عبدالرحيم التدلاوي - عن الدهشة في أعمال محمد الشايب، ومحمد لغويبي، وعبد اللطيف النيلة، وأحمد بلقاسم القصصية: الجزء الثالث

الجزء الثالث:


القاص البارع هو الذي يحقق الدهشة، ويشبه في فعله الساحر الذي يبهر العيون ويطلق صرخات الإعجاب بعيون مفتوحة وأفواه على شكل O أجنبية. إنه الساحر الذي يأتي باللامتوقع، والمبهر والمثير للحيرة والتعجب.
فقد تأتي الدهشة من تعدد الطرق. التي وضعنا فيها القاص البارع سيدي أحمد بوزفور في مجموعته "إني رايتكما معا" حيث تطفو على سطح الوعي حيرة الاختيار بين المسالك. فكل مسلك اختبار واحتمال قد يفضي إلى مسالك أخرى تشكل دوامة الضياع..
وقد يكون مأتى الدهشة من رسم شخصية تتوغل في الأعماق وتسكنها كما هو حال شخصية السكابندو التي رسمت بمهارة بريشة البارع بنصابر.
وإذا كانت الدهشة في "إني رأيتكما معا" تنبع من تفرع المسالك علي احتمالات عدة قد تستضمر مسالك جديدة بدورها تفضي إلى أخرى؛ فعند الشايب قد تؤدي الشوارع إلي الخيبة؛ خيبة العثور على الحرية. وتلك دهشتها.
أما في مجموعته "هيهات" فتتبدى الدهشة ن مسعى العمل إلى تذويب الحدود بين الأجناس:
فنص "فاكهة الممشى" يعد مناورة سردية تحمل في طياتها أكثر من بعد ، فهو كما النص الأول، وغيره من النصوص، يستحضر الشعر كمكون أساس في البناء القصصي، وعنصر مهم في معمارية النصوص، ساعيا بهذا المنحى إلى تذويب الحدود بين أكثر من جنس حد التماهي، والمزاوجة بين الشعر والنثر كان ضرورة حيوية لإغناء القص، وجعله منفتحا على أكثر من معنى، فقد شكل التناغم بينهما سمفونية بارعة العزف وعلى أكثر من وتر وآلة. يقول الناقد حمد ركاطة: فلا يمكن اقتفاء المعنى دون العبور عبر جسر الشعر الوامض ، المليء بدلالات رابطة بين أنفاس مستقطعة ، بحثا عن حقيقة غائبة ، ستبرز إلى الوجود أن الشيخ المفعم بالوهن ، والذي ظل يسير رفقة السارد بحثا عن فاكهة الممشى، لم يكن سوى السارد نفسه ، وتقنية القرين هذه ستخلق انبهارا سرديا من مشاهداته في مدينة رفضت أن ترحل عنه ، وهو يسوق مشاهداته وينقل تفاصيل عيش سكانها بهدوئها الصباحي، وصخبها المسائي . لكونها لا تريد أن تطلق صراخه وهو القادم إليها عبر النهر ، والدهشة ، والحزن، يردد كلاما مبهما فأصبح مندهشا من وضعها " قلت وقال وقالت قلنا جميعا ..لماذا هي المدينة هكذا ؟ " ص 19
ويقول عبيد لبروزيين عن المجموعة: “هيهات” مجموعة قصصية حافلة بالانفعالات المتناقضة (الغضب والحب والحزن والشفقة…)، وهي تضطلع بدور أساس في بناء عوالم النصوص القصصية، وقد استطاع محمد الشاب أن يروض جموحها تعبيرا رائقا ولغة شعرية جميلة وبناء متماسكا… إنها مجموعة قصصية مستفزة جدا.
والدهشة عند أحمد بلقاسم تأتي من براعة الحوار وتشكيل المشاهد الممهورة بالسخرية الطافحة والنقد اللاذع.
يرصد القاص القضايا الاجتماعية بسخرية لاذعة تثير الانتباه والدهشة،كما انه يستخدم لغة مكثّفة ودقيقة وخالية تماما من أالشحوم والزوائد، لدرجة يصعب إزالة مفردة من مفرداتها لأن ذلك سيخل بمعمار القصص ويندر بسقوطها، وتتجلى اللغة، وصفا وحوارا، وفي أكثر من قصة بوصفها العنصر الأكثر حضورا وإدهاشا. فاأحمد بلقاسم يبدو جادا في لغته التي تنحو نحو البساطة المعبرة، وبأسلوب مبدع ذي بصمة خاصة، تغني رصيده ورصيد القصة المغربية القصيرة.
ففي مجموعته "محض خيال"، قلت:
لعل ما يشد انتباه قارئ المجموعة أنها تقوم على ثلاثة عناصر أساسية تعضد السرد وتسير به إلى منتهى النقد اللاسع؛ تلك الأقانيم هي: السخرية كبلاغة، والتناص، وبخاصة مع القرآن، كتوليد، والحوار كعنصر بان من عناصر الكتابة القصصية. هذا العنصر الذي يعبر غالبة النصوص، وقد بني بطريقة فنية تقود إلى الغاية منه. بطريقة حجاجية تبغي الإقناع؛ إقناع المحاور ومن ورائه القارئ.
كل تلك العناصر، إضافة إلى الحكائية والسرد الناظم لها جميعا، جعلت من القصص كبسولات سريعة الهضم قوية المفعول، تجعل قارئها يطرح تساؤلاته وهو يسعى إلى الإجابة عن أسئلة النصوص، في حوار خلاق. إذ لا تترك القصص متسعا لسلبية القارئ، بل تورطه في أسئلتها، وتحثه على توليد أسئلته الخاصة وهو يحاورها.
أما عن عبد اللطيف النيلة في قصصه المدهشة، فيقول عنه عبد الله المتقي في حوار أجراه معه:
فنان يطرّز نسيجا حكائيا بإبرة اللغة وخيط الخيال.* عاشق للحياة الإنسانية، لا يفتأ يلاحق صورها ويصغي إلى ذبذباتها، متفلسفا حولها بالاعتماد على الجزئيات والتفاصيل، التصوير والتشخيص، الإيحاء والتكثيف.* جَدّة العصور الحديثة التي تسرد لقرائها، بطريقة ذاتية جدا، قصة شائقة.. قصة تطير اللامبالاة عن أجفانهم، تضع أصابعهم على المفارقات والجراح والتمزقات، تسخر مما يشوه جمال الحياة، وتحرك في الأعماق الأسئلة.والزواج السعيد بين العمق والجمال، تجسيدا لنشاط تلك الجدة المطرّزة العاشقة المتفلسفة، هو ما يسمى القصة.
هذا التطريز المدهش، والخيال الفتان، يتجلى في كل مجاميعه القصصية، ومن جملتها: البيت الرمادي، وقبض الريح، وكتاب الأسرار.
وعن شخصيات "البيت الرمادي" التي تبعث على الدهشة، يقول رشيد برقان:
كل الشخصيات معطوبة تعاني مشاكل تواصلية، إما مع الجماعة، أو مع الدائرة المحيطة بها، كما نجد في قصة “الجرح” حيث يكمن الجرح في التوتر الذي يشوب علاقات أفراد المجموعة المقدمة التي أصر على عدم اعتبارها عائلة، لأنه لايعلم، بحكم مراقبته من بعيد، هل هم فعلا عائلة أم أشخاص مجتمعون. و التوتر في العلاقة التواصلية هو الذي نجده أيضا في قصة “كُلْها” حيث إن التوتر في العلاقة بين المشرف التربوي ومجموعة الأساتذة سوف يتم تصريفه من خلال عبارة “كُلْها” وامتداداتها.
في حين، نجد الدهشة لدى محمد لغويبي، وبخاصة في مجموعته "نصف العالم في كأس" تحضر من الغلاف إلى آخر قصة، وعن عتباتها المدهشة والمثيرة للإعجاب قلت:
ينهض العمل على الدهشة من أول رشفة إلى آخر جرعة في الكأس. فالغلاف بمختلف محمولاته يمنح العين جمالا ويثير في الذهن دهشة.
فالعنوان مثير للاستغراب، ومحفز على التساؤل، والرغبة في الاكتشاف، فكيف يمكن احتواء نصف العالم في كأس؟ كيف للصغير حجما أن يحتوي ما هو أكبر منه؟ هل التعبير حقيقي أم مجازي؟
والتجنيس مثير للاستغراب ومحفز على الغوص في القراءة للتزود بالمعرفة وإرواء عطشه. فلم طوارئ قصصية وليست نصوصا قصصية؟ لم اختار الناص كلمة طوارئ ذات الحمولة التحذيرية بدل قصص قصيرة المتعارف عليها؟ أهي رغبة في خلق الاختلاف والتميز، أم هي تحذير واجب وتنبيه ضروري للقارئ حتى يتعامل مع نصوص المجموعة بشكل مختلف كونها لا تسير على صراط ما سبقها؟
واللوحة مستفزة بجمعها بين السائل والصلب، وبجمال الألوان المشكلة لها. يغلب السائل على بقية عناصر اللوحة، فحتى الكأس التي تنتمي للصلب تصير بفضل الماء سائلة، كونها من ذات لونه. فرغم انتصابها، إلا أنها مغمورة القاعدة بالماء، وفي جوفها ماء، والأكيد أن الماء سيغلبها ويصيرها على شكلها. العنصر الصلب المتبقي هو جزء من شكل كروي يشير إلى الكرة الأرضية المغمور ثلثاها بالماء، ليضل الباقي ظاهرا على السح ومهدد بالغرق.
هل الصورة أبوكاليبسية؟ هل تنذر بغرق قادم؟ هل هناك خطر ما يتهدد الأرض؟
تحفز الناظر على التأكيد بأن النهاية اعتمادا على الأحمر القاني المرتبط بالغروب؛ هذا اللون يحمله على هذا الاعتقاد أو هذا التصور، لكن الأزرق المتدرج في قوة لونه يمنح فرصة التخفف من هذا الجحيم، ليصنع بارقة أمل منعش للحياة لاسيما وأن الماء يحمل معنيين متعارضين؛ معنى الإغراق، ومعنى الحياة.
هذه المجموعة التي استثمرت مجموعة من القنيات في تشييد معمارها الفني، ومنها: التشظية، والعجائبي، والميتاسرد.






النيلة.jpg الشايب.jpg أحمد.jpg لغويبي.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى