د. سيد شعبان - الذي فقد ذاكرته!

أمسكت بقلمي الذي هجرته زمنا؛ بي حنين إليه، لعل شيئا ما يدفعني، تبدو السماء مثقلة بالغيم؛ من بعيد رأيته يترنح في مشيته؛ يحمل عباءة الزمن؛ أسرعت لأحتضنه، ترى ما الذي جاء به؟
إنه يشبه أبي!
ذلك الوجه غزته التجاعيد!
بدأ يسرد حكايته؛ تركوه وحيدا؛ يطول ليله وتتراقص عقارب الساعة في رتابة الموت.
لم أشأ أن أقاطعه؛ فالكبار ذاكرتهم معتلة.
طويت الورقة التي أصيبت بنزف القلم؛ ينكت الأرض بعصاه؛ خطوط متعرجة؛ غير أن واحدا منها أطول من غيره؛ أخذت أتبعه بعيني؛ يشير به إلى جهة ما؛ أدركت أنه توقف عند نقطة البداية، هذه فرصة لكي أسأله؛ به وهن شديد؛ يتلفت كل ناحية، ينظر إلى قرص الشمس؛ يترقب طائرا؛ أعتقد بأنه ينتظر سقوط المطر؛ أخبرني:
في بلاد بعيدة رعد وبرق؛ حملان تفر مذعورة؛ قريبا من بلاد الثلج تتساقط الحمم؛ يمنعون حبوب القمح أن تأكلها الأطفال!
في حرص أخذ يسرد أيامه؛ علمته التجارب التي مرت به أن يكون حذرا؛ ثمة من يتربصون بطيبي القلوب؛ أشار إلى مكان يقف عند مفترق طرقه رجل يرتدي معطفا رماديا؛ سألته:
هل يراقبك؟
-إنه يحصي عدد أوراق الأشجار التي تقف عليها العصافير!
تبين لي فيما بعد أنه يعاني من اعتلال الذاكرة.
في غير توقع انصرف مسرعا؛ أخذ يتحدث إلى الرجل الواقف عند مفترق المكان؛ يضحكان تبينت هذا حين أمعنت النظر إليهما؛ يتبادلان التحية؛ ثم يتعانقان؛ حدث هذا مرة تلو الأخرى؛ أدركت أنهما يتشابهان في كثير من الملامح؛ رغم كبر السن إلا أنهما بدوا كأنما هما في براءة الطفولة؛ الرجل الذي كان معي يخرج شطيرة خبز ومن ثم يتقاسمانها؛ يمد الآخر يده بقطعة حلوى تطاير غلافها بفعل هواء المساء.
حين اقتربت منهما؛ لم يتعرف علي الرجل الذي تحدثت إليه منذ دقائق لاتزيد عن العشر؛ سألني إن كنت أرتدي ساعة جيب؛ أخذ ينظر في دهشة إلى وجهي؛ سألني إن كنت أسكن قريبا من سوق الغلال؛ أجبته:
إنني ابن الرجل الذي أعطاه قطعة الحلوى!
لم يعد يتذكره؛
في تعجب يسألني: أي رجل ذلك الذى يستطيع أن يهب رجلا بلا ذاكرة قطعة حلوى محشوة بالبندق والعسل ؛ لقد مضى زمن أولياء الله
أجبته.
يمتلك فراسة قل أن توجد!
أمسك بي؛ تملكني شعور بالخوف؛ ربما يعلو صوته طالبا النجدة؛ توسلت إليه أن يدعني في حالي؛ أخرج ورقة مطوية، في صعوبة استطعت معرفة اسمه؛ إنه بلا بطاقة هوية؛ يتحرك في كل مكان؛ أخبرني بأنه من أهل الطريق!
يرتدي عمامة خضراء؛ تتدلى من رقبته مسبحة كبيرة؛ في لمحة البصر اختفى؛ بحثت عنه؛ لقد كان طيف أبي!
لكن أبي كان يمتلك ذاكرة حديدية؛ يحفظ الأحداث بتفاصيلها؛ يستدعي عالمه كلما جد أمر ما؛ تبقت منه حكايات لما تكتمل؛ ربما حين يكون القمر بدرا تحلو منه الدعابة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى