طلعت قديح - ركوة "الحدائق المعلقة"

تسمو الكلمات بسموّ مطلقيها، فإن وجدت في كينونة الكلمات متاعا أنيقا وبهجة حقيقية؛ فإنك ستحس بأنها لم تكن مجرد حُبيبات ألقيت في أرض لإثارة التفات، بل لأنها في مكان يصلح لإنبات مستحق.
"كأني حدائق بابل" كتاب خطّ بعين الابتهاج الذي يرافق طيف روح شخصية الشاعرة "فاتن مصاروة"، وبعيدا عن مفهوم تأليف الشعر أو اصطناعه؛ نرى أنها تنتقل بين أوتار حرفها بيسر وتأن، دونما إخراج المكوّن العام لمسار شعرها الهادئ عن الخط الكتابي المرسوم له؛ فإن هذا النسق المائل في تركيبته للاستكانة ماثل البيان، إلا أن هناك تشظيات إبداعية وحقيقية في التصوير الفني لكينونة الكلم المتوازن ما بين السهل وبين اقتداره، الذي ينفض رتابة السياق إن وُجد.

"لعينيك نخل الكلام
إذا جدًت بالصمت لحنا"
لعل المبتدأ في رسم القصيد، يلفت انتباهنا إلى التصوير الفني للصورة المجازية في البوح، وتقع فورة المجاز في تعبير "نخل الكلام" وتقع فيها احتمالات متعددة، ما بين رقي المعنى واستعلاء اللفظ في كينونة الشعور الذي رغم سقفه المتطاول؛ فإنه لم يكن خادشا أو مستفزا من الناحية التركيبية، علما أن الشاعرة رفعت من سقف التصوير ثم أعطت للجواب مواءمة بإكمال الصورة بنغم موسيقي، ليس من باب التصنع بل لأن هناك سلاسة ترافق الصورة بناء على ما سبق من تمهيد.
يصار دفق الشعور في انسيابية ولادات الكلم عند "فاتن مصاروة" إلى رسم اللوحة بطريقة الرشق اللافت؛ فخطّها البياني يكوّن مسارا أفقيا وفجأة يتعالى بشدة الإيقاع الطولي دونما تمهيد استباقي، ومن ذلك:

"قبضت على بحة أرقي الغريق
لتطرزك عطشا من بكاء الأسئلة"
"أيلول تاه ولم يعد
إلا على عرش ارتباكات العناق لحلمنا"
"هل في الخيال غواية أشهى من الفرح المبلل باعتناقك الهوى؟"
"جرعة عطر في وجع الوردة
وغضاضة جرح منسي وسط الطوفان"
"وتقشر جمر عناقك في روحي ودقا"
وكما الرشق اللافت فإن كلم "فاتن مصاروة"؛ يتولد في بدء صهيل الكلمات؛ اعتلاء متقافز، وكأن المدار الصوتي يكون حاضرا في معظم ما نقرؤه، بشكل متفاوت وأحيانا متقطع، فنرى مثلا:

"اخلع نحيبك من دوالي الروح
فالدمع الشهي مكحل
بالنار يصعد في انكسار القلب
في أبد الجوى
واحمل جنونك شاهقا بالأغنيات
.
.
واسكب تورد ياسمينك في ارتعاش العطر
حتى جذوة الأشواق في أرض الهوى
فالياسمين غواية الشغف المصفى بالتمائم
حتى يقترب الحفيف ويبتعد
.
.
واكتمل في نبضة تروي الفصول بما تقول وما تعد"
"فقل للخريف رأيت ضياعك حين تضيق"
"ليكفكف الحمر الغريق سرى بموّال ارتحالك في الصدى
ويضيء بالسهد المسجى في المدى"
وفي بعض الأفق تحاول الشاعر خلخلة المجاز بإحلال توصيفات مطروقة في استجداد جميل للمعنى، ومن ذلك:

"تئن الرياح على عتبات مراياي
كالجرح فوق الصهيل"
محلقا المعنى في استنطاق صورة "الصهيل" بمواربة ذهنية لصورة " الملح على الجرح" فكأن تطويع المعنى بمخالفة اللفظ هو امتداد للفكرة الواحدة خلف سُتر متعددة، فأعمل الاستنتاج "الجرح" من صورة "الملح على الجرح" وترك مسار المعنى يتطاول ليصل لنقطة الخروج "الولادة المجازية" وهي (الصهيل).
ولعل بعض ما لفت انتباهي هو تعدد استخدام لفظ "النبوي" في "الحبق النبوي" "قنديله النبوي" "الفرح النبوي" "البسمة النبوية" "دموع الأنبياء"، فهل هي تنويعات ترتقي لجو من رؤى نفسية للشاعرة؟
وما صوت زغاريدها إلا رفائف تعلو كرعد يتناول من برقه صهلات بدمع ذاكرة واشتياق بيان من رذاذ.

بقلم: طلعت قديح
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى