أبووردة السعدني - السلطان عبدالحميد الثاني بين انقلابين (3)

مدحت باشا المفترى عليه :

... كان مدحت باشا قد تولى عددا من المناصب الوزارية ، ثم أوكل إليه منصب الصدر الأعظم في 31 يوليو سنة 1872م ، غير أنه لم يلبث أن عزل بعد أقل من ثلاثة أشهر في 19 أكتوبر من السنة نفسها ، وذلك لمطالبته السلطان عبدالعزيز الأول بالحد من الإسراف والاقتراض من الدول الأجنبية ، وتطبيق النظام الدستوري في الدولة العثمانية ، إنقاذا لها من السقوط بسبب الضغوط الأجنبية ، غير أن السلطان عبدالعزيز لم يصغ لتلك المطالب ، وتمادى في الاقتراض من الخارج والخضوع للضغوط الأوربية ، فرأى " العثمانيون الجدد " ، وعلى رأسهم مدحت باشا ، أن لا مناص من خلع السلطان عبدالعزيز الأول ، وتولية ابن أخيه " الأمير مراد" سلطانا ، وفقا لقاعدة ولاية الأرشد من آل عثمان ...
... تمت إجراءات عزل السلطان عبدالعزيز الأول وجلوس السلطان مراد الخامس على عرش الدولة العثمانية في الثلاثين من شهر مايو سنة 1876م ، غير أن انتحار السلطان المعزول - بمقراض قطع به شرايين يديه - ، زاد من وطأة اضطراب مراد الخامس العقلي ، فقرر الأطباء أن حالته العقلية لا تسمح له بولاية أمر المسلمين ، ويجدر بنا مناقشة الفرية التي يرددها كثير من المؤرخين ، من أن السلطان مراد الخامس كان ماسونيا ، وضالعا مع مدحت باشا في قتل السلطان عبدالعزيز ، فلو كان الأمر كذلك ما أقدم مدحت باشا ومجموعة العثمانيين الجدد على عزله ، لأنه سيكون " دمية " يحركونها أنى شاؤوا ...!!..
....أجمع رأي العثمانيين الجدد على عرض عرش السلطة العثمانية على الأمير عبدالحميد وفق شروطهم ، فإن وافق عليها عينوه سلطانا ، وإن رفضها سيعينون أخاه " الأمير رشاد " ، فلما عرض الأمر على عبدالحميد وافق دون تردد ، وكانت الشروط تتلخص في الآتي :
1- إعلان الدستور عقب بيعته سلطانا على الدولة العثمانية وخليفة للمسلمين .
2- أن لا ينفرد برأيه في إدارة شؤون الدولة .
.وافق عبدالحميد على شروطهم ، ووعدهم بتوسيع النظام الدستوري أكثر مما يطلبون ، وأنه سيتخلى عن العرش حين يبرأ أخوه السلطان مراد الخامس من مرضه ....
... وهكذا تربع السلطان عبدالحميد الثاني على عرش الدولة العثمانية في الأول من شهر سبتمبر سنة 1876م ، فأقيمت الاحتفالات الشائقة التي حضرها الوزراء والأعيان والقناصل وكبار رجال الدولة ، وشكر عبدالحميد الثاني الحضور ، قائلا :
أشكركم جميعا ، ولا أريد شيئا غير تقدم دولتنا ، وراحة رعايانا ، وسترون من أعمالنا ما يؤيد رغبتنا في الإصلاح ....
... اتخذ السلطان عبدالحميد الثاني أولى خطوات الوفاء بوعوده ، فأصدر " فرمانا " بتعيين مدحت باشا " صدرا أعظم " في التاسع عشر من شهر ديسمبر سنة 1876م ، ثم كانت الخطوة الأخرى التي تمثلت في إصدار خط همايوني بالقانون الأساسي "الدستور " ، في الرايع والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1876م ، الذي قال عنه : " إن الأمة لن تتخلص من مشاكلها المستعصية إلا بتطبيقه " ، فأقيمت الاحتفالات وعلقت الزينات ابتهاجا بتلك المناسبة ، وجرت الاستعدادت لإجراء الانتخابات النيابية ...
....لكن سرعان ما أسفر السلطان عبدالحميد الثاني عن حقيقته ، وأظهر ما كان يخفيه ، فلقد نكص على عقبيه ، واتخذ عدة إجراءات تعد ردة صاعقة لكل وعوده ، منها :
1-عين الرافضين للدستور في الوظائف الكبري في " المابين "- أي : ديوان السلطان - مخلفا بذلك وعده لمدحت باشا بتعيين الشاعر العثماني الكبير " نامق كمال " - توفي في سجون عبدالحميد سنة 1888م - " باشكاتبا للمابين " ، أي رئيسا للمابين ، وتعيين الأديب والسياسي المرموق " ضياء باشا " - توفي سنة ١٨٨٠م - مستشارا في المابين ...!!...
2- فوجيء مدحت باشا - في الخامس من شهر فبراير سنة 1877م - باستدعائه إلى المابين ، وتجريده من " خاتم الصدارة " - يطلق عليه " مهر الوكالة " - ، أي عزله من منصب الصدر الأعظم ، ولم يمض على تعيينه أقل من شهرين ، كما فوجيء بفرمان نفيه إلى أوربا ، وتم ترحيله على ظهر سفينة - أعدت لذلك - دون أن يودع أسرته ...!!...
... وقد قيل في تفسير سبب عزله ونفيه : أنه : متآمر على الدولة ، يسعى إلى قلب نظام الحكم ، وإعادة السلطان مراد الخامس إلى عرش الدولة العثمانية ...!!...
3- أجريت الانتخابات البرلمانية ، وعقدت أولى جلسات " مجلس المبعوثان " ، في شهر مارس 1877م ، لكن سرعان ما انقلب السلطان عبدالحميد الثاني على الحياة النيابية ، فأقدم على فض مجلس " المبعوثان " وتعليق العمل بالدستور في الرابع عشر من شهر فبراير سنة 1877م ، واعتقال أعضائه الرافضين لفرمان السلطان ، ونفيهم إلى خارج البلاد ..!!.
.... وهكذا عادت الدولة العثمانية إلى الحكم المطلق المستبد ...!!....
.... وقد قيل في تفسير انقلاب السلطان عبدالحميد الثاني على مدحت باشا تفسيرات عدة ، منها :
أنه ماسوني من أصل يهودي ، أو : أنه من يهود الدونمة ...
ومنها : أنه مفرط في شرب الخمر ، وسمع ذات مرة - في حالة سكره - يردد " آل مدحت بدلا من آل عثمان " ، أي أنه يتآمر لقلب نظام الحكم وتحويل الدولة العثمانية إلى " جمهورية " يكون رئيسا لها ، على الرغم من أن مواد الدستور - الذي وضعه مدحت باشا ورفاقه - تنص على " أن إدارة شؤون الدولة يجب أن تكون تحت رئاسة واحد من آل عثمان ، ومجموع رعايا الدولة العثمانية يسمون ب " العثمانيين " ، وقد تولى كبر تلك الشائعات روسيا القيصرية ، عن طريق سفيرها ، ضابط المخابرات الجنرال " إغناتيف " ، كما روجها الملتفون من المستشارين حول السلطان عبدالحميد الثاني ، حفاظا على مواقعهم ومكاسبهم ...!!...
..... كان وقع العزل والنفي شديد الألم والحسرة على مدحت باشا ، فلقد سعى إلى إنقاذ الدولة العثمانية وتحديثها مع البقاء على العرش العثماني ، في الوقت الذي يتمسك فيه عبدالحميد بالسلطة المطلقة ويطارد المستنيرين من رعيته ، ورغم مرارة النفي و حرقة فراق الأهل والديار ، تذرع مدحت باشا بالصبر والحنكة السياسية ، فلم تدفعه عداوة سلطانه له إلى الوقوف ضد مصالح دولته ، بل كان ينتقل من بلد إلى بلد آخر ، في قارة أوربا ، مدافعا عن الدولة العثمانية في المحافل السياسية والثقافية ، ويبدو أن السلطان عبدالحميد الثاني تخوف من تواصل مدحت باشا بالعثمانيين المعادين لعبدالحميد في أوربا ، فأصدر " فرمانا " بالعفو عنه وتعيينه واليا على سوريا سنة 1879م ، فشمر مدحت باشا - كما هو ديدنه - عن ساعد الجد ، ونهض بولاية سوريا زراعيا وتجاريا وتعليميا ، ووقف في وجه " التغريب" الفرنسي في بلاد الشام ، الأمر الذي أدى إلى تعلق الشاميين به ، حتى أشيع أنه سيستقل بولاية سوريا عن الدولة العثمانية ، فصدر فرمان بنقله إلى ولاية " أزمير" سنة 1880م ، رغم أنه طلب إعفاءه من منصبه لشيخوخته ، وفي " أزمير " كانت مؤامرة السلطان عبدالحميد الثاني لاعتقاله سنة 1881م، فلما شعر مدحت باشا بالخطر الذي يتهدده بادر بالهرب إلى القنصلية الفرنسية ، وقيل إن السلطات العثمانية طلبته من القنصل الفرنسي الذي رفض تسليمه ، فجرت مفاوضات بين الدولتين ، انتهت بتسليم فرنسا مدحت باشا للدولة العثمانية مقابل موافقة الأخيرة على احتلال فرنسا لتونس ، " وتم الأمر ، واشترت الدولة رجلا واحدا بمملكة ، فما أغلى قيمة الرجال عندها ..!!.." ...
... اقتيد مدحت باشا إلى العاصمة العثمانية ، حيث أقيمت له محاكمة مصطنعة ، بتهمة الضلوع في قتل السلطان عبدالعزيز الأول ، تلك القضية التي مر عليها خمس سنوات تقريبا وأكد الأطباء والشهود انتحاره ، قضت المحكمة بإعدام مدحت باشا وعدد آخر من رفاقه ، ثم خفف الحكم إلى السجن المؤبد ، وحمل مدحت باشا إلى بلاد الحجاز ، حيث سجن في قلعة مدينة " الطائف " ، يقاسي الخسف والتنكيل من جلاديه ، إلى أن أرسل عبدالحميد الثاني ضابطا كبيرا ، قتله خنقا ، وقيل قبض على " أنثييه " حتى فاضت روحه إلى بارئها ، وأرسلت " جمجمته " إلى عبدالحميد الثاني لتهدأ نفسه سنة 1883م ، وأشاعوا أنه مات بمرض السرطان ...!!...
... واذا كان الشيء بالشيء يذكر ، فإن " هواجس " السلطان عبدالحميد الثاني من التآمر عليه لعزله ، دفعته لوأد كل محاولات الإصلاح التي ظهرت في الدولة العثمانية ، فإلى جانب موافقته على الاحتلال الفرنسي لتونس مقابل تسليم مدحت باشا ، وقف عبدالحميد ضد الزعيم المصري " أحمد عرابي " ، بناء على تقارير مزورة رفعها إليه مندوبوه في مصر ، فأصدر " فرمانا " بعصيان أحمد عرابي ، وهذا يعني موافقته على احتلال بريطانيا لمصر ، والأدهى والأمر ، ما يذكره واحد من المعاصرين ، أن مفاوضات جرت بين الدولة العثمانية وبريطانيا للجلاء عن مصر ، انتهت إلى " اتفاق " وقعته ملكة بريطانيا ، بينما رفض عبدالحميد الثاني التوقيع عليه ، لتدخل بطانته ، وإقناعه بضرر بنود ذلك الاتفاق ...!!....
... أيضا : موقفه من خير الدين باشا التونسي ، وهو من دعاة الإصلاح في العالم الإسلامي في العصر الحديث ، فلقد هرب الرجل إلى عاصمة الخلافة العثمانية ، لينجو من بطش " باي " تونس - أي : حاكم تونس - ، فأكرم عبدالحميد وفادته ، وعينه " صدرا أعظم " للدولة العثمانية سنة 1878م ، ثم قلب له ظهر المجن ، بسبب وشاية حاشيته ، فآثر " التونسي الانسحاب ، واعتزل في منزله منكبا على كتبه إلى أن وافاه أجله سنة 1890م ..!!....
...ثم - أخيرا - موقفه من المصلح الديني والسياسي والاجتماعي ، جمال الدين الأفغاني ، الذي جاب العالم شرقا وغربا ، وأقض مضجع بريطانيا العظمى بقلمه ولسانه ، فطاردته حيثما حل ، وأينما ارتحل ، استدعاه السلطان عبدالحميد الثاني لتدعيم حكمه بالمناداة بالجامعة الإسلامية ، غير أن شياطين عبدالحميد الثاني ، و كبيرهم أبو الهدى الصيادي ، وسوسوا في صدره وساوس جعلته يأمر " عيونه " بمراقبة حركاته وسكناته ، فضيقوا عليه أشد التضييق ، إلى أن لحق بالرفيق الأعلى في العاصمة العثمانية سنة 1897م ، وقيل : مات مسموما ...!!...
***************
.... ظل شبح مدحت باشا جاثما على صدر عبدالحميد الثاني ، يذكره بعدائه للمنادين بإصلاح الدولة العثمانية ، حتى أوشكت أنفاسه على التوقف ، لولا بكاء ولده - الأمير محمد عابد - الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره ، يتضور جوعا ، لعدم وجود طعام في سجن " قصر علاتيني " ، يمسك رمقه ...!!.....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى