين موكبا، يخرج الآن بسلام من أحضان الغرفة المشدوهة إلى براح مبهور.
(٤)
قال الرائي للسامع: كان لرجال الموكب أجنحة، تشبه جناحي العم الحاني. و الأجنحة البيضاء حلقت في فضاء شاسع، و الموكب وصل سريعا إلى حقل الشعير المحصود. و هناك دار العم بجناحيه حول النخلة و الشجرة؛ فبدأ العرس، و سرعان ما صعد الموكب إلى تخوم سماء علوية.
و لما طلب السامع دليلا على صدق الرؤية، أجاب الرائي بقوله: ثمة شهود على هذا العرس: نخلة منهمكة في الذكر، و طير بارع في الترديد، و صغار اعتادوا اللهو بعد العصر على جسور الحقول الممتدة، يومها أبصروا العم الحاني يرقى بعيدا؛ فعشش في قلوبهم حنين جارف إلى لقياه، و استبد بهم الشوق إلى سحر حكاياته، و إلى عذوبة صوته، و إلى ترتيله المتوضئ بالنور.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى