د. علي خليفة - مسرحية "في انتظار جودو" للكاتب الأيرلندي صمويل بيكيت «1989 - 1906»

تعد مسرحية "في انتظار جودو" من أهم المسرحيات في العصر الحديث،
بل إن هناك من النقاد من عدها أهم مسرحية كتبت في القرن العشرين، وكان لهذه المسرحية لصمويل بيكيت، ومسرحية "المغنية الصلعاء" ليونسكو أثر كبير في انتشار تيار مسرح العبث في العالم كله، وتَأَثَّرِ كثير من الكتاب بأسلوب يونسكو وبيكيت في مسرح العبث، وكذلك كانت هذه المسرحية من أسباب فوز صمويل بيكيت بجائزة نوبل، وقد كتب بيكيت هذه المسرحية بعد الحرب العالمية الثانية أولاً: باللغة الفرنسية، ثم ترجمها للغته الأم، وهي اللغة الإنجليزية.
وحين ننظر لأسلوب بناء هذه المسرحية فإننا نراها تتكون من فصلين، وتجري أحداثها في منظر ثابت هو أرض جرداء تدل على الفراغ، وفيها شجرة ليس لها إلا نحو أربع ورقات، وقد استدل بطلا هذه المسرحية – وهما فلاديمير واستراجون – على المكان الذي واعدهما جودو بأن يلتقي معهما فيه بهذه الشجرة؛ لأنه لا يوجد شجرة أخرى في ذلك المكان.
وعدد الشخصيات محدود في هذه المسرحية، فبها أربع شخصيات أساسية، وشخصية ثانوية، وهي رسول جودو الذي يرسله لفلاديمير واستراجون؛ ليواصلا انتظارهما له في ذلك المكان ليوم تالٍ، ثم لأيام تالية.
وهذا البناء الشكلي لهذه المسرحية يتفق مع المسرح الكلاسيكي القديم في قلة شخوصه، وثبات المنظر فيه، ولكنه اتفاق ليس الغرض منه المحاكاة والتقليد، بل إنه اتفاق الغرض منه الهدم، فهذه الشخصيات القليلة لا توجد أبعاد واضحة لها، وهي لا تنمو مع المسرحية، وكذلك يبدو هذا المكان الثابت
في المسرح يؤكد الفراغ الذي رأيناه في الشخصيات بها، فهو مكان مقفر،
به شجرة غريبة، وكأنها قد وضعت في غير مكانها، كما أن شخصيات هذه المسرحية قد أتت عالمًا غريبًا لا تدري ما تفعل فيه غير أن تثرثر بكلام لا رابط بينه، وتشعر بالملل والفراغ، وترغب في أن تتخلص من حياتها بالانتحار لولا أنها بهذا الانتحار ستكون قد اتخذت قرارًا، وهو ما تعجز عن فعله؛ لأنها لا تجيد
– كما قلت – غير الثرثرة بحديث غير مترابط.
وهذا الحديث غير المترابط الذي تنساق إليه الشخصيتان الرئيستان
في المسرحية يدل على الجرأة على المقدس، ويدل أيضًا على فراغ العقل؛
حتى ليبدو هذا الحديث أقرب للهذيان.
وربما كان الشيء الذي يجعلهما يشعران ببعض الحيوية في حياتهما هو أنهما ينتظران حضور شخص، هو جودو الذي لا نعرف عنه شيئًا، ولا ندري لماذا ينتظرانه؟! ولا نتوقع أنه سيغير شيئًا في حياتهما العابثة الخاوية من المعنى، ولكن فعل الانتظار هو الذي يجعلهما يشعران أن هناك ما يمكنهما فعله، وهو يعني مرور الزمن عليهما؛ وترقب غائب قال: إنه سيجيء، وأرسل رسوله ليؤكد مجيئه، ولكنه لا يأتي، وتنتهي المسرحية وهو لا يأتي، ولا يصاب فلاديمير وصاحبه استراجون بضيق من هذا، بل هما يتعايشان مع هذا الوضع، ولعل ذلك الانتظار الذي لا يحمل أي معنى؛ لأنه انتظار لغائب لا يأتي – يتوافق مع حياتهما التي تمضي في أحداث تافهة وتفتقد هي أيضًا للمعنى.
أما عن بوزو الشخص العنيف الذي يجعجع كثيرًا وتابعه لاكي – فهما يقدمان عرضًا وحشيًّا يقسو فيه بوزو على لاكي الذي يقوده من عنقه ويضربه بسوطه، ويكلفه بحمل حاجياته. ويستمتع فلاديمير واستراجون بمشاهدة هذا العرض الوحشي؛ لأنهما يجدان فيه ترفيهًا يشغل وقتهما.
ولا شك أن بيكيت يلمح لهذا بأن الإنسان الذي يعيش حياته في هذا العصر بلا هدف يجد سعادته في مشاهدة مشاهد العنف ومشاهد التخريب،
لا سيما تلك التي تنتج عن الحروب.
وبوزو شخص بلا عقل، ويعبر عن نفسه بسوطه أكثر من تعبيره عنها بالكلام، ولاكي تابع ذليل، وحين يطلب إليه أن يفكر يتكلم كلامًا أجوف، ولكنه يستحسن من هؤلاء الأشخاص الذين لا يستطيعون القيام بأي شيء حقيقي له معنى وهدف في الحياة.
وقد حار النقاد في المقصود بجودو في هذه المسرحية، فرأى البعض أنه الموت، ورأى آخرون أنه الخلاص الإنساني، ورأى غيرهم أنه الزمن. وأعتقد أن بيكيت قصد بجودو في هذه المسرحية الوهم الذي يجعلنا نتمسك بالحياة، وندرك أنه وهم، ولكن لا حياة لنا بدونه؛ لنتمسك بالحياة، ولنواصل العيش فيها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى