منصف سلطاني - قرية دون عنوان ...خلب ناظريه ص

...خلب ناظريه صفح الماء الزّلال بالقنّينة البلّورية وقد تضاءل علوُّه فيها الى مايقارب مِلء كوب واحد .تراقص الماء الفاتر كلّما تحرّكت طاولة المقهى العتيق وقد كوت جلدها أعقاب السّجائر .واستقرّت بقلبها مِرمدة نُحاسية شكا الزّمن صمودها بوجهه ..تعود عيناه إلى كتلة الماء ..آه من الماء . كلّ حياتنا مشدودة إليه شدّا. مذ ولدنا ونحن نسعى بين الظّمإ والسّقاء.
لمعت بذهن الصّبيّ صورٌ للماء عديدة بألوان شتّى : فهو الزّلال البلّوري في قَلْتٍ صخريٍّ وقد غادر للتّو معينه وهو الجعفر يحتفر سبيله بعد أن اجتمع القَطرُ وضاقت به تجويفة الأرض. فيبحث له عن سبيل يسلكها نحو المنحدر ليلتقي نظائره وقد اصفارّت بعد أن خالطتها هباءات الأتربة وسالت بالقشّ والعُشبات المقلوعة وبعض المحاصيل والحشرات المنكوبة والحيوانات النّافقة والثّمر الذي هانت وشائجه على أمّهاته. فأطلقته للسّيول توجّهه أنّى شاءت .. ويذكر ماء البحير الأجاج يحضر كلّما كانت الغيمات سخيّة ليغيب في سنوات الإمحال والجدب. فتفقد الطيور والضفادع وحشرات الماء مقاصدها ومخازن شَبَعِهَا وأطر حياتها ولهوها ويجفُّ البحير من أطرافه فيتفجّرُ وجه الأرض مقاسم كالرُّكبة المكشوطة يتطاير جلدها وتسمع له هَسيسا تحت الأقدام الماشية وتجفّ الضفادع فتُضحي كما ورقات إسودَّ لونها بعد أن فقدت كلّ بثرات الماء ويصبح البحير أرضا مهجورة إلا من نبتات بريّة شوكية عنيدة يحلو قطافها لألسنة الإبل ومشافرها .
أمّا حين تقرب الينابيع أبارا كانت أم عيونا، فإنّك تُلفي نَقْعات ماء آسنٍ وقد مال لونُها إلى زُرقة يشوبها سوادٌ. ماأن تعفسه أخفاف العِير وحوافر الدّواب وفراسن الشّياه حتّى تشرد منه ظلالة من النّاموس والباعوض والوشواش. وتطفقَ كُريّات عَكِرة تفُوح منها روائح عطِنَة وتُخضّب الأرجل بطين رماديّ مَشوب بزُرقة وسواد يتّقيه الرُّعيان. فلا يعبرون إلاّ بعد أن يُفحّجوا أرجلهم. وتتتالى على شفاههم البسملات مخافة ساكني الرّوض الآسن من الجنّ.
للصبيّ علاقة وثيقة بالماء. فهو ميّال إلى دلقه على نفسه وعلى النّاس سواءً بسواء. ورغم أنّ الماء كان عزيزا إلاّ أنّه كان يسعى إلى الاغتسال أكثر من أهله. وحين تُجمِعُ الآراء على ذلك، فقد كان السبّاق إلى الأحواض والجِرار والبرّادات والآبار والعيون والفسقيات.. إلّا أنّ حرصه على تبذير الماء لم يكن بأكثر من حرصه على وُروده. وقد كانت سبيله إليه تتراوح بين زنبيل به جرّتين على ظهر أتان للاستعمال الخاصّ أو برميل تجرُّه أتان. فتتدحرج الاسطوانة خلفها وقد أمسك هو بحبل تأمين خلفيتيْ الأتان من أن يهجم عليهما البرميل ذات مُنحدر.
ولعلّ أمتع السُّبُل عنده الصّهريج تجرّه الفرس الشهباء. فيعتلي سفح البئر، يملأ الدّلو ويصبّه في جوف صهريج لايشبع.. فتُنوّرُ عند منطلق أصابعه بُثرات من أثر الحبل القاسي. ويظل رغم ذلك مغتبطا لا يألمُ ..كيف لا؟ وهو سيبيع صهريج الماء الأجاج بثماني مائة ملّيم، أمّا الماء العذب فصهريجه لقاء دينار ونصف دينار. وتتكثّف أحلام الثّروة برأس الفتى الغرّ. فيُحصي أموالا ما كسبها بعدُ ويحرص كلّ الحرص على إخفائها كما يُخفي البخيل كنزه وهو ما أمسك شيئا منها بعد. ويفخر كلّ الفخر كلّما حلّ بحيّ يقود فرسه بخيلاء. فهو السّاقي المهمّ وهو السّائس الحاذق لشؤون الخيل وعربة الصّهريج حتى يفتح حنفيته في الفسقية المقصودة وقد رحّب به أهلها وبسمت له شفاه النّسوة وشعر أنّه رجل بين الرّجال، ينهض بمهمّة خطيرة هي السّقاء. فظلّ يستمدّ أهميته من أهمية الماء. وكاد ينافس على صغر سنّه العم الصّادق ببغلته الشخماء والعمّ بوعوّاج بحصانه الكُميت العدّاء. وتظل به رغبة أن يُنافس هؤلاء وغيرهم من أصحاب الصّهاريج العُظمى تجرّها جرارات الستاير، كذاك الذي يركبه السيّد بالجيلاني وبوجمعة سائق جرّار الصّادق بن سعد .. وقعت السّيجارة من يده فانتبه من غفوته وصبّ مابقي في القنّينة بكأس زجاجيّ يشربه انتقاما من غُلّة العطش ولفح أوِسُّو...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى