كنانة عيسى - الحلم المعاصر المقنن.. دراسة نقدية في نص "ذرة ملح" للأديبة صديقة علي

النص


ذرَّةُ ملحٍ...
صديقة علي

لطالما سحرتني الشاشة الفضية، هذا البهاء في العتمة، والإضاءة التي تكشف بريق العيون، تلك الرهبة بالصوت، والجمال بنجوم السينما، حتى الرائحة الرطبة التي تتنسم مع الإشعاع البهي، تنفصل عمَّن حولك وعن ضوء النهار.
لم يخطر ببالي أن وجهي سيحتلّ الشاشة يوما، فوجئت باختيار المخرج الذي وقع عليَّ، لتمثيل دور قصير في فيلم، زميلاتي أسموه (كومبارس)، وأنا أحلم بأنه دور البطولة، قرأتُ الغيرة والاستنكار في عيونهنَّ، شعرت بنشوة انتصار، لاسيما أنني لا أملك مقومات الممثلة، لكني اعتبرتها ضربة حظ، وحلقتْ طموحاتي، قد أصبح فاتن حمامة.
أدور أمام المرآة وأواسي نفسي؛ مدرب خاص وبرنامج غذائي، ومع الرياضة قد أصبح برشاقة وشهرة سلمى المصري،لم تترك أمي صديقة أو جارة، إلا ودعتها لمشاهدة الفيلم الذي ستظهر فيه ابنتها، إحدى جاراتنا عبّرت بطريقة مريبة: (وما عليه، وجهها كالبدر لِمَ لا يختارونها؟)، أبي اعترض؛ لكن أمام فرحتي بالتمثيل تراجع وفي عينيه نظرة تردّد وقلق، وتمنيت له أن يحضر العرض الأول؛ لكنه رفض.
سألت أمي: هل أدعو زميلاتي؟، بحماس شديد، أجابت:
- طبعا، ذرّي الملح في عيونهنَّ.
دعوتُهنَّ تشفِّيا بهنَّ؛ وحضرنَ على مضض.
بصعوبة أجلس على مقعدي في أول صفّ، وأغرق بضجيج قلبي، وأنا أنتظر وجهي أن يحتلّ الشاشة، مضى معظم الفيلم كقطار يمشي على أعصابي، لم أستطع متابعة أحداثه بدقة؛ فلهفة انتظاري طغت على كل وعي لديَّ؛ لكني التقطت فكرته، وآهٍ، كم تُلامس وجداني! ولولا أنني بانتظار ظهوري، لبكيت، وبكيت، كان كل شيء مائعا، السيولة عنوان المشهد، وجوه كالشمع المذاب، وأحجار باتت كالطين المنجرف بعصف طوفان، الساعات المعلقة على الجسور تقاطرت عقاربها كخيوط جبن في فرن حامٍ، كل شيء يشي بالحرارة إلّا الصقيع في مفاصلي، لا حرارة تخرجه، بل ارتجافه يضجّ في أذني؛ وأخيرا ظهرتُ والكاميرا تلاحقني، تمسح كثبان وتلال وانخماصات جسدي المرتجّ بخطواتي المتسارعة، وأدركتُ لحظتها لِمَ أعاد المخرج تصوير المشهد مرات عدة، يحثّني على السير في طريق خالٍ من البشر، مُحاط بالأشجار، وتابعتْ عيناي المعلقتان على الشاشة بحثهما عنّي، ولم يظهر وجهي البدر، وقلبي يتسارع نبضه كطبول الحرب، يضرب في رأسي...
ظهرتْ لي فتاتان تراقبانني من خلف جذع شجرة و تضحكان، ثم تكملان حديثهما عن الموضة والأزياء، ويلحق بي شابّ يمضغ علكة ويتمتم بكلام لم أسمعه، كل ما سمعته قهقهات شرخت العتمة وقلبي، آه، لو أصير ذرة ملح ملقاة على رصيف ليل ممطر!.
صديقة علي 6/2022
الحلم المعاصر المقنن
هل يمكن للمعاناة الذاتية النفسية التي قد تبدو ليس بامتداد وثقل القضايا الكبرى أن تأخذ نصيبها من الإضاءة السردية ، ولا سيما إن كانت تتحدث عن شخصية أنثوية شابة يحاصرها حلم كبير ويخنقها جسد بمعايير مختلفة لا يمكنها الهروب منه، يحاكمها المجتمع المعاصر الرقمي ما بعد الحداثي بكل عناصره، وتصوغه لغة العولمة
المقننة بزاوية واحدة، زاوية تسليع المرأة ضمن مفهوم واحد. المرأة السلعة التي تأتي بمواصفات معينة.
مستحيلة التحقق إلا في ظروف يعرفها مشاهير الفن السابع كما أرادتنا الساردة أن نشاركها مأزقها النفسي وخيبتها المتحققة رغم الوصول.
معاناة الأنثى وإشكالية الجسد
يبدأ الاستهلال واثقًا انسيابياً ،يقدّم لنا شخصية الساردة الشابة المتمحورة حول شغفها الذي يتحول لحلم، ثم يتمادى لسباق نفسي بينها وبين أقرانها حين تتفرد بامتياز القبول غير قادرة على إدراك عمق الفخ الذي حفرتها لنفسها.، (الممثلة الشابة ذات الوجه الجميل)، التي لا تمتلك مقومات الجمال الجسدي لكنها رغم ذلك أثبتت جدارتها. باختيار... سندرك فيه عاجلًا أم آجلاً أنّها جدارة آنية
تعاكس مفهوم تسليع المرأة الشائع وتقوضه، فالمطلوب هنا (شخصية ثانوية بدينة) تم تضليلها لتلعب دورًا محددا هو نقيض السائد المرغوب في اغلفة المجلات وبرامج الواقع و جنون عوالم التواصل الاجتماعي الملأى بالجنون. والذي يسوّق الأنثى للآخر بدون اعتبارية للإنسان /ةالذي يرتدي الجسد
استخدمت الكاتبة مفهوم الانحلال والذوبان والتمزق البطيء، لتصور لنا معاناة الطفلة/ المرأة، التي توشك على تحقيق حلمها بمشقة من لا يثق بما هو عليه، إنه الخوف والترقب واللاثقة،إنه الشعور العائم بأن الحلم رغم تحققه في الواقع، سيبقى حلماً، كلوحات (سلفادور دالي السريالية الرمزية) التي تذوب مشهديتها أمام الحاجز العقلي للإنسان المعاصر، بين الوهم والتحقق وبين الواقع والوهم.
وكما ورد في النص
كان كل شيء مائعا، السيولة عنوان المشهد
الساعات المعلقة على الجسور تقاطرت عقاربها كخيوط جبن في فرن حامٍ،
ذرة الملح (تناقض الرمز واستخدامه)
لم العنوان المثير للدهشة؟ استخدمت الكاتبة رمز الملح الذي ارتبط
بالاساطير المدنية وخرافات الموروث المجتمعي، فقط لخلق المفارقة بين الملح الذي ارتبط بطرد الحسد و تطهير الأماكن الممسوسة وتحصين البيوت ضد الأرواح الشريرة وبين مفهوم الذوبان في بوتقة العام وفقدان الخصوصية الذاتية الأنثوية في معايير نمذجتها وسائل التسليع والتخصيص، إلى أن تنقلنا بسلاسة مذهلة لنهاية مؤلمة، وهي رغبتها بالذوبان والتلاشي والعدم كذرة الملح. حين يسقط حلم الإنجاز الشخصي في فخ الإخفاق وخيبة التوقعات.
تماهي الاستاذة صديقة أدب العالم النخبوي الذي لا يخلو من الطزاجة مثل رواية باولو كويلو (الرابح يبقى وحيدًا) التي تتحدث عن عوالم عارضات الأزياء الموبوء ومشكلة قبول الجسد و قلم ايزابيل اليندي الحي في روايتها(قصة حب)
حين تتحدث عن معاندة جسدها للموضة السائدة التي تقلم مفهوم الانوثة وربطها بالإغراء والموائمة و
ومعايير العولمة التي لا تستقر على حقبة معينة من ستينيات القرن الماضي في تصاعد متناقض بين رمز المرأة المغرية وبين الهيبية الناكرة للجسد،إلى آخر ما فرزه العالم المتأجج لجنون عارضات الأزياء المصابات بأمراض عصابية نفسية لا تنتهي، حين يكون الحل في حب الذات ولا شيء سواه.
تبقى( ذرة الملح) كما أرادتها الكاتبة المبدعة معادلًا موضوعيًا مستحدثًا للإخفاق الشخصي في عالم فقد هوية الفرد َليرتدي هوية المجتمع المسلّع. .
إذهال...

كنانة عيسى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى