عبدالرحيم التدلاوي - الدهشة والجمال في قصص البشير الأزمي. الجزء ما قبل الأخير.

المصالحة مع الذات، والانتباه للقلب مسلكان يمنحان فرصة النجاة من التعفن أحياء، قراءة في:
بقايا رماد"
صدرت المجموعة القصصية "بقايا رماد" عن مطبعة الخليج العربي بتطوان في طبعة أولى 2022،
تقع المجموعة في 65 صفحة من القطع المتوسط، وتتضمن أربعة عشر نصاً؛
حزنٌ صامت، لا حياة لمن تنادي، حديثُ الصمت، بابُ اللّيل، بقايا نثار، سيرةُ حَيٍّ، وَحْلٌ ومناحةٌ، هي والظل، شفاهٌ وأفواه، بحثاً عن ذاتي، خميرةُ الحزن، سديم الذاكرة، اِرتياب ورملٌ وبحصٌ وحديدٌ.
**
يسعى القاص البشير الأزمي دائما في كتاباته إلى استثمار قراءاته الفلسفية وتوظيفها في تدبير شخصيات قصصه لذا تجده يشتغل بالأساس على الذاكرة ومحاولة قراءة الذات وفهمها من خلال النبش في بقايا ذاكرته من خلال استدعاء الأم والأب والجدة؛ هذه الذاكرة تعد عنصرا فاعلا في بنيته السردية.
المصالحة مع الذات:
يدعو آخر نص في المجموعة إلى المصالحة مع الذات لتجاوز الشرخ الذي تعرفه بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والوجودية حيث ينهض سؤال سبب ولادتنا.
وإذا كانت الذات الساردة هي المهيمنة علي كل مفاصل العمل لدرجة يمكن عده رواية بمشاهد متعددة تبحث عن جواب لحيرة الذات في هذا العالم؛ فإنها تلعب دور الإنسان الذي يعيش حالة من القلق الوجودي والعاطفي والاجتماعي وحيث يكون الأب مرة ضميرا أعلى يكبت أحلام الذات المتكلمة ويحول دون سعادتها ويكون مرات أبا غائبا في حضوره أو مجهولا. وكأن الذات تبغي التخلص منه لترى النور من خلال الظلمة.
فصورة الأب غالبا هي غير الصورة التي ينبغي أن يكون عليها رب الأسرة وصاحب دفة المركبة والممسك بها. يأتي مرة شهوانيا لا يبحث سوى عن اللذة حتى إنه صار معروفا من نساء القرية اللواتي بدأن يشتكين من غواياته: كلما مر من قرب منزلها، كما تحكي إحدى الجارات مشتكية، وكانت عند الباب يطيل التحديق في وجهها، ينظر إليها بشهوة ويفك سحابة سرواله، يدخل يده ويفرك أصبع أسفل البطن ويبتسم" ص 35. والأغرب أنه حين لا يحصل على مراده يقوم بإخصاء ثور من ثيرانه انتقاما، والثور رمز الفحولة والخصب.
وأخرى يقوم بوظيفة الحاجز الذي يمنع الابن من تحقيق ذاته، إذ ينغص عليه حتى حلمه؛ هذا الحلم الذي لا يرتبط بالمستقبل كبقية الأحلام، بل ينقذف في جوف الماضي لاستعادة صورة زوجته التي كانت تقطر جمالا وحلاوة؛ بعد أن صارت على غير الصورة التي كانت عليها بل صارت مناقضة لها تماما.
والملاحظ أن الابن، عديم الحركة، سيء الحظ،، ظل طيلة القصة تقريبا راقدا، يبحث عن حلمه الذي تكسر بحضور الأب. هذا الأب الذي ستضع الزوجة أحفاده بين يديه عساه يغير من سلوكه فيقدم للمجتمع أبناء فاعلين، لهم هويتهم، ولهم شخصيتهم المستقلة بعكس أبيهم السلبي.
كما يأتي الأب قاسيا يرغب في القتل الرمزي للذاكرة عبر تمني الموت للجدة خزان الماضي ومعمل إنتاج الحكايات، والحافظة للذاكرة والتاريخ.
فكيف نفهم الماضي إذا كانت الذاكرة غائبة؟ وكيف نفهم أنفسنا إذا كنا من دون ذاكرة؟
إن أهم بعد في تكوين شخصية الإنسان هو ذاكرته، فمن دونها يكون مسطحا، وفارغا: "لا عليك..هكذا هم أهل حيك، كلما أزهرت في قلبك بقايا ذكريات لتعيد لك الحياة من جديد..سعوا إلى أن تصبح طيفا من الماضي تمضغ الهزائم وتجتر الخيبات". ص 29.
فللذكريات دور مهم في بعث الحياة من جديد، أما الطيف فلا قيمة له لأنه عديم الحضور. ويقوم الناس بدور الإفشال، وصنع الهزائم. فهم لا يرغبون في الناجح، ولا يحبون النجاح للغير.
عن الحكي في المجموعة:
يكون الحكي مؤلما لأمرين؛ أولهما أن يكون موضوعه الألم نفسه؛ وثانيهما حين لا يروي القصص التي يعرفها الناس. فمهمة الخلق والإبداع ومن ثم الدهشة والإمتاع ليست بمقدور سوي قلة من المبدعين الذين يعرفون كيف يروضون الكلمات للتعبير عن تخييلهم المختلف؛ ونهجهم المغاير في الكتابة. ثم إن القصة تستحضر القارئ وتخاطبه مشركة إياه في بنائها معتمدة في لحظة ما العنعنة القصصية؛ فعن الشخصية تنتقل الحكاية إلى السارد المرافق له؛ لينقلها بدوره إلي قارئه الضمني ثم للقارئ الفعلي. لتنتهي بختمة جنائزية تحمل غلالة الغرابة والإدهاش.
في مجموعة "سفر تحت الجلد" نجد بعض إضاءة لهذا الجانب، خاصة فيما يتعلق بأثر الواقع في النفس؛ وعمى الناس وعيشهم في الظلام. ورغم أن مجموعة "بقايا رماد" تؤكد في استهلالها أن الكتابة ليست إعادة رسم الواقع لأن ذلك لن يفيدنا ولن يكون في هذه الحالة سوى تكرار لما نعرفه، لذا، نجدها تحث على إعادة كتابته. كما أن فعل الكتابة هو فعل تنوير، وبحث في الذاكرة عن جواب لسؤال الوجود؛ ومناهضة كل أشكال المحو والقمع والإسكات. ويكون في الوقت نفسه نذيرا ومحذرا: أعود إلى النافذة، أطل، الضباب يدنو من بعيد. ص 11. هذا الضباب الخطير الذي سيغمرنا ونتلاشى. وما الضباب إلا رمز للكارثة القادمة أو المحن المقبلة والمهددة للوجود بالمحق والمحو.
تيمات المجموعة:
يهيمن على العمل الحديث عن تشظي الذات الساردة .. وهيمنة تيمات الليل والحلم والموت والنافذة، والظل: من لا ظل له لا وجود له ص 13، والوحدة والانفصال والتقوقع حول الذات، وفقدان القدرة على التعبير والاحتجاج، بفعل الصمت الاضطراري، وبفعل غياب الجذور والانتماء، وحضور لافت لصورة الأب والأم والجدّة ، والعناية الفائقة بـتصوير الهواجس والكوابيس والأوهام بدل السرد التعاقبي القائم على الحبكة الحدثية المتنامية، والاستعانة بالإحالات الثقافية والتناصية، مع ترويض وتطويع اللغة القصصي، رشيد عاشق ..
وإذا كان للظل بروز في الكثير من القصص، فإن للتسلط، قرينه، أو مسببه، نصيب مهم في الإضمامة هو الآخر؛ حيث يحضر القمع وتكميم الأواه، وكسر الألسن، وإسكاتها.. فهل نزع الأفواه وهو فعل غرائبي بمثابة استعادة الابن حضوره المستلب، واكتسابه شخصيته المتفردة التي عملت قوى التسلط على مسخها؟ قد تكون القصة الأخيرة طريق عبور نحو قراءة تأويلية خاصة. فهي تلح علي التصالح مع الذات لتحقيق الانسجام.
وإذا كان العقاب غرائبيا، فإننا نجد هذه الغرائبية في قصة أخري حيث الأنف الذي يطول. وهي طريقة للتعبير عن الرفض، والسخرية من الواقع القاسي. ويتقوى البعد العجائبي باللغة الشعرية الراقية، فضلا عن القصيدة الشعرية التي تحضر في وسط أو في نهاية الكثير من القصص، مع توظيف يسير للمعجم المعتق.
. يتداخل في المجموعة الواقعي باللاّواقعي العقلاني باللاّعقلاني، قوامها اللعب، عبر الحلم والتخيُّل اللذين يهدّمان الواقع ويلغيان قواعده ويؤسّسان قواعد خاصة تـتجاوز الواقع الذي يصبح مجرد احتمال من الاحتمالات التي يخلقها الحلم واللعب واللغة. ففي الحلم يتم هدم مفهوم الواقع وهدم مفهوم الهوية، بتداخل الذَّوات، ويصبح الواقع موجودًا ولا موجودًا وتصير الشخصيات هي وليست هي. 1
**
**1_ شعرية اللعب، قراءة في مجموعة "ققنس" لأحمد بوزفور، محمد الساوري، ديوان العرب، بتاريخ 20 أبريل 2007.


1668344024785.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى