يبدو أن شتاء هذا العام يحمل في تجاويفه حالة من الخوف المسكون برغبة في الانزواء بعيدا عن المحيطين بي، بحثت عن الثياب المخزنة لهذا البرد القارس، أمعنت في خزانة الأشياء المكدسة فقد تعودنا على هذا كثيرا؛ نرتق القديم ونضع عليه بصمة اليد التي تدل على أنه شذب وصار يصلح لعام آخر، وكلما مر فصل تحملنا العنت فنحن نعتاش على مئات من الجنيهات لا تكفي لغير الطعام المقنن والنفقة المحددة سلفا، ليس بها بند لملابس الشتاء، كثيرا ما كانت أمي تقول: الشتاء يرضى بالقديم.
ثم صارت تلك عادتي؛ ألا أتطلب جديدا حتى ولو كان مما يهفو إليه القلب، تراني مثل بالونة منطاد فقد تراكمت طيات الملابس بعضها فوق بعض، إذا أخرجت يدي بان كم أنا نحيف!
انسحبت في هذا اليوم إلى الحجرة المتوارية عن الجيران هي أشبه بقبو نختزن فيه العاديات، وها أمسيت واحدا منها، حمدت الله أن لدي يسمح لي بالتخفي ولو ساعة من نهار شديد البرودة، الناس في بلادي انطوت على نفسها، فالجميع بدأ يلوك حكايات الزمن الجميل، بحثت عن ملامح له، أحاول أن أكون مثلهم، أليس من حقي أن أنعم بلحظة من خيال يسرح بي بعيدا؟
سمعت صوتها، بل ترآت لي في يقظة ذلك النهار المشبع برذاذ المطر، تلك حالة أنتشى بها، دارت بي الذاكرة، اللعب في الشوارع حيث نغوص في بحيرات الماء المغطى بكومة من كرات الثلج البلورية، نمرح ونظل نلهو حتى إذا بلغ بنا الجهد مبلغه تسللنا إلى حجرة الفرن الذي لا تخمد ناره لنستدفيء، لا يمنع أن نحشو بطوننا ببضعة أصابع من حبات البطاطا الشهية.
رجعت بي الأيام إلى صفائها المغادر دون انتظار، حاولت أن أستعيد كل الأحداث الصغيرة، إنها تبقى شاخصة مثل الصور المعلقة لذلك الصنم الذي جثم فوق كواهلنا ثلاثين عاما ثم التمس بقية وقت ليجهز علينا، انتابتني سخرية مرة، أحقا كان يهزء أم كان صادقا؟
عله يريد أن يستل براءة طفولتي المختزنة مع ثيابي العتيقة.
على كل أمسكت بسترة من الصوف كانت أمي تضعها فوق أجسادنا حين تشتد برودة الشتاء، بحثت بين الأشياء المكدسة، وجدت المجمرة الحديدية يا لعبق الماضي؛ هنا كانت تعد لنا أكوابا من اللبن ممزوجة بالسحلب وحبات الفول السوداني، ثم ينساب أثير البرنامج العام يحمل صوت الشاعر فاروق شوشة في برنامجه الذي يشدو بروائع النغم العربي، وإذا ما انتهى كان لقيثارة السماء الشيخ عبد الباسط تجوال وتجوال، وزخات المطر لا تتوقف أصداؤها على نافذتنا، بل وربما تسلل الماء إلى وسط البيت الطيني.
في هذه اللحظة بدا لي أن أطالع صورتي في المرآة؛ لقد تحولت إلى كائن خرافي، تغيرت ملامحي بل تعدى ذلك إلى آرائي، نظرت حولى فإذا تلك الخيالات صارت محرمة بل ينص المنشور الموزع صباح اليوم؛ كل من تذكر أحلامه فهو تحت سلطة القانون!
في المرة القادمة سيأتي الشتاء، لكنه لن يجد أمي ولا تلك الطيات المكدسة من ثيابنا؛ سيكون علينا أن نتخلص منها، فصاحب المراسيم لن تفوته الحيلة لطلب مزيد من الجباية، ابتسمت في مرارة؛ لن ننعم بعبق الماضي أبضا، سنكتفي بشعارات كاذبة.
ثم صارت تلك عادتي؛ ألا أتطلب جديدا حتى ولو كان مما يهفو إليه القلب، تراني مثل بالونة منطاد فقد تراكمت طيات الملابس بعضها فوق بعض، إذا أخرجت يدي بان كم أنا نحيف!
انسحبت في هذا اليوم إلى الحجرة المتوارية عن الجيران هي أشبه بقبو نختزن فيه العاديات، وها أمسيت واحدا منها، حمدت الله أن لدي يسمح لي بالتخفي ولو ساعة من نهار شديد البرودة، الناس في بلادي انطوت على نفسها، فالجميع بدأ يلوك حكايات الزمن الجميل، بحثت عن ملامح له، أحاول أن أكون مثلهم، أليس من حقي أن أنعم بلحظة من خيال يسرح بي بعيدا؟
سمعت صوتها، بل ترآت لي في يقظة ذلك النهار المشبع برذاذ المطر، تلك حالة أنتشى بها، دارت بي الذاكرة، اللعب في الشوارع حيث نغوص في بحيرات الماء المغطى بكومة من كرات الثلج البلورية، نمرح ونظل نلهو حتى إذا بلغ بنا الجهد مبلغه تسللنا إلى حجرة الفرن الذي لا تخمد ناره لنستدفيء، لا يمنع أن نحشو بطوننا ببضعة أصابع من حبات البطاطا الشهية.
رجعت بي الأيام إلى صفائها المغادر دون انتظار، حاولت أن أستعيد كل الأحداث الصغيرة، إنها تبقى شاخصة مثل الصور المعلقة لذلك الصنم الذي جثم فوق كواهلنا ثلاثين عاما ثم التمس بقية وقت ليجهز علينا، انتابتني سخرية مرة، أحقا كان يهزء أم كان صادقا؟
عله يريد أن يستل براءة طفولتي المختزنة مع ثيابي العتيقة.
على كل أمسكت بسترة من الصوف كانت أمي تضعها فوق أجسادنا حين تشتد برودة الشتاء، بحثت بين الأشياء المكدسة، وجدت المجمرة الحديدية يا لعبق الماضي؛ هنا كانت تعد لنا أكوابا من اللبن ممزوجة بالسحلب وحبات الفول السوداني، ثم ينساب أثير البرنامج العام يحمل صوت الشاعر فاروق شوشة في برنامجه الذي يشدو بروائع النغم العربي، وإذا ما انتهى كان لقيثارة السماء الشيخ عبد الباسط تجوال وتجوال، وزخات المطر لا تتوقف أصداؤها على نافذتنا، بل وربما تسلل الماء إلى وسط البيت الطيني.
في هذه اللحظة بدا لي أن أطالع صورتي في المرآة؛ لقد تحولت إلى كائن خرافي، تغيرت ملامحي بل تعدى ذلك إلى آرائي، نظرت حولى فإذا تلك الخيالات صارت محرمة بل ينص المنشور الموزع صباح اليوم؛ كل من تذكر أحلامه فهو تحت سلطة القانون!
في المرة القادمة سيأتي الشتاء، لكنه لن يجد أمي ولا تلك الطيات المكدسة من ثيابنا؛ سيكون علينا أن نتخلص منها، فصاحب المراسيم لن تفوته الحيلة لطلب مزيد من الجباية، ابتسمت في مرارة؛ لن ننعم بعبق الماضي أبضا، سنكتفي بشعارات كاذبة.