عبدالرحيم التدلاوي - ورقة نقدية حول ديوان "كحلم على ناصية الموج" للمبدعة سناء سقي.

من الغلاف الأمامي إلى الغلاف الخارجي للديوان، يظهر كما لو أننا أمام ألبوم لوحات، مشكل بريشة ذات رأسين، واحدة تلون بالكلمات، والثانية تلون بالفرشاة. وكأن سناء الشاعرة تكتب بكلتا يديها. مع ملاحظة كون لوحة الواجهة تستحوذ على الغلاف الأمامي بأكمله بل تفيض على الجانبين لتشكل إطارا لقصيدة تعلوها صورة المبدعة وتحت الصورة اسمها وصفتها. وتلك الصورة لا تخلو من جمال؛ فقد كانت اللقطة من زاوية معينة ذات بعد فني وجمالي ودلالي، وكأن المبدعة وهي تنظر إلى الجهة الأخرى، وهي في الطرف الأيمن من الإطار، في لحظة تأمل باسمة تستدرج نصا أو لوحة في طور التشكل، أو أنها تناجي ذلك الأفق البعيد الذي ترمي بعينيها إليه والموجود في الطرف الآخر، وخلفها وشاح رمادي؛ فالصورة بأكملها جاءت بالأبيض والأسود، مع ظهور باهت للرمادي.
واللافت للانتباه في ما يخص لوحة الغلاف أنها تبدو كما لو كانت في صراع مع قصيدة الغلاف الخلفي، فتمددها يفيد السعي إلى تطويقها برغبة ابتلاعها، في حين، تبدو القصيدة وكأنها تناضل من أجل فرض وجودها، بدفع اللوحة إلى الخلف، وإعادتها إلى مجراها الأساس، فالصراع ليس صراع وجود بل صراع حضور، أيهما يأخذ النصيب الأكبر، ويحوز أكثر الصفحات.
بيد أننا حين نعود إلى الغلاف الأمامي، سنلاحظ أمرين، أولهما أن اللغة قد انطبعت على صفحتها، مما يفيد تقبلها لها، وهذا البعد اللغوي قد تم تنظيمه وفق ترتيب معين ذي بعد قصصي، ففي رأس الصفحة نجد اسم المبدعة، وفي الوسط نجد العنوان، وكان أكبر حجما وحضورا، وفي الأسفل نجد التجنيس الذي يجمع الشعر والتشكيل كميثاق مبرم بين الكاتبة والقارئ. ويرب بينهما بحرف العطف الذي يفيد الترتيب لا الأسبقية؛ فإذا كانت كلمة الصدارة للشعر فإن التشكيل قد كان الختم، وبالتالي، فلا أفضلية جنس على آخر، فالتقديم إذ يفيد الزعامة، فإن الختم يفيد المسك؛ أي أنهما معا يحوزان صفات إيجابية تجعل التقديم والتأخير غير مرتبطين بالأفضلية.
فالعمل يخلق تناغما بين الحرف واللون، إذ بعد كل قصيدة تأتي اللوحة معضدة ومقوية للبعد الفني والجمالي لها؛ فهناك علاقة جدلية بينهما، كل طرف يخدم الطرف الثاني.
هذا التقسيم المكاني للجانب اللغوي على صفحة اللوحة هو ما نجده في بناء القصة ذات الرأس والوسط والخاتمة. ولا غرو أن نجد للقصة حضورا إن على مستوى المعجم وإن على مستوى حضور الفعل الدال على الحدث.
ولأن اللوحات التشكيلية لا يمكنني مقاربتها تاركا إياها لمن هو مختص، مع الإشارة، فقط، إلى أنها جميعا جاءت حافلة بالألوان باستثناء الأولى التي حملت في بدايتها البسملة، وما قبل الأخيرة التين جاءتا بالأبيض والأسود، وكأنها إشارة تنبيهية من الشاعرة إلى أن الشعر المكتوب بالحرف الأسود على رقعة الصفحة البيضاء هو نفسه الذي رسمته الفرشاة على القماش.
وما الألوان الظاهرة في بقية اللوحات ما هي إلا تلك الصور الشعرية التي تحملها النصوص اللغوية.
جدير بالملاحظة، والمجموعة تحتفي بالكتابة لدرجة جعلها شغلها الشاغل من خلال استثمار مفرداتها داخل المتن الشعري، أنها وظفت بعض تقنيات القصة وبخاصة الحذف والإضمار، معتمدة على نباهة القارئ في إكمال المعنى، وشد الفجوات، وملء بياضات النصوص. فالحذف إشارة إلى اللااكتمال واللاتحديد، واللاتعيين، لأن المعنى دوما منفلت، ويصعب القبض عليه، وحتى إذا ما تم ذلك فسيظل منقوصا لأن اكتماله رهين بتوفر قراءات متعددة ومن زوايا مختلفة.
وهذا تدخل عملية الكتابة في مجال المحو وإعادة البناء، فالمبدعة كتبت المنقوص، والقارئ سعى إلى محو المكتوب وإعادة كتابته في اكتماله الممكن والمحتمل.
تضعنا الشاعرة أمام قصائد تستضمر القول بالحاجة إلى الشعر كبلسم لجراحات الإنسان ومكابداته وكينبوع متدفق حياة، يرويٍ حقول أمله، وتعيد إلى نفسه الخضرة والاخضرار، ومنارة تدله على الطريق لتنقذه من ظلام وجوده. كما تؤكد في الآن نفسه على أهمية التشكيل في بناء الذوق وصناعة المعنى، والسير بالإنسان إلى آفاق جديدة عبر حثه على الإقدام على المغامرة للاكتشاف.
أعلام العمل:
تزخر المجموعة بوفرة نوعية على مستوى الأعلام (نيتشه، وديكارت، زهوسرل، والفارابي، والكندي، وإدغار موران، ودرويش، وأدونيس، وبول ريكور، وهوميروس، وسيزيف، فضلا عن يوسف، وذي النون..) وما يجسدونه من رمزية ذات حمولات تاريخية، وعقدية، ومعرفية، وإبداعية، وأسطورية. أعلام طبعوا منظومة حياتنا الحبلى بالمفارقات على العديد من المستويات. تجمع القصائد تلك الشخصيات رغم اختلاف مشاربها وانتماءاتها وتوجهاتها تحت مظلة التعبير المناسب الذي يستدعيها، لتصير الإضمامة إطارا للقاء الذوات والمرجعيات الفكرة والإبداعية، بما يجعلها، كما أشرا إلى ذلك حسن البقالي في تقديمه، محفلا للمتناصات، وموئلا للمحكيات على اختلاف مشاربها. فقد بدا الديوان فضاء لتعدد الحوارات وحقلا لتصادي الأصوات والأشكال التعبيرية.
التيمة المحورية، وأبعادها:
ولعل تيمة الكتابة عن الكتابة هي المحور الأساس للعمل الشعري والتشكيلي، فلا تخلو أية قصيدة من استحضار لون من ألوان التعبير المتعددة؛ وقد تستحضر أغلبها في طيات قصيدة واحدة كما هو الشأن في قصيدة "فيلسوف زمانه" التي حظيت بلوحتين.
ففي هذه القصيدة يتم استحضار الفيلسوف هوسرل بغاية إقامة حوار معه، كما يتم ذكر التشكيل من خلال مفرداته الأساسية، وهي: النور والظل واللون، وذكر الرسم بشكل صريح، إضافة إلى القصة عبر منفذين، وهما الفعل المرتبط بالحدث، والإشارة الصريحة لها: يشهد النور أن القصة هي التي تبقى وتظل..ص 33.
وتكثر في القصيدة مفردات هذه الألوان التعبيرية بما فيها النقد من خلال مفرداته كالسيمياء، والسارد الضمني، والحروف. فضلا عن الدراسات النفسية من خلال مفرداتها المهمة، وهي: الأنا والهو، في معرض حديث القصيدة عن الرغبات التي تطلب إشباعا بالرغم من انها ممنوعة، كتعاطي المخدرات لتنتشي الأفكار وتتشكل النصوص.
التناص:
ولا تكتفي القصيدة بهذه الرموز، بل تستدعي النص القرآني، مشتثمرة إياه في خلق نوع من الحوار بينها وبينه؛ فالنص المرحل يرتبط بقصة سيدنا يونس الذي ابتلعه الحوت، ومجموع ما تم استحضاره لم يكن من أجل إثقال كاهل النص بل جعله خصبا بانفتاحه على التأويل المتعدد. فالنص باستثماره لكل تلك الرموز والحقول ما كان يريد سوى تشييد عمارة نصية بطوابق دلالية كثيفة.
ولا يغرب عن بالنا النفحة الصوفية الحاضرة في الأسلوب: ولولا نور السؤال ما بدا الطريق.. ص 36.
والمجموعة توظف التناص باستدعائها لمقاطع من النص المؤسس إما بشكل صريح أو مضمر، ومن أمثلته: ما تركت في الجبل من نار..ص 17. السبع المثاني، وقميص يوسف، من يتهم الحوت أنه... ابتلع صاحب اليقطين ! ص29. ادخلوا مساكنكم ليحطمنكم.. ص30. قال: اكتب..
قال: ما أنا بكاتب..ص 69.
كما تستحضر الحديث النبوي:
عدو التي في نواصيها الخير.. ص 25.
واللافت للانتباه أن الشاعرة لم تكن تستحضر النص الغائب بحذافيره بل كانت تتصرف فيه وفق دفقة المعنى وما ترعب فيه من حديث، وما تود الإشارة إليه إيحاء. وهو استثمار منح القصائد عقا وثراء.
ولم يكن الغرض من استدعاء تلك الشخصيات باختلاف مشاربها ومواقفها سواء أكانت حقيقية أم خيالية، سوى إرفاد تعابيرها بطاقة ذات زخم يحقق لقصائدها ما تصبو إليه. وتحث القارئ على استنطاق دلالاتها وما تكتنزه من معاني.
ثم إن الشاعرة كانت بكل ذلك تعبر عن أحزانها الذاتية والجماعية وما تشعر به من ألم جراء القبح الذي يحيط بها، ولم تجد سوى ألوان التعابير من شعر وتشكيل وقص ورواية ونقد للبوح عما يعتريها لتحقق بها توازنها المفقود في عالم مختل.
وقد وظفت الشاعرة في ديوانها هذا الصور الشعرية والمجاز فضلا عن الطباق والجناس وكل التلوينات التعبيرية الجميلة، فجاء متفردا بألوانه، وثريا بدلالاته، وعميقا بمعانيه. وكان، كما قال حسن البقالي في تقديمه: إن الحلم على ناصية الموج قبل أن يكون دفقا إبداعيا بمظهرين متواشجين هو رؤية وجودية ونمط حياة لإنسانة مفتتنة بالبحر والنوارس، ومولعة بالفضاءات المفتوحة على قيم الحرية والخير والجمال.



1669287629197.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى