إبراهيم عبدالقادر المازني - ابن البلد.. قصة قصيرة

لا يعرف ابن البلد الحب ولا يحسن أن يعشق، والجمال عنده يوزنه أرطالاً أو قناطير، والمرأة مخلوق يداعب ويغازل ويجمش إلى آخر ذلك، وليست إنساناً يبادلك العواطف ويعاونك فى الحياة ويقاسمك متعها ومتاعبها ويؤدى مثلك وظيفته التى خلق لها.

البلد: القاهرة أو مصر كما كانت، وكما لا تزال تسمى هذه العاصمة أو طائفة من الأحياء هى الواقعة بين العباسية والسيدة زينب، وأبتها شخصية شاع فيها الفناء علوا وسفلا وعفت عليها المدنية فلا يكاد المرء يلتقى بها فى هذا العصر، وما أسرع ما تداعت الأسوار وطغى عباب الحياة! قبل عشرين سنة فقط كنت ترى ابن البلد هذا «مستفيضا» وتلقاه فى حيثما تكون ولا تخطئه عينك وهى تدور بلحظها، فهو رجل دنياه مصر أو تلك الأحياء القديمة منها، لا يعرف غيرها ولا يكاد يدرى أن فوق ظهر الأرض سواها، وهبه يدرى فما أقل ما يعبأ بذلك أو يحفله، والزمن عنده اللحظة التى يكون فيها، وهو ذكى إلا أنه جاهل، وظريف سوى أنه مغرور، وحىّ ولكنه لا يحيا إلا بحراسة، تدور الدنيا حوله على محورها أو على قرن الثور الذى يحملها ويدور رأسه معها ولكنه لا يعرف ولا يرى شيئا ولا يسأل عن شىء ولا يكترث لشىء ويحتقر الريف لأنه يجهله، ويزدرى المدنية لأنه لم يألفها، ويعتز بنفسه ويستضخم أمرها؛ لأنه سهر الليالى وأحياها بالغناء والشراب والعربدة وهو مثال الرضا عن النفس والجود الذى يخلفه هذا الرضا وإذا كان يرى كل شىء من قريب فما من شىء يدعوه إلى العجب أو يبتعث الرغبة فى الاستطلاع وكل إحساس له يصل إليه عن طريق الفكاهة، وأشد ما يبغض أن يضطر إلى الجلد والوقار، وليس فى نفسه محل للاعتراف بالجميل، والأمر عنده مجاملة متبادلة أو حق له أن يجيبه وعليك أن تؤديه، هو المثل الأعلى لنفسه أو لعله جار سابع أو ثامن فليس لغير نفسه احترام ولا مطمح له إلا أن يظل قادرا على التحفظ بمظهره، فلا عناية له بالسياسة أو شئون الحكم، وبحسبه من العلم بالحكومة ومهماتها أن يرى مواكب رجالاتها، ومن التطلع إليها أن يتصور نفسه راكبا مركبة المحافظ أو أن يكون ممن يحظون بالدخول على «رياض باشا»، يفتح عينه على الدنيا كل يوم قبيل الظهر، فتنحى الستائر عن النوافذ ويؤذن لنور النهار أن يدخل، وبعد أن يقضى ما يشاء من الساعات التى تأبى إلا أن تكر فى التمطى والتثاؤب وتناول الطعام والقهوة المرة مذابا فيها العنبر، يقوم إلى ثيابه فيتنتقى منها جبة وقفطانا منسجمين متجاوبين ثم يلف العمامة ولفها مهمة شاقة قد يستغرق بقية النهار إلى العصر ثم ينزل إلى المنظرة ويتلبث بها ريثما يشرب القهوة ويشد أعصابه ثم يخرج إلى دكان بدال أو حلاق أو عطار أو غير هؤلاء، ويتوافى الرفاق وتروى أنباء السهرات. ويسأل السائلون عن «عبده» أو «عثمان» أين يغنى الليلة؟ ويتفق الإخوان على مكان يجتمعون فيه وشراب يجلسون إليه. ثم يتحاملون بعد أن يقضوا وطرا من النهار إلى المغنى ولعلهم غير مدعوين فيظلون. إلى طلوع الشمس فى آهات صاخبة وضوضاء ترجع ما بقى من الرأس وتزلزل الكيان.

ومجالس أبناء البلد نكات خشنة وضحك مقرقع. وأعذب ما يكون طعم الحياة فى أفواههم حين يركبون صاحبا لهم بدعاية عملية. أعرف واحدا من أظرف أبناء البلد وأكرمهم وأرقهم حاشية لا يرضى عن نفسه إلا إذا استطاع أن يوقع واحدا ممن يسهل التماجن عليهم فى مأزق أو يزج به فى ورطة. وكان يستثقل ظل واحد من حراس المقابر. وكان هذا لا يفتأ يغشى مجلسه وينغص عليه لذاته البريئة بتذكيره بالموت وإحضاره إلى ذهنه. فأراد أن ينفيه عن هذا المجلس فأوعز إلى خادم فاستأجر هذا مكاريا وبعثه برسالة إلى صاحبنا الحارس مكتوبة على لسان تاجر معروف، والدته مريضة يدعوه فيها إلى الحضور إليه بأسرع ما يستطيع للاتفاق على بناء مقبرة، فجاء المكارى إلى الحارس بالرسالة ففضها فتهلل وجهه وراح يحسب الربح المنتظر من وراء هذه «المقاولة» فلم يصرف المكارى بل ركب الحمار ومضى إلى التاجر ودخل عليه وحياه ودار بينهما حديث:

الحارس: إن شاء الله تكون الوالدة بخير.

التاجر: بخير بارك الله فيك.

الحارس: هل هى مريضة جدّا؟

التاجر: نعم ولكن الله المسئول أن يخفف عنها ويلطف بها الحارس: إن شاء الله. لقد بعثت لى حضرتك برسالة وقد جئت حسب أمرك.

التاجر: (مستغربا) رسالة لماذا؟

الحارس: نعم ألست حضرتك فلانا؟

التاجر: هو بعينه.

الحارس: إذن الرسالة منك.

التاجر: ولكن.. هل تسمح لى بمعرفة اسمك؟

الحارس: آه! يظهر أن حضرتك لم تعرفنى، ولهذا تستغرب أن تكون قد بعثت إلى برسالة. أنا فلان.

التاجر: أرجو.. أن تزيدنى بيانا فلست أذكرك ولا مؤاخذة الحارس هذا غريب!

ورأى أن يحل الإشكال ويحسم الخلاف بتقديم الرسالة التى تلقاها. وتصور موقف الرجلين حين فض الرجل الخطاب واطلع على هذه (البشرى) فى الصباح الباكر.

ومن نوادر صاحبنا أنه وصف مرة لبخيل طريقة لصنع (الكنافة) وأقنعه بتجربتها. وجاءنا البخيل بعد أيام وكان ذلك فى رمضان يشكو ويسخط ويلعن ويقول: «اشتريت أربعة أرطال من الكنافة، وناولتها امرأتى وقلت أعديها، وجئت بثلاثة أرطال من اللبن الحليب كما أوصانى اللعين خيبة الله عليه! وغلينا اللبن قبل المغرب بدقيقتين، وكانت (الكنافة) قد نضجت. فلما سمعنا مدفع المغرب صببنا اللبن عليها وأغرقناها فيه، وأقبلنا على الطعام نتناول منه بقدر لنترك مكانا (للكنافة) وإذا بها عجين لا يؤكل ولا يصلح لشىء إلا أن يرى الكلاب!!وهكذا ضاع على ما أنفقته فى الكنافة من السمن والسكر واللبن والزبيب والصنوبر والبندق والجوز واللوز وثمن الوقود، وضاع على سائر ألوان الطعام التى لم أكد أمسها ترقبا للكناقة. فماذا أدعو عليه؟

وابن البلد لا يعرف الريف ولا يصبر عليه، وإذا خرج إليه استغرب أن الطريق ليس غاصّا بالمساكن المتلاصقة، وأن الأشجار قائمة هنا وهناك، وأن الدنيا أرحب مما كان يظن، وأحس بالميل إلى الضحك، ولكن ثقته بنفسه تفارقه مع المدينة التى غادرها، ويرى نفسه بين الفلاحين غريبا ويسمعهم يتكلمون فيما لا يفهم، ولا يسعه إلا أن ينهز معهم بدلوه، ويخطئ عندهم سهراته ومجالسه، ويحتاج أن يغير عاداته وأن ينزل عنها وأن يحتمل الاضطراب الناشئ عن ذلك، ولا يحس فى الريف ذلك التعاطف القريب، ولا يفهم أن ينام على ظهر الفرن ومع النساء والأولاد والطيور والبهائم لأن له (مزاجا) والناس فى الريف أكثر ما يكونون بعداء بعضهم عن بعض، وهم يقضون أوقاتهم مبعثرين فى الحقول فليس فى مجالسهم ذلك الصقل ولا تلك النعومة التى تكون لمجالس أهل المدن، فهى لا تخلو من جفوة طبيعية وتكلف محسوس وصخب مرجعه إلى اعتياد أهل الريف أن يتخاطبوا بأصوات عالية لبعد المسافات بينهم، وقلما يشعر الحضرى بحرارة الترحيب إلا حيث يكون قدوم الغريب «حادثة» يندر أن تتكرر، فيتدفق الكرم المحبوس إذا لم يكن له مجال! ولظهوره فرصة كبيرة فيقبل الناس عليه ويفرحون به إقبالهم على التحفة النادرة أو المنظر الذى لا يجود به الزمن مرارا وهكذا كان الحال قبل أن توثق المدنية ما بين القرية والمدينة من الروابط، وتسهل عليهما الاتصال والتبادل والتفاهم والتقارب.

وابن البلد قد يكون أديبا أو فنانا إذا كان قد جاور فى الأزهر فى صدر شبابه، وأدبه البيت أو البيتان من الشعر يضمنهما نكتة لفظية أو معنوية، يداعب بهما صديقا، وأكثر ما يكون نظمه للأزجال والمواليات، وربما نظم التوشيح ودفع به إلى ملحن أو مغن، وهو لا يحفظ من الشعر إلا ابن الفارض ومن إليه، وإذا كان فنانا فهو من هواة (العود) على الأخص، تبتدئ وتنتهى دنياه بالشراب والسماع والوجه الحسن، وفيما عدا ذلك لا وجود للدنيا.

ولا يعرف ابن البلد الحب ولا يحسن أن يعشق، والجمال عنده يوزنه أرطالا أو قناطير، والمرأة مخلوق يداعب ويغازل ويجمش إلى آخر ذلك، وليست إنسانا يبادلك العواطف ويعاونك فى الحياة ويقاسمك متعها ومتاعبها ويؤدى مثلك وظيفته التى خلق لها. وقد ترى ابن البلد عاشقا ولكنه عاشق بحواسه، لا يعرف صبوة النفس إلى النفس وحنة القلب للقلب.

وهو يجود فى غير كرم، ويمسك فى غير بخل، ويتكلم بغير علم. ويضحك بغير جدل. ويحتشم فى غير أدب. ويسير فى الدنيا غير محتفل. ويقضى الحياة غير عابئ بما كان أو مكترث لما يكون. همه أن يأكل وينام ويسر ويضحك. فالضحك وما يعين عليه من الشراب ومجالس الإخوان غرض يسعى إليه وغاية تعتمد. والحياة آخرها الموت. فما خير التعب فيها وإرهاق النفس بالعمل والطلب؟ أليس كل شىء إلى فناء؟ فما أولاه باغتنام الساعة التى يكون فيها وما أسخف من يعنون أنفسهم ويحرمونها لذاذات العيش ومتع الوجود؟ ألم تر إلى فلان الذى قضى عمره يجمع المال ويطلب المناصب ويريق ماء وجهه على الأعتاب ويقتر على نفسه ليغنى ويضيق على ذويه ليتسع؟.. ألم تر إليه كيف قضى نحبه وهو جالس على باب الحلاق؟ فماذا أجدى عليه تعبه وسعيه وتقتيره وحشده؟. إن فيه لعبرة لسواه. فهات الكأس وأصلح الأوتار، وأطلق صوتك بالغناء ينفى عن النفس وحشتها وتجل صداها وتنسها أن الحياة إلى انقضاء.

فابن البلد فلسفة عملية تجهل نسبها العريق فى الأبيقورية المشوهة، ولم يعف عليها الزمن حين عفى عليه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى