غازي الذيبة - "أرجوان".. يا قريني الغائب (1)

منذ شهور، أعيش حالة يباب مرهق. أصابعي تيبست، لم تعد القصيدة تركض إليّ، وكلما حاولتها، أشعر بأني أغتصب الكلمات والمعاني اغتصابا. فما الذي حدث؟

عادة أكتب بعد غيمة من الكآبة والمرض. والتسمم من التدخين. أكتب بعد شحنة ناسفة من القراءة في كل شيء، حد أنني أذهب إلى قراءة المعادلات الرياضية، ليس من باب عشقي لها، فأنا لا أحب الرياضات، برغم تفوقي الماضي فيها، بل من باب تحفيز خلايا الدماغ على العمل في كل الأوقات.

وغالبا ما يكون صديقي "أرجوان"، قريني المقيم في عالم الجن، ابن جوري سوريانا، الشاعر الذي بلغ من العمر أكثر من سبعة آلاف عام، هو من يجلس معي على طاولة الكتابة، لكنني بت افتقده هذه الأيام، ولم يعد يزورني في غرفة كتبي التي ناءت بها رفوف المكتبة.

فما الذي حدث يا "أرجوان"؟

أين تقضي أيامك بعيدا عني يا قريني؟

حين حدثت أصدقائي عنك، ابتسموا، لم يصدقوا أن لي قرينا من الجن يحمل هذا الاسم اللطيف والجميل. احتجوا على تسميتي لك بوردة لا يمكن إلا أن تفوح بشذاها على العشاق والمجانين، ولم يحتجوا على وجودك الأبدي إلى جانبي، تنبض بكل حرف أتلعثم به، أو أخطه، أو أتخيله في كلمة، أو أسرقه من ثوب أمي، وندهاتها عليّ. قالوا لي "أرجوان".. اسم يمكنه أن يتعلق بقميص امرأة جميلة، بضحكة طفل قبض على الكرة بيديه، وفر بها من الملعب، بينما يطارده رفاقه لاستعادتها، لكنه طار راكضا بعيدا عنهم، ليحظى بنصره الجميل.

كيف تطلق على قرينك الجني مثل هذه التسمية أيها الغاضب، المشحون بقنبلة ناسفة، تتك كل يوم، منبهة إياك إلى رغبتها الهائلة بالانفجار. لا، أرجوان، اسم لا يليق بحياة شاعر، ينام وهو يضع موقت قنبلته قرب رأسه، لا، دعك من اللون الذي حلمت ذات ضربة موسيقية حماسية في أغنية عن الأوطان، بأنه سيجمعك مع حبيبتك، مع لهفتك لمقاتلة العدو، لتكتشف بعيد أن تباطأ نبضك لبرهة، بأن العدو يقف على باب بيتك، ويقيس ارتفاع درجة حرارتك كل يوم، متخوفا من أن تصاب بالحريق، فتشعل الأخضر واليابس في عالم، بات فيه الأعداء فينا، أكثر من الاعداء الذين يتربصون بنا خارجنا.

دعك من أرجوانك هذا، اتركه يتسكع في حديقة ورود، يحتسي الشاي مع حبيبته أرجوانة، ولا تتلف خلايا دماغه بمعادلاتك الشعرية، وأحلامك بوطن ينام صغاره ممتلئو البطون، ونساؤه مبتهجات بملامسات أزواجهن اللطيفة لهن. دعك منه، فأنت مسكون بمعارك ضارية، تريد فيها تنظيف عالمك من القتلة واللصوص وباعة الأوطان، وسارقي قوت اليتامى، والمعتدين على كرامة جنونك في عشق سهول القمح والكروم والبساتين. أنت مستوحش، قاتم، لا نعرف كيف انجذب أرجوان إليك، وطوّعته ليغدو قرينك، يجلب لك الكلمات من قاع الدست، أو من سقف السماء، قبل أن تخطر على ذهنك، فيضعها على الورق أمام عينيك، وأنت فقط، تحرك أصابعك بغبطة المشدوه، لتقبض عليها كي لا تطير منك.

هل ما تزال موجودا الآن، وفي أي قارة أو كوكب أنت يا "أرجوان"؟

حين كنت أحبو على تراب مسطبة منزلنا في مخيم عين السلطان، رأيته لأول مرة. كان يقف قريبا من غريفة أبي، يحمل وردة صغيرة من سهول "أريحو"، وضعها أمامي، لا أعرف لم شدتني رائحة الوردة الطيبة، وشددت قواي كلها لأسرِّع في الزحف نحوها والإمساك بها.

سمعتني جدتي وأنا أناغي شيئا لا يرى.

سمعتني أمي وأنا أبكي على شيء لا تراه.

حكت المرأتان لأبي ما رأتاه من الحفيد والابن، حين عاد بأثقاله مرهقا من عمله في شق الطرقات والدروب للحالمين بفتح نوافذ العالم على الحب والجمال والحياة.

لم يأبه لهما، وقرأ بضعة آيات من القرآن، بعد أن وضع يده على رأسي، ومضى بعد أن تثاءبت، مطمئنا إلى أنه بعث سكينة روحه في طفله الذي كان يدرب القلق على المضي في نبضه.

لكن "أرجوان" كان يراقب المشهد كله، وأنا كنت ابتسم له، حتى أن أمي رأتني أضحك، وأقهقه لشي لم تره، فأصيبت بالذعر. طفل لم يتقن الحبو بعد، ويقهقه، تلك، قد تكون معجزة، أو مصيبة، مُسَّ بها ابنها بالجنون. لم تكن تعرف بأن غضبا ما ينمو في داخل طفلها الغريب، سيحمله على كتفيه بعد سنوات من الشقاء والقتال في جبال المعنى، قنبلة موقوتة، قد تنفجر في أي لحظة بوجه طاغية أو كذاب أو مخادع، أو خائن للأحلام.

يقول جدي، إنه حين حملني ونحن نعبر "الشريعة" بعد هزيمة العرب في حربهم مع صديقهم الذي سموه عدوا عام 1967، أنه رأى رجلا كهلا غريبا يحرسني، ولكن شدة ضوء الحرائق لم تتح له رؤية ملامحه بوضوح. كان يسير بجانبه، وكلما أحس بالتعب، كان الكهل يتناولني منه، ويسير محاذيا له. حتى أن قذيقة مجنونة قفزت قربنا، لكنها لم تنفجر، وحين بحث عن الكهل، كان قد توارى أو اختفى، أو أن الارض انشقت وابتلعته.

لم أكن قد رأيت أرجوان كهلا في أي مرة من لقاءاتي به. دائما، كان يظهر لي بأناقة مدهشة، حتى أنني في مرات من عمري الكثير، سألته: من أين تحصل على هذه الملابس الفاخرة التي ترتديها. لم يأبه لسؤالي ذاك، فقط، كان يطلب مني أن أكون أنيقا فيما أهجس به، ودودا مع الكلمات، مع أنفاسها، أهدهد أرواحها بحنو ولطف، تلك، قال، هي الأناقة.

اليوم، استرجعت الحادثة، كنت في الثانية من العمر تقريبا. رأيته حينها بوضوح كامل، كان يرافقني في نزوحي، يتبادل مع جدي حَملي، ليعبرا بي "الشريعة"، ولم أعرف لليوم، لماذا يخطر في بال الجد أن يسأله من هو. كنت أشعر بامتنان له، فيما كل الأطفال الذين كان يحملهم آباؤهم أو أمهاتهم في تلك المألمة، يضجون بالبكاء، ألا أنا، فقد كنت أقهقه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى