د. سيد شعبان - حكاية الزين!

تفر الكلمات من قلمي؛ تبدو الخيالات قمرا ينير في ليالي العتمة، نحسبها وميض القلب فنتحسسه، نمزج بين الأمل والألم في جديلة آسرة، كانت مثل فراشة تمعن في الحركة كلما همت بها يد، ابتعدنا كل في عالمه.
المسافات تقف حاجزا، يصعب على المرء أن يتجاوزها، مثل طيف يخدع العقل، يعمي البصر، الخيال يصنع الوهم؛
أمضى إلى زين رفيفي في تلك الأيام التي ارتحلت كما قطار الدلتا؛ أطلب مشورته؛ يداخله الزهو، يهز رأسه؛ يغمض عينه؛ ثم يتراقص طربا؛ هل أصابه مس شيطان النيل؛ بعضنا يظنه عشق جنية البحر؛ يحمر وجهه؛ يمعن في صمته ثم بعد!
يلقي بنفسه في النهر، نتجمع حوله؛ يسبح بعيدا يقارب الضفة الأخرى حتى يصل شاطيء أم حكيم؛ يخرج- وما ابتل ثوبه يقول لنا هذا- يددندن بمواله، يحدثها وتحكي له؛ ثم يعود وقد أشعل في قلوبنا جمرة لاتنطفيء.
يقسم واحد منا بأنه بهلول يخادعنا؛ آخر يراه مجذوبا؛ أما أنا فأعلم أنه مجتون بذلك الداء الخفي!
هل هو الزين يبحث عن العرس، مات الطيب صالح ولم يعهد إلي بوصيته أن أكمل سرده؛ خاف أن أدلس عليه؛ أن أبوح بسر ضو البيت؛ أن يعقل مجذوبه.
شيء واحد لم يفعله زين؛ أن يكتب سيرته؛ يسرد تفاصيلها بكل دقة مؤكد أنه لن يخفي منها شيئا؛ يمتلك مخزونا يكفي ليسد جوعة الحالمين؛ يخاف أن يسلبه لص الزاوية حكاياته؛ ربما يعهد إلي- وقد أصابتني حرفة القلم- بأن أدون شوارده؛ ساعتها سأخبركم عن بعض مغامراته؛ ابنة الرجل الذي يجالسه ويتظاهر بالحديث عن الكرة وهو يتحين أن يحدثه حديثا آخر.
بعد خمسة وعشرين عاما التفت إلى الوراء سخرت من ذلك الفتى الذى كنته يوما!
أمزق ذاكرتي، فلا مكان لتلك الأحلام الموشاة بالزيف، كنت متعلقا بالوهم، حين استرجعت الساعات التى كنت أنتظرها عند باب القطار، ليتني أرحت نفسي وجلست في مقعدي،صدبقي "زين" من وسوس لنا بتلك الأماني الكذاب، كان يرى كل فتاة جديرة بقلبه، لقد وسعهن وجدا، رغم ضيق ذات اليد كان يلوك أبيات مجنون ليلى ،يتمثل نفسه جميل بن معمر، وأنا كنت تابعه،لم لا أكون مثله، الفضاء كان يحلو لنا ،بل حتى القمر على ضفة النيل نتبادل المواقف،نجتر السياسة ،نثرثر مثل أبطال نجيب محفوظ!
نروح في متاهة الفوضى الخلاقة، يسرقون أجمل سنوات العمر؛ تقزم الوطن حتى صار فرق كرة قدم؛ أحزاب كرتونية؛ أفلام ومشاهد نجترها في ليالي الشتاء الباردة.
يبتاعون أعضاءنا البشرية قطع غيار؛ نبادلها بتلك الدمى؛ نرتدي أصباغا ونتدثر بكل شيء؛ على أية حال هو سيرك كبير اعتدنا على السمع والطاعة.
تبادلنا المواقف، وتباينت رؤانا وهذا جعلنا أشبه بالضد حين يخلو بنفسه، الآن يحلو تذكرها، زين هذا كان ماكرا، يقتنص الحكايات فيتجمل بطيبة آسرة!
حين بحثت في أوراقي وجدت سطورا طواها النسيان،كم خدعتني كثيرا تلك الحماقات!
لم أعثر لها على عنوان، ربما تكون سافرت بعيدا،أو لعل القلوب ملت تلك الجراح!
أردت أن أخبرها بتلك الحكاية- ضربني النوم وفي الأحلام عوض للجوعى برغيف خبز وللمحبين بلقاء ناعم - ابتسمت في براءة الحمل، وهل تظن أنني لا أعرف بحكاياتك ؟
من أخبرك هذا؟
-أنت!
-أنا!
مثلك تجذبه الحكايات،يسافر وحيدا حيث أوراق الورد!
شعرت بأنني كنت أخفي حملا ثقيلا، وقد آن أن أتخفف منه،حاولت أن أتصل بزين؛ أخبره أن عمرنا قد ضاع سدى، ما نفعتنا تلك الثرثرة على ضفة النيل،أعلم أنه صار شيخا معمما، لكن به بعض رمق من حكايات الصبا؛ من هؤلاء الذين يمتلكون الدعابة الحلوة؛ تغلفه الطيبة وتحركه البساطة في تعامله مع الآخرين، لا تجده غير مبتسم؛ يمتلك قلب طفل؛ لكنه يحلق بخيال شاعر؛ رغم أننا نعتاش الفقر ونتجرع مرارة الأيام.
كلماته التي اختزنتها غادرت خيالاتي سريعا!
بقية من ملامح باهتة، بالفعل كنت ألوك السياسة متعلقا بوهم الذي ظن السراب ماء!
لقد استرقها ذلك المنتشي بالنجمتين على كتفه، مثل كل شيء جميل صار نهبا لهم.
ترى أي حق لهم في المقاعد والمناصب بل الجميلات؟
منذ فترة لم أسمع عنها خبرا، دهمها قطار النسيان، رحلت بعيدا حيث المكان الذي لا أوبة منه،بقيت أنتظر القطار المقابل،الشارة المرفوعة جانب رصيف رقم (٣) تخبرني أن القطار على وشك دخول المحطة، صعدت إليه جلست جوار النافذة،فجأة جاء!
تبادلنا التحية،منذ فترة لم نلتق، أخبرني أنه يوما ما كان ينسج من الوهم الحكايات،لم تكن له فتاة ،كان يحسن السرد، ولأنني أضعت سنوات عمري وراء حكايات لم تكتمل؛ أكل حكايتك كانت خيالا؟
- كنت مثل مهرج سيرك يسخر من آلامه؛ تعلقت منك بالوهم!
حتى تلك الثرثرة ما عادت تجدي؛ اغتال النسيان أجمل لحظات عمري!
ليته استمر!
أحاول الاتصال به؛ نمضى بعض الوقت؛ نستعيد رائحة الزمن الجميل؛ ترى كيف هو؟
من بعيد يتهادى؛ مايزال ذلك المختزن حكايات الصبا؛ يعرف أسرارها، يخفي لهيب جمر فؤاده وراء تبتله؛ أشاغب معه؛ أعرف مفتاح حكاياته؛ بيتها وقد كان النيل يشهد!
يروح في نوبة من سمر؛ يختال راقصا؛ يمسك بغابة من البوص؛ يناغم بمزماره؛ أسمع زفرات قلبه؛ مايزال العاشق الذي أمدنا بالحكايات، كانت خدرا.
نتلفت كل ناحية؛ إنهم صغارنا يتبعوننا؛ أخبره بأن الزمن سرقنا؛ انحنت ظهورنا.
يخبرني: ولكننا نختزن حكايات الصبا!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى