د. سيد شعبان - الشهبانو..

حان أوان كشف السر الذي حاولت تكتمه؛ فقدت ذاكرتي أسبوعا كاملا؛ لم تجد محاولات أمي نفعا، بكاؤها استمر ليل نهار؛ تندب ولدها، حين يدهم الداء الصغار فالأمهات قلوبهن تصاب بالحسرة، أخذت- كما قالت لي اليوم- تعيد على مسامعي بأنني ذو لقب مبارك، يحلو لها أن تدعوني المصبح، لم تنم منذ دخلت السرداب القهري، تراني المهدي الذي مل أوبته أهل الطريق، ركب حماره ودلف إلى شق بأرض سامراء، ومن يومها وكل ولي له في جوف الثرى مقام، احتار الناس أي موضع حلا للحسين أن يسكنه؟
أهو في كربلاء أم في دمشق وهل تراه طار حتى استقر في المحروسة؟
ومن يومها والدم يقطر في كل آونة والأتباع لا يكفون عن لثم العتبة المقدسة أو الخضراء، فكل العواصم صارت عتبات ترفع راية السواد، أي رجل أنا؟
أحلم بفرح وذلك العرش الإمبراطوري؛ خيبة الله على الملالي حرموني من وجه كالقمر؛ أن أكون الشاه ومن ثم أختال طاووسا وجواري الشهبانو تعطر الأماكن بأريج فاتن.
لا حكايات لدي أسردها لكم، ملأت دفتري بقصاصات مما تخايل أمامي، رجال لهم لحى طويلة، شعورهم أشبه بحبال تمتد عبر بوابة المدينة، عند باب زويلة يقف المتولي، يضع خاتمه على وجهي، يعرف كل من يسكن المحروسة، يقولون إنه يرسل وراء الأغراب كلاب الصيد القادمة من جبال القوقاز، أكثر شراسة تفترس كل من يخطو جهة بوابة المتولي، لم تعد ثمة أمكنة نسكنها حتى تأنس بها أرواحنا.
تدب في رغبة محمومة، أشتهي بنتا حلوة تتهادى قمرا، أجري وراءها فتنعطف جهة السويقة، يوما رأيتها شجر الدر، يطوف المماليك حارات المحروسة، يهتفون بي المقدم ألف وجدت في قصاصة مما احتوته خزانة القلعة أن أبا الدهب كشف حيلة علي بك الذي لم يكن غير قناع للقيصر، جدي من نسل أيوب، ربما!
أو لعله أحد عابري الأرض المباركة؛ التي تفيض عسلا ولبنا، فيها كل ماسألوا ربهم، تنتصب الحراب في درب الجماميز، تلطم الريح الجبال فيرتد صداها يهز الوادي الأيمن، ألف طريق تسده متاهة لا نهاية لها.
تهزأ بي الفتاة، فوج وراء آخر، سنابك الخيل تلطم خد الميدان، أزهو بلقبي الذي دعتني به أمي، تنادي علي، أعاود الغياب في بحر النسيان.
رفعوني فوق جواد أبيض، يدوي الهتاف من خلفي، مقدم ألف، من بعيد حيث البراري التي يأكل الذئب فيها الأغنام الضالة، يخور عجل السامري تحت لهب سوط الفرعون، أتسلل من ذاتي، أراني زعيما ينادى به لتلك الجموع الهادرة، تحوطني أضواء ليل زاعق، ألقي بجسدي وسط كومة لحم بشري، أرفع إصبعي بعلامة النصر، من هناك قرب العتبة الخضراء تدافعت الجموع، ثوبي ممزق، خاصرتي أشبه بملاءة سرحت في أجزائها فئران البر.
فتاة يتراقص شعرها الذهبي، تأتيني أمي في ثنايا الحلم المختبيء وراء تلال الزمن الباهت.
في أسبوع جرت أحداث غريبة، قط صار ليثا،بقرة تضخمت حتى ابتلعت فيلا، عصفور يجري كما غزالة برية.
كل هذه أشياء لم أعد أتذكرها، أمي تهزني كل يوم من تلك الأيام السبعة، عند منتصف الليلة الأخيرة وضعت خرزة زرقاء في خيط ومن ثم ربطتني في حجرة كبيرة عند مدخل بيتنا القديم. ارتديت العباءة الخضراء، حملت جريدة من نخلتنا العجوز، هذا أوان الربيع، تسري الحياة في الأغصان التي خلعت ثوب الشتاء، أغيب عن عالم الموت وأعاود الحياة، أشتهي لحما يثمل في زوايا العتمة، أهم بما أفعل، يزجرني عند مقام الحسين شيخ لوجهه نور.
أتناوم حين تطوف بي خيالات الميدان المترامي وراء الأفق، يخطر بي الجواد، أزهو بسيفي المعطر بأريج الأولياء، هتاف يدوي في أذني: أبو عبد الله الحسين يرتوي بماء النيل، لم يمت بعد، طير أخضر يتبعه، ألوف ينهلون من راحتيه، تساقط السماء المن والسلوى، لله في كل زمن معجزة؛ هذا موعدها المرتقب، تزغرد نسوة في أنحاء المحروسة.
وللعيد في تلك البلاد وجه واحد، قباب تتزين ومآذن بالتكبير تصدح، مولانا يتعطف بأرغفة خبز محشوة بلحم شهي، مرق يسري شفاء في معي مصابة بالجفاف، تلمع في مطلع الشمس وجوه الصبايا، أعود محملا بأعواد البخور الهندي، إبل مثل جبال الحجاز، تحمل التمر يبرق ومضا.
يعدو بي الجواد الأشهب حيث مقام سيدي الرفاعي، وللملوك مقامات في بيت الله، يغمزني الشاة ساخرا: من جاء بلا صولجان فهو عار ولو هتفت به الحرافيش مخلصا، تزهو فرح ديبا في قبرها الرخامي، كم كان يحلو للطاووس الرقص في بلاط بهلوي!
تخذلني تلك الحناجر المدوية، غيلان على جانبي الطريق، تبتلع الأرض جوادي الذي فقد عروبته على مذبح العار يوم تراقصت سالومي في جوف البيت عارية، قاتل الله شيوخ الفتنة حيث كانوا أو خانوا.
تابعت المسير وحدي، القلعة يلفها ضباب من ورائه سحاب، سكنها جن أحكم غلق الأبواب بألف رتاج.
مملوك يقفز هاربا، سيوف تقطر دما، أرتجف يبلل العرق جسدي، تحوطني أمي، تعيذني بالله من آية الكرسي!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى